كتب: محمد بركات
في ظل الضغوط الاقتصادية التي يواجهها الاقتصاد الإيراني، تكثف طهران جهودها الدبلوماسية لاستعادة أموالها المجمدة بالخارج، مستخدمة المفاوضات والضغط القانوني في محاولة للدبلوماسية الإيرانية لحل أزمة بدأت منذ قيام الثورة في العام 1979.
حيث صرح عباس عراقجي، وزير الخارجية الإيراني، على هامش اجتماع المجلس الأعلى للعلاقات الاقتصادية الخارجية الذي عقد 7 يناير/كانون الثاني 2025، خلال حديثه عن الأموال الإيرانية المجمدة بالخارج بأن “مسألة إدارة العلاقات الاقتصادية الخارجية للبلاد في ظل العقوبات والضغوط الخارجية تعد فنا خاصا، وقد أصبحنا خبراء في هذا المجال على مدار السنوات الماضية”.
وأضاف عراقجي: “إحدى المشكلات الرئيسية التي تواجهنا هي مسألة الأموال المجمدة، والتي كانت باستمرار على جدول أعمال وزارة الخارجية والهيئات المعنية الأخرى، وبهذا الصدد فقد تم تحرير جزء منها نتيجة الجهود المبذولة، فيما لا يزال جزء آخر مجمدا”.
وقد أكد عراقجي أن تحرير الأموال المجمدة بالخارج يُعد على رأس أولويات وزارة الخارجية، وهي في سعي دائما لمعالجته، مشددا على الحاجة لإجراء اجتماعات لبحث موسع لبحث حلول جديدة لتلك المشكلة.
الأموال الإيرانية التي تم رفع الحظر عنها
خلال السنوات الماضية، نجحت إيران في تحرير بعض أموالها المجمدة نتيجة جهود دبلوماسية واتفاقيات سياسية، ففي 14 يونيو/حزيران 2023، استطاعت إيران أن تحصل على 3 مليارات دولار من أموالها المجمدة في العراق بموجب اتفاق بين الولايات المتحدة والعراق وإيران.
حينها صرح ماثيو ميلر، المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، بأن إيران لا يمكنها استخدام هذه الأموال إلا لأغراض إنسانية وضمن إطار المعاملات المصرفية المستثناة من العقوبات.
كذلك، ففي 12 أغسطس/آب من العام 2023، أعلن رئيس البنك المركزي الإيراني، محمد رضا فرزين، أن بلاده قد استعادت جميع أموالها المجمدة في كوريا الجنوبية، مؤكدا أن هذه الأموال ستُستخدم عبر عمليات الدفع البنكية لشراء السلع غير الخاضعة للعقوبات.
وفي 6 أكتوبر/تشرين الأول 2023 تمكن البنك المركزي الإيراني من استعادة 1.7 مليار دولار من أصوله المجمدة في لوكسمبورغ بعد سنوات من الاحتجاز، حيث كانت هذه الأموال قد تم تجميدها منذ عام 2020 نتيجة شكوى قدمها بعض المواطنين الأمريكيين ضد إيران، مما أدى إلى احتجاز أموال البنك الإيراني في مؤسسة Clearstream Luxembourg، وهي أحد البنوك المالية الكبرى في لوكسمبورغ.
ومع استمرار المتابعات الدبلوماسية والقانونية من قبل إيران، قررت المحكمة العليا في لوكسمبورغ قبول اعتراض إيران على تجميد أموالها، وإلغاء الحكم السابق الذي كان يعوق وصول إيران إلى هذه الأصول.
أزمة الأموال الإيرانية المجمدة
تُعدّ قضية الأموال الإيرانية المجمدة في دول العالم واحدة من أكثر القضايا حساسية وتعقيدا في العلاقات الدولية والاقتصادية لإيران منذ قيام ثورتها في العام 1979، حيث تقدر الأموال المجمدة لإيران بما بين 100 و120 مليار دولار أمريكي.
وتتنوع الأصول الإيرانية المجمدة بين احتياطيات نقدية مودعة في البنوك الأجنبية، وممتلكات عقارية واستثمارات حكومية، وأموال ناتجة عن صادرات النفط التي لم يتمكن النظام الإيراني من تسلّم عوائدها، وتتمركز غالبية هذه الأصول في دول غربية مثل الولايات المتحدة، والعديد من الدول الأوروبية، إلى جانب دول آسيوية أخرى مثل اليابان وكوريا الجنوبية.
وعلى مرّ العقود، سعت الحكومات الإيرانية المتعاقبة إلى استعادة هذه الأموال، بعضها نجح في تحرير أجزاء منها، فيما بقيت أجزاء أخرى مجمدة حتى الآن.
فإبان قيام الثورة، تحوّلت العلاقات بين إيران والغرب، وخاصة الولايات المتحدة، إلى علاقات معقدة وغير مستقرة، حيث قامت الولايات المتحدة بتجميد الأصول الإيرانية في مصارفها والمؤسسات المالية التابعة لها، وذلك بسبب احتجاز 52 رهينة أمريكية في السفارة الأمريكية بطهران لمدة 444 يوما.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني من العام 1979، جمّدت الولايات المتحدة حوالي 12 مليار دولار من الأصول الإيرانية، والتي تشمل أموال البنك المركزي الإيراني واستثمارات حكومية أخرى. كان هذا التجميد بمثابة بداية للعقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، وهو الوضع الذي تفاقم مع مرور الوقت.
وعلى مر السنين، تم فرض المزيد من العقوبات الدولية على إيران، ولا سيما في ظل الخلافات حول برنامجها النووي. هذه العقوبات أدت إلى تجميد المزيد من الأصول الإيرانية في الخارج، بما في ذلك الأموال الموجودة في بنوك أوروبية وآسيوية.
فخلال فترات متلاحقة، تم فرض عدة من العقوبات الدولية على إيران، كان أبرزها العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بسبب المخاوف بشأن برنامج إيران النووي، ففي العام 2006، تم فرض أولى العقوبات الدولية على إيران بموجب قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بسبب برنامجها النووي، وتبع ذلك قرارات وعقوبات إضافية في السنوات التالية، مما أدى إلى تجميد المزيد من الأصول الإيرانية في الخارج.
وفي عام 2015، توصلت إيران إلى اتفاق نووي مع القوى الكبرى، والمعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة، وبموجب هذا الاتفاق، وافقت إيران على تقييد برنامجها النووي مقابل رفع جزء كبير من العقوبات الدولية، وهو ما أتاح لها استعادة بعض من أصولها المجمدة في الخارج، ففي إطار هذا الاتفاق، تم تحرير ما يقرب من 100 مليار دولار من الأموال الإيرانية التي كانت مجمدة في بنوك دولية، بما في ذلك جزء كبير من الأموال المجمدة في بنوك آسيوية وأوروبية.
وعلى الرغم من ذلك، لم يتم تحرير كافة الأصول المجمدة، حيث ظلت أجزاء أخرى محجوبة أو مجمدة بسبب العقوبات التي لا تزال سارية أو بسبب نزاعات قانونية بين إيران وبعض الدول الأجنبية.
أما في العام 2018، فقررت الولايات المتحدة الانسحاب من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات على إيران، هذه الخطوة أدت إلى إعادة تجميد بعض الأموال الإيرانية التي تم تحريرها مؤقتا بعد الاتفاق النووي، كما فرضت الولايات المتحدة عقوبات جديدة على العديد من الكيانات والأفراد الإيرانيين، مما جعل من الصعب على إيران الوصول إلى عوائد صادراتها النفطية وأموالها المجمدة في الخارج.
وخلال السنوات الأخيرة، ومع تصاعد الضغوط الاقتصادية على إيران نتيجة العقوبات، زادت الجهود لاستعادة الأصول المجمدة، فقد لجأت إيران إلى المفاوضات الدبلوماسية والضغط القانوني على الدول التي تحتجز هذه الأصول، وفي بعض الأحيان لجأت إلى المحاكم الدولية لحل النزاعات المتعلقة بأموالها المجمدة.
فعلى سبيل المثال، في فبراير/شباط 2020، حصلت إيران على حكم من محكمة العدل الدولية يؤكد حقها في استعادة الأموال المجمدة في الولايات المتحدة، إلا أن تنفيذ هذا الحكم لا يزال يتعثر بسبب التعقيدات القانونية والسياسية.
ومع استمرار التوترات الدولية حول برنامج إيران النووي وسياساتها الإقليمية، يبدو أن مسألة الأموال المجمدة ستظل محوراً رئيسياً في المفاوضات والعلاقات بين إيران والدول الأخرى، خاصة في ظل استمرار العقوبات الأمريكية وتردي العلاقات مع الغرب.