كتب: محمد بركات
مع بداية العام الإيراني الجديد، الذي بدأ يوم الجمعة 21 مارس/آذار 2025، تقف السياسة الخارجية الإيرانية على أعتاب مرحلة دقيقة وحاسمة في تاريخها الحديث، حيث تراكمت التحديات الإقليمية والدولية إلى درجة باتت معها كل خطوة دبلوماسية محسوبة بدقة، وكل قرار استراتيجي مشحونا بتداعيات عميقة على حاضر البلاد ومستقبله.
فبعدما صارت الساحة الدولية كغير سابق عهدها، لم يعد من الممكن التعامل مع الملفات الخارجية بالأساليب التقليدية، فالعالم من حول إيران يشهد تحولات متسارعة في موازين القوى، وتغيرات جذرية في أنماط التحالفات، ما يجعل من التكيف والاستباق سمتيْن ضروريتين لأي سياسة خارجية ناجحة.
في هذا المناخ المتقلب، بات الحفاظ على الاستقلال السياسي وتحصين السيادة الوطنية يتطلبان جهدا دبلوماسيا مضاعفا، وقدرة عالية على قراءة المشهد الدولي واستيعاب تعقيداته.
العقوبات واستحقاق قرار مجلس الأمن 2231
تعد قضية العقوبات الغربية، وعلى رأسها العقوبات الأمريكية والأوروبية، العنوان الأبرز والأكثر إلحاحا في أجندة السياسة الخارجية الإيرانية لهذا العام.
فمنذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في مايو/أيار 2018، وتفعيل سياسة الضغوط القصوى من قبل دونالد ترامب، وقد دخلت إيران في دوامة اقتصادية خانقة.
ومع اقتراب موعد انتهاء القيود المفروضة بموجب القرار 2231 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في أكتوبر/تشرين الأول 2010، فإن شهر أكتوبر/تشرين الأول 2025 سيكون مفترق طريق حاسما.
فبحسب هذا القرار، يفترض أن تنتهي بعض العقوبات تلقائيا، لكن القلق الإيراني ينبع من احتمال لجوء الدول الأوروبية إلى تفعيل آلية الزناد والتي تعني إعادة فرض جميع العقوبات الأممية السابقة تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، دون الحاجة إلى تصويت جديد.
وقد حذر خبراء سياسيون، مثل حسن بهشتي بور، من أن تفعيل هذه الآلية سيشكل تحديا خطيرا للدبلوماسية الإيرانية، إذ سيعيد تفعيل ستة قرارات سابقة لمجلس الأمن، ما من شأنه أن يعيد إيران إلى مربع العزلة الدولية، ويعقّد أي جهود مستقبلية لرفع العقوبات أو استئناف المفاوضات.
رد إيران على رسالة ترامب والتوتر مع الولايات المتحدة
في ظل التصعيد المستمر بين إيران والولايات المتحدة، تلقت طهران رسالة من الرئيس ترامب في مارس/آذار 2025 يدعو فيها المرشد الإيراني، على خامنئي، إلى التفاوض.
الأمر الذي رفضه خامنئي في عدة مناسبات، مصرحا بأن إيران لن ترضخ لإرادة الشعوب المتسلطة.
تأتي تلك الرسالة في سياق شديد التوتر على الصعيد الإقليمي، لا سيما بعد تصاعد الاشتباكات في البحر الأحمر واليمن بين جماعة أنصار الله الحوثية المدعومة من إيران، والقوات الأمريكية والإسرائيلية.
هذا وقد أعلن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، في رسالته بمناسبة عيد النيروز، والتي ألقاها الخميس 20 مارس/آذار 2025، أن السياسة الخارجية الإيرانية في العام الجديد ستستمر على نهج الاستقلال والثبات، مؤكدا أنه لن تكون هناك تسوية على حساب المصالح الوطنية، ومشددا على أن أي تهديد سيرافقه استعداد للرد، وإن كانت إيران لا تختار الحرب، لكنها لا تتهرب من المواجهة إذا فُرضت عليها.
وفي هذا السياق، اتهمت الولايات المتحدة طهران بدور مباشر في تأجيج الصراعات، فيما أشارت تقارير أمريكية إلى استخدام الرسالة الثانية كوسيلة ضغط جديدة وليست عرضا دبلوماسيا حقيقيا.
وفق تحليل موقع دبلوماسي إيراني، يبدو أن كيفية تعامل إيران مع هذه الرسالة ستحدد جانبا مهما من مسار علاقاتها مع واشنطن خلال الأشهر المقبلة، بين خيار الانفتاح الحذر على الحوار، أو التصعيد والمواجهة.
آفاق التفاوض ومسألة الموازنة بين القوى الكبرى
في ظل الضغط المتواصل من الغرب، تسعى إيران إلى تفعيل سياسة التوازن الإقليمي والدولي كبديل استراتيجي عن الاعتماد على جهة واحدة، فقد أكد بهشتي بور أن إيران لا تمتلك في الوقت الراهن تحالفا استراتيجيا شاملا مع أي من القوى الكبرى، وضمن ذلك الصين وروسيا، رغم الشراكات التجارية والعسكرية الناشئة.
ولذا، فإن الموازنة في العلاقات مع القوى المختلفة، من الصين وروسيا شرقا إلى الاتحاد الأوروبي وأمريكا اللاتينية وأفريقيا جنوبا، أصبحت ضرورة استراتيجية لتقليل الاعتماد على حلفاء قد لا يلبون بالكامل تطلعات طهران.
هذا وقد انعقدت بالفعل عدة جولات تفاوضية مع الصين وروسيا، كما جرت ثلاثة لقاءات مع الأوروبيين، ومن المتوقع عقد مزيد منها في سياق محاولة تقليل حدة العزلة وإعادة فتح مسارات تجارية ومالية محدودة.
معاهدتا باليرمو وCFT.. العقدة الداخلية والخارجية
من بين العقبات التشريعية المؤثرة في العلاقات الدولية لإيران تأتي معاهدتا باليرمو ومكافحة تمويل الإرهاب (CFT)، اللتان لا تزالان معلّقتين بسبب الخلافات الداخلية بين السلطات التنفيذية والتشريعية والدينية.
ويرى الخبراء أن المصادقة عليهما، وفقا لما أقره البرلمان الإيراني في دورة انعقاده العاشرة، قد تساهم في تخفيف الحواجز البنكية بين إيران والدول الصديقة، خصوصا في مجال التبادلات التجارية والمالية مع الصين وروسيا ودول أخرى غير غربية.
ولكن، ومع استمرار التردد الإيراني في اعتماد هذه المعاهدات، تبقى المؤسسات المالية الدولية في موقع الحذر، ما يزيد من صعوبة نقل الأموال والاستثمارات.
العلاقات مع دول الجوار ومبدأ حسن الجوار
على المستوى الإقليمي، تسعى إيران إلى تفعيل سياسة الانفتاح على الجوار بوصفها إحدى الركائز الأساسية للسياسة الخارجية في 1404. وتشمل هذه السياسة تحسين العلاقات مع العراق، وتركيا، وسوريا، وباكستان، وأذربيجان، وأعضاء مجلس التعاون الخليجي.
لكن تنفيذ هذه الرؤية يصطدم بعدة عوائق، منها الخلافات المالية مع العراق بشأن تسديد مستحقات الغاز، والتوترات الحدودية والمائية مع أفغانستان، والتنافس الجيوسياسي مع أذربيجان وتركيا، فضلا عن الحذر الخليجي من تحركات إيران في البحرين واليمن ولبنان، وعدم وضوح الصورة وتذبذب الموقف في سوريا.
وعلى الرغم من هذه التحديات، ترى الحكومة الإيرانية أن تحسين العلاقات مع دول الجوار هو السبيل الأنفع لتقليص العزلة الدولية وتعزيز القوة التفاوضية في المحافل الإقليمية والدولية.
مستقبل الدور الإيراني في اليمن وغزة
يمثل الدور الإيراني في كل من اليمن وغزة محورا أساسيا في السياسة الخارجية للعام الجديد، خاصة مع تصاعد وتيرة المواجهة العسكرية في البحر الأحمر، والتي زاد من حدتها اتهام واشنطن لطهران بدعم هجمات الحوثيين على السفن الأمريكية.
كما أن دعم إيران لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”، في غزة يضعها في مواجهة غير مباشرة مع إسرائيل، ويدفع بعض القوى الدولية إلى تحميلها مسؤولية تصاعد العنف في المنطقة، الأمر الذي يعقد من حسابات إيران الدبلوماسية، إذ تحاول الحفاظ على عمقها الاستراتيجي في هذه المناطق، دون أن تنجرّ إلى مواجهة مباشرة واسعة قد تستنزف مواردها وتفاقم أزمتها الاقتصادية.
وفي ضوء هذا المشهد المتشابك، يبدو أن إيران قد تلجأ إلى استخدام بعض أوراقها الإقليمية كورقة تفاوض في أية تسوية قادمة، فالتقارير الإعلامية تشير إلى إمكانية استخدام الرد على رسالة ترامب، أو تخفيف الدعم لبعض حلفائها، كورقة ضغط مقابل تسهيلات اقتصادية أو اتفاقات دبلوماسية.
وقد يُبنى على هذه المبادرات نمط من التفاعل المشروط، أي الانخراط في مفاوضات محدودة بشرط تحقيق مكاسب اقتصادية أو سياسية واضحة. لكن تحقيق ذلك مرهون بمدى التنسيق الداخلي بين مؤسسات الحكم، وتطورات الميدان في كل من اليمن، وغزة، والبحر الأحمر.