كتب: سيد نيما موسوي
ترجمة: علي زين العابدين برهام
في 16 مارس/آذار 2025، وبموجب أمر تنفيذي أصدره الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تم حلّ الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، ما أدى إلى وقف بثّ شبكتي “صوت أمريكا” الفارسية و”راديو فردا”. وقد أكد ترامب من خلال هذا القرار، وقف تمويل وسائل الإعلام الممولة من الحكومة الأمريكية.
على مدى تسعين عاما، شكّلت “صوت أمريكا” و”راديو الحرية” الذراع الدعائية للولايات المتحدة في مختلف أنحاء العالم، خاصة منذ بداية الحرب الباردة، مع تحوّل البلاد إلى قوة عظمى عالمية.
ويُعد إغلاق القسم الفارسي من “صوت أمريكا”- أحد أبرز المنابر الإعلامية المناوئة لإيران- خطوة ذات تبعات ملحوظة، سيتم التطرق إليها في هذه المقالة.
“صوت أمريكا”: الذراع الإعلامية للسياسة الخارجية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية
منذ أربعينيات القرن الماضي، شكّلت “صوت أمريكا” الذراع الدعائية للولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية. وقبل ذلك، كانت الإذاعات الأمريكية تبث برامج مناهضة للنازية في أمريكا اللاتينية، لكن بعد الهجوم على “بيرل هاربر” عام 1941 ودخول الولايات المتحدة رسميا في الحرب، تم تأسيس “صوت أمريكا” لتكون الأداة الإعلامية الرئيسة للبلاد خلال الحرب العالمية الثانية.
إلا أن ذروة نشاط هذا الجهاز الإعلامي كانت خلال الحرب الباردة، حيث ركّزت “صوت أمريكا” في خمسينيات القرن العشرين على التأثير في الرأي العام داخل دول مثل المجر، ومصر، وبولندا، والصين. وكلما دخلت الولايات المتحدة في صراع مع دولة ما، كانت “صوت أمريكا” تتولى دور الذراع الدعائية للدبلوماسية العامة الأمريكية لتلك المنطقة.
من جهة أخرى، ومع بروز أهمية أفغانستان في السياسات الأمريكية، بدأت “صوت أمريكا” في ثمانينيات القرن الماضي ببث برامج باللغتين البشتو والدَري. وفي تسعينيات القرن ذاته، ومع تحوّل البلقان، ورواندا، وكردستان إلى أولويات في السياسة الخارجية الأمريكية، تم تأسيس خدمات إذاعية بلغات الأكراد، الصرب، الكروات، والروانديين.
ومع مطلع القرن الجديد وغزو العراق، تأسست الخدمة العربية لـ”صوت أمريكا” المعروفة باسم “الحرّة”. ويتضح من ذلك أن “صوت أمريكا” ترتبط ارتباطا مباشرا بأولويات السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وتعمل كذراع إعلامية مرافقة لتلك السياسات.
وبجانب “صوت أمريكا”، تأسّست أيضا مؤسسات إذاعية مثل “راديو أوروبا الحرة” و”راديو الحرية”. وقد أُنشئ “راديو الحرية” في عام 1949، بالأساس لمواجهة النفوذ الشيوعي في أوروبا، لكنه تطوّر تدريجيا ليؤدي أدوارا أوسع ويكتسب تأثيرا عالميا مماثلا لـ”صوت أمريكا”.
النشأة والتطور في ظل الصراع مع إيران
تأسس القسم الفارسي من “صوت أمريكا” في عام 1979، بعد أسابيع قليلة من أزمة احتجاز الرهائن في السفارة الأمريكية بطهران على يد الثوار الإيرانيين، وجاء تأسيسه كجزء من الرد الإعلامي الأمريكي على التطورات في إيران. بدأ هذا القسم كخدمة إذاعية، ثم توسّع في عام 1994 ليشمل البث التلفزيوني.
أحمد رضا بهارلو، الذي كان من المؤيدين البارزين للنظام الملكي البهلوي، عُيِّن كأول مدير للقسم الفارسي. وقد ساهم في تطوير البث التلفزيوني بإطلاق برنامج “الطاولة المستديرة معكم” عام 1996، الذي شكّل نقطة تحوّل في توجهات الشبكة. غير أن انطلاقة “صوت أمريكا” الفارسية بصورتها المنتظمة والاحترافية جاءت في يوليو 2003، عقب الغزو الأمريكي للعراق.
حتى عام 2008، كان الطاقم الرئيسي للقسم الفارسي يتكوّن إلى حد كبير من شخصيات مرتبطة بالتيار الملكي، من بينهم أحمد بهارلو، وبهروز صور إسرافیل، وفريدون فرح أندوز، الذين لعبوا دورا بارزا في رسم توجهات القناة.
بالتوازي مع توسع “صوت أمريكا”، انطلقت “راديو فردا” من العاصمة التشيكية براغ، مستفيدة من أسلوب قديم استخدمته واشنطن خلال الحرب الباردة، يقوم على مزج الموسيقى مع الأخبار، كما كان الحال في مشاريع مثل “فيفا أمريكا” في كولومبيا و”موسيقى الجاز” في الاتحاد السوفييتي.
في العقد الأول من الألفية، حظيت “راديو فردا” بشعبية لدى بعض شرائح المجتمع الإيراني من خلال بثها المنتظم لأغاني مشاهير الغناء الإيراني في المهجر، وخاصة من لوس أنجلوس.
وكان أول تحدٍّ سياسي حقيقي لـ”راديو فردا” يتمثل في تغطيتها الواسعة لاحتجاجات الطلاب بين عامي 2003 و2006، وهي فترة تميزت بتقاطع حساس بين إدارة محمد خاتمي في إيران وإدارة جورج بوش في الولايات المتحدة. وقد بلغت حدة تلك الاحتجاجات حدا دفع بعض التيارات داخل الحركة الطلابية إلى إصدار “بيان ربيع بغداد”، الذي عبّر فيه بعض الناشطين عن تأييدهم لاحتمال تدخل عسكري أمريكي في إيران.
من منابر ملكية إلى أدوات للدبلوماسية الناعمة تجاه المجتمع الإيراني
في عام 2007، ومع تصاعد النفوذ الإقليمي لإيران، قررت وزيرة الخارجية الأمريكية، آنذاك كوندوليزا رايس، تعزيز أدوات الدبلوماسية العامة الأمريكية الموجّهة للإيرانيين. كانت الحاجة واضحة إلى وسائل إعلام جديدة تتجاوز القنوات الملكية التقليدية في لوس أنجلوس، لتفتح حوارا مباشرا مع المجتمع المدني الإيراني بعيدا عن الخطابات الجامدة والمعارضة النخبوية في المنفى.
في هذا السياق، أنشأت وزارة الخارجية الأمريكية “مجلس الإيرانيين”، برئاسة إليزابيث تشيني، ابنة ديك تشيني، كنقطة ارتكاز لهذا التوجه الجديد. تزامنا مع ذلك، بدأت القنوات الملكية في التراجع أو التوقف، فيما وجّهت الإدارة الأمريكية اهتمامها نحو استقطاب شخصيات إصلاحية معارضة من داخل إيران.
عام 2008، ومع تعيين أليكس بليدا على رأس القسم الفارسي في “صوت أمريكا”، تم استبعاد فريق أحمد رضا بهارلو، الذي مثّل الخط الملكي، واستُبدل بمجموعة جديدة من الصحفيين المنفيين المحسوبين على التيار الإصلاحي.
من أبرز هذه الأسماء محسن سازكارا وعلي رضا نوری زادة، اللذان أدّيا دورا بارزا في تغطية وتحليل احتجاجات عام 2009، وهي الفترة التي برز فيها تأثير “صوت أمريكا” على المشهد السياسي الإيراني بشكل غير مسبوق، خصوصًا بين مؤيدي “الحركة الخضراء”.
في موازاة ذلك، لعب “راديو فردا” دورا تكامليا، حيث بثّ برامج تفاعلية داعمة للحراك الإصلاحي، من أشهرها برنامج “وجهات نظر“ من تقديم أمير مصدق كاتوزيان، وبرنامج “صوت آخر” المعني بحقوق النساء، من إعداد وتقديم رويا كريمي مجد.
استضاف هذان البرنامجان شخصيات إصلاحية ومدنية بارزة مثل أكبر كنجي، ومليحة محمدي، وفاطمة كوارايي، وفرخ نكهدار، وتقي رحماني، ما عزز موقع “راديو فردا” كمنبر للإصلاحيين في الخارج.
بلغ هذا التوجه الإعلامي ذروته مع فوز حسن روحاني في الانتخابات الرئاسية عام 2013، وخلال مفاوضات الاتفاق النووي (برجام)، حيث بدت تغطية “صوت أمريكا” و”راديو فردا” متماهية إلى حد كبير مع أولويات حكومة روحاني. في تلك الفترة، برزت الناشطة مسيح علي نجاد في الترويج لشخصيات من أمثال محمد جواد ظريف، وهاجمت في المقابل المعارضين للمفاوضات النووية.
تزامن هذا التحول مع فترة تولّي محمد منظر بور رئاسة القسم الفارسي لـ”صوت أمريكا”، وهي مرحلة تميزت بتقارب واضح بين الخط التحريري لهذه الوسائل الإعلامية وأجندة الحكومة الإيرانية آنذاك، ما عكس بوضوح كيف أصبحت أدوات الإعلام الأمريكي الفارسي امتدادا عمليا لاستراتيجية واشنطن الناعمة في التعامل مع إيران.
تراجع الإعلام الأمريكي الناطق بالفارسية وبداية مرحلة الانكفاء في السياسة الخارجية الأمريكية
منذ عام 2010، بدأ نموذج التغطية الإخبارية والإخراج التلفزيوني لقناتي “صوت أمريكا” و”راديو فردا” يفقد جاذبيته لدى الشارع الإيراني. تضررت مصداقية هذين المنبرين بشكل كبير عقب احتجاجات عام 2009، خاصة بسبب بث أخبار ومواد إعلامية اعتُبرت لاحقا ملفّقة أو غير دقيقة، ما أدى إلى تراجع الثقة بهما لدى جزء كبير من الجمهور الإيراني.
في المقابل، برزت على الساحة الإعلامية قنوات جديدة ناطقة بالفارسية خارج إيران، مثل “بي بي سي فارسي”، “إيران انترنشونال”، و”من وتو”، والتي جذبت جمهورا أوسع بفضل تقنيات إخراج حديثة، ديكورات بصرية مبهرة، وأجندات إعلامية ذات نبرة أكثر راديكالية، ما أدى إلى تراجع واضح في شعبية “راديو فردا” و”صوت أمريكا”.
غير أن نهاية هذه الشبكات لم تكن مجرد نتيجة تنافس إعلامي، بل تعكس تحولا استراتيجيا أوسع في السياسة الخارجية الأمريكية في عهد دونالد ترامب. فإغلاق “وكالة الإعلام الأمريكية” (USAGM)، والتي كانت تدير مؤسسات مثل “صوت أمريكا”، “راديو أوروبا الحرة”، ووسائل الإعلام الفارسية التابعة لها، يُعدّ تجليا لتحول جوهري في الدور الأمريكي على الساحة الدولية.
في ولايته الثانية، سعى ترامب إلى تقليص دور الولايات المتحدة كقوة عالمية مسؤولة، وإعادة تعريف سياسات بلاده وفق ما سماه “المصلحة القومية الأمريكية أولا”. هذا التحول يُنظر إليه بوصفه عودة إلى مبدأ “مبدأ مونرو” في القرن التاسع عشر، والذي دعا إلى تركيز الولايات المتحدة على نصف الكرة الغربي بدلا من الانخراط العميق في شؤون أوروبا، الشرق الأوسط، أو آسيا.
ترافق هذا التوجه مع خطوات عملية: باتت الولايات المتحدة اليوم قادرة على تأمين احتياجاتها من الطاقة دون الاعتماد على الخارج، وبدأت تفرض رسوما جمركية على دول العالم متجاوزة قواعد التجارة الحرة، كما خفّضت التزامها بالقيم العالمية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان.
مثال بارز على هذا التراجع هو تسريح عدد كبير من موظفي “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية” (USAID)، التي كانت تمثل الذراع السياسية والإعلامية الأهم لأمريكا في آسيا الوسطى. ولم يكن ذلك مجرد تنازل لصالح روسيا أو الصين، بل كان تعبيرا عن تقليص الإنفاق العام وإنهاء مرحلة الترويج العالمي للقيم “الويلسونية” التي لطالما شكّلت ركيزة من ركائز السياسة الخارجية الأمريكية.
ومن هنا، فإن إغلاق وسائل إعلام مثل “راديو فردا” و”صوت أمريكا” الفارسي ينبغي فهمه في إطار أوسع وهو تراجع التزام الولايات المتحدة بالقيادة العالمية، والعودة إلى عزلة نسبية في السياسة الدولية، والتوجه نحو سياسة تقشف إعلامي واستراتيجي تعكس تحولات عميقة في العقيدة السياسية الأمريكية.