كتب: سید نیما موسوي
ترجمة: علي زين العابدين برهام
حلت الذكرى الثلاثون لرحيل مهدي بازركان في 20 يناير/كانون الثاني 2025. تكتسب حياة بازركان أهمية خاصة من جانبين رئيسيين: الأول سياسي؛ لكونه أول رئيس وزراء لإيران بعد ثورة 1979، والثاني فكري، حيث يُعتبر من أبرز رواد الحركة الفكرية الدينية في إيران. وبهذه المناسبة، كُتبت هذه السطور لتسلط الضوء على تاريخ الفكر الديني الإصلاحي في إيران.
يمكن اعتبار جمال الدين الأسد آبادي الأب المؤسس لحركة الإحياء الديني في العصر الحديث، فقد بدأت هذه الحركة أواخر القرن التاسع عشر داخل الإمبراطورية العثمانية بتأسيس حركة “الحداثة الإسلامية”، التي تزامنت مع عصر التنظيمات، وسرعان ما امتد تأثير هذه الحركة ليشمل آسيا الوسطى وشبه القارة الهندية، لكنها وصلت إلى إيران في وقت متأخر.
كانت الثورة الدستورية الإيرانية عام 1909 نتاج تحالف بين قوتين رئيسيتين: الأولى، الاشتراكيون الديمقراطيون الإيرانيون الذين تأثروا بتحولات القوقاز في أوائل القرن العشرين، والثانية، المؤسسات المحافظة مثل مجمع التجار ورجال الدين، الذين عارضوا بعض الإصلاحات التي جرت في أواخر عهد ناصر الدين شاه. شكلت الثورة الدستورية أول ساحة للحوار بين القوى الدينية الإيرانية والأفكار الحديثة التي برزت في الإمبراطورية العثمانية وروسيا القيصرية.
تكمن أهمية هذا الحوار في ضرورة التوفيق بين البرلمانية الغربية والتقاليد الدينية للمجتمع الإيراني، مما مهد الطريق لظهور تيارات التجديد الديني في البلاد. وفي هذا الإطار، كان الخلاف بين محمد حسين النائيني وفضل الله نوري، وهما من كبار رجال الدين في عصر الثورة الدستورية، تجسيدا للصراع الداخلي الذي واجهته المؤسسة الدينية عند تعاملها مع تحولات العالم الحديث.
وفي عهد رضا شاه (1925-1941)، خلقت الأجواء العلمانية بيئة غير مواتية للنشاطات الدينية، إلا أن بعض المصلحين الدينيين الحداثيين مثل “شريعت سنكلجي” و”علي أكبر حكمي زاده” استمروا في نشاطهم. كان حكمي زاده مؤيدا لسياسات رضا شاه، إلا أن أفكاره قوبلت بنقد حاد من الخميني، الذي كتب كتاب “كشف الأسرار” للرد على آرائه.
بعد سقوط رضا شاه عام 1941، حصلت المراكز الدينية في إيران على مساحة أكبر من الحرية للتعبير والنشاط، وتزامن ذلك مع تأثير موجة جماعة الإخوان المسلمين عالميا، إلى جانب الأفكار الإحيائية في شبه القارة الهندية، مما ساهم في ظهور توجهات حديثة في التدين بين الإيرانيين.
كان مهدي بازركان من أوائل المساهمين في تشكيل هذه التوجهات الجديدة بعد سقوط رضا شاه، فمن خلال تأسيس “جمعية المهندسين الإسلامية”، أطلق بازركان رؤية جديدة للدين، مستوحاة من أفكار رشيد رضا، الفقيه الإصلاحي الشهير، تقوم على تحليل النصوص الدينية بمنهجية هندسية. في الوقت نفسه، شهدت تلك الفترة نمو “مركز الدعوة الإسلامية”، الذي مزج بين الإسلاموية وأيديولوجيا النازية.
ظهرت أيضا حركة “فدائيو الإسلام”، التي تأثرت بالموجة العالمية لجماعة الإخوان المسلمين، لتكون المؤسس لما يمكن تسميته بالسلفية الشيعية. من جهة أخرى، برز خطر حزب “توده” الشيوعي على حكومة بهلوي خلال الأربعينيات، مما دفع النظام السياسي إلى دعم نمو هذه الجماعات الدينية كوسيلة لموازنة نفوذ حزب توده.
في أواخر الخمسينيات، أدى تأسيس مدرسة حقاني على يد رجل الدين المجدد محمد بهشتي إلى تحويل تيار الحداثة الإسلامية من تجمعات صغيرة إلى مدرسة فكرية رسمية ومؤثرة.
في الوقت نفسه، تأسيس حزب “نهضة الحرية” في أوائل الستينيات، بالتزامن مع ظهور المنظمة العالمية “رابطة العالم الإسلامي”، مثّل مزيجا من المطالب الليبرالية والديمقراطية مع الهوية الإسلامية. إلى جانب ذلك، أسهم تأسيس حزب “أمم الإسلام” في أوائل الستينيات في ظهور تيار جديد يدمج بين الحداثة الإسلامية والأفكار اليسارية بإيران.
حزب “ملل إسلامي” (أمم الإسلام)، الذي تأثر بحزب الدعوة في العراق، كان من أبرز القوى المعارضة لنظام الشاه في الستينيات. وقد لعب دورا محوريا في تشكيل الحركة المناهضة للنظام، حيث كان معظم مؤسسي الحرس الثوري الإيراني بعد ثورة 1979 ينشطون سابقا في الجناح العسكري لهذا الحزب، المعروف باسم “حزب الله”.
منذ أواخر الستينيات، ومع تصاعد التوترات الاجتماعية في إيران وزيادة المعارضة لنظام محمد رضا بهلوي، بدأت تظهر بوادر تقارب بين الأفكار اليسارية والإسلاموية. في هذا السياق، برز علي شريعتي كخطيب ديني شعبي حظي بشعبية واسعة بين الشباب والطلاب في حسينية الإرشاد.
استلهم شريعتي أفكاره من اتجاهين رئيسيين: الأول هو حركة الإحياء الديني في شبه القارة الهندية، متأثرا بشخصيات مثل السيد جمال الدين الأسد آبادي وأبو الأعلى المودودي، والثاني هو التيارات اليسارية الفرنسية التي تعرّف عليها أثناء دراسته في فرنسا، خاصة أعمال ألبير كامو وجان بول سارتر.
قدم شريعتي رؤية مبتكرة تجمع بين التشيع وحركات اليسار العالمية، مما أتاح صياغة مزيج جديد من الدين الحديث. هذا النهج نال شعبية كبيرة إلى درجة يمكن معها اعتبار شريعتي اليوم واحدا من أهم المفكرين الإيرانيين وأكثرهم تأثيرا في المئة عام الأخيرة من تاريخ إيران. لم تقتصر شعبية أفكار شريعتي على إيران فقط، بل امتدت إلى خارج حدودها. ومن بين أبرز الشخصيات التي تأثرت به أحمد شاه مسعود ورجب طيب أردوغان، حيث كان لأفكاره تأثير واضح على مسار حياتهم في بعض المراحل.
بعد الثورة الإيرانية عام 1979، برز عبد الكريم سروش كأهم شخصية في مجال الفكر الديني بإيران. كان سروش أحد تلاميذ علي شريعتي، لكنه تبنّى لاحقا موقفا نقديا تجاه أفكاره. تأثر سروش بفيلسوف القرن العشرين كارل بوبر، واستخدم فكرة “المجتمع المفتوح” في نقد الماركسيين الإيرانيين في أوائل الثمانينيات.
مع نهاية الثمانينيات، ومع صعود أكبر هاشمي رفسنجاني إلى السلطة، شهدت السياسات العامة تغييرات كبيرة. تغيّرت القواعد الاقتصادية ذات الطابع اليساري، وبدأت الجمهورية الإسلامية في الدخول ضمن منظومة الاقتصاد العالمي. هذه التحولات أدت إلى ظهور طبقة متوسطة جديدة في المجتمع الإيراني.
تميزت هذه الطبقة الجديدة بأسلوب حياة مختلف عن توجهات الحكومة، وانعكست اهتماماتها في برامج التحديث التي قادها غلام حسين كرباسجي، عمدة طهران في أوائل التسعينيات. كان لهذه الطبقة طابع حياتي أكثر علمانية، وكانت مراكزها الثقافية هي الثقافة العامة والمراكز المجتمعية الحديثة التي أنشأتها بلدية طهران، بدلا من المساجد التقليدية.
في تلك الفترة، برزت حاجة ملحّة لدى الطبقة المتوسطة لتفسيرات جديدة للدين تتماشى مع أسلوب حياتها الحديث. كان الهدف هو العيش في إطار الخطاب الديني السائد، ولكن من خلال رؤية متجددة تتناسب مع أسلوب حياتها العصري والمتغير.
بدأ سروش في أواخر ثمانينيات القرن العشرين بتقديم نظرية “قبض وبسط الشريعة”، التي اعتمدت على القراءة الهرمنيوطيقية للدين في مواجهة آراء الفقهاء التقليديين. تقوم هذه النظرية على هرمنيوطيقا جلال الدين الرومي وفلسفة إيمانويل كانط، حيث تميز بين جوهر الدين والمعرفة الدينية، وتعتبر مؤسسة الفقه في فكر سروش مؤسسة صامتة ينبغي أن تتكلم فقط عندما يُستشار رأيها.
ومنذ بداية تسعينيات القرن العشرين، تحولت مجلة “كيان” إلى المنبر الرئيسي للمفكرين الدينيين التقدميين. وقد ضمت المجلة شخصيات مثل عماد الدين باقي، ومحسن كديور، ومجتهد شبستري، وأكبر غنجي، وآرش نراقي، الذين تناولوا مسألة التوفيق بين الإيمان الديني والعالم المعاصر، وكذلك مفهوم “التجديد الديني”.
كان فوز محمد خاتمي في انتخابات 1997، دافعا لتوسيع دائرة المفكرين الدينيين التقدميين في الصحافة الإيرانية، حيث ظهرت العديد من الصحف بين عامي 1997 و2000، وكان صفحة “الفكر” فيها هي الأكثر نشاطا، واحتلت مكانة بارزة في إعادة إنتاج أفكار هؤلاء المفكرين.
في المقابل، كانت هناك مجموعة من المفكرين الدينيين بمؤسسة الخميني في قم الذين تأثروا بأفكار محمد تقي مصباح يزدي، الفيلسوف الإيراني المتشدد، وكانوا يقفون في مواجهة تيار التجديد الديني. ومن بين هذه المجلات كانت “سورة” و”كتاب نقد”، اللتان تأثرتا بأفكار أحمد فرديد ومصباح يزدي، وواجهتا المجلات الداعمة للتجديد الديني بمشاريعها الفكرية المعاكسة.
في عقد الألفية الجديدة، وبسبب إغلاق العديد من الصحف، وكذلك هجرة العديد من المفكرين الدينيين بعد نهاية فترة حكم محمد خاتمي، أصبح التيار الفكري الديني ضعيفا للغاية، كما أن هزيمة الإصلاحيين في انتخابات عام 2009 كانت بمثابة النهاية الفعلية للفكر الديني الإصلاحي في إيران.
تسببت انتخابات ذلك العام في ابتعاد الطبقة الوسطى عن تبريرات الدين لأسلوب حياتها، ومنذ تلك الفترة تحديدا، ومع تأسيس مجلة “مهرنامه”، حلت النزعة القومية والفكر الإيراني المناهض لفكر الدولة الصفوية محل المشروع الفكري الديني.
خلال الفترة الأحدث، على الرغم من أن شخصيات مثل أحمد قابل، وأبو القاسم فنائي، وسروش محلاتي كانوا لا يزالون يطورون أفكارا ضمن إطار الفكر الديني الإصلاحي، فإنهم لم يصلوا قط إلى التأثير نفسه الذي كان لعبد الكريم سروش في التسعينيات أو علي شريعتي في الستينيات. من جهة أخرى، أدى التحول في المنظور الفكري إلى جعل الفكر الديني بإيران سوقا راكدا، حتى أصبح من الممكن القول اليوم إن الفكر الديني الإصلاحي قد انتهى عمليا في إيران.
في الختام، يمكن القول إنه على الرغم من أن الفكر الديني الإصلاحي لعب دورا كبيرا قبل ثورة 1979 في توجيه الطلاب والمجتمع المدني نحو الثورة، فإن هذا التيار كان له دور أساسي في عملية العلمنة للمجتمع الإيراني بعد الحرب.
في ثمانينيات القرن العشرين، ومع هيمنة الأدبيات اليسارية والحرب المستمرة لمدة ثماني سنوات، لم يكن هناك مجال لظهور طبقة وسطى جديدة. لكن في التسعينيات، ومع نمو وتطور الطبقة الوسطى، أصبح الفكر الديني الإصلاحي جزءا من عملية تحول تهدف إلى دفع المجتمع الإيراني نحو العلمانية. استمر هذا التحول حتى نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة، ومن ثم، خاصة بعد انتخابات 2009، بدأت الطبقة الوسطى في تجاوز الفكر الديني الإصلاحي، لتصنع لنفسها أسلوب حياة جديدا يعتمد على دُروس “الاعتدال” لحسن روحاني، ولاحقا تحت تأثير موجة محمد بن سلمان في السعودية.