كتبت: سارة محمد علي
اتخذت إيران خطوة تصعيدية جديدة في تاريخ ملفها النووي؛ حيث أعلنت تشغيل الآلاف من أجهزة الطرد المركزي، وذلك ردا على قرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية ضد طهران، 22نوفمبر/تشرين الثاني 2024 والذي أفاد بأن طهران لم تتعاون بشكل كافٍ مع الوكالة وطلب تقريراً شاملاً عن أنشطتها النووية في موعد أقصاه ربيع عام 2025، وهو ما قابلته إيران بضخ الغاز لأجهزة الطرد المركزي التي يتم من خلالها أولى عمليات تخصيب اليورانيوم.
محطات التصعيد الأخيرة بين إيران والطاقة الذرية
على هامش اجتماع الحكومة الإيرانية الأربعاء 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أفاد رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية محمد اسلامي بأن إيران بدأت بضخ الغاز لعدة آلاف من أجهزة الطرد المركزي المتقدمة بما يتماشى مع تطور البرنامج النووي الإيراني.
مشيراً إلى أن ذلك يأتي ردا على قرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية ضد إيران، قائلا إن الأطراف التي شاركت في إصدار القرار ستتلقى الرد المعاكس كلما حاولت الضغط على إيران.
وأكد إسلامي أن إيران تواصل تخصيب اليورانيوم بنسب مختلفة تصل إلى 60%- أي أقل من النسبة اللازمة لصناعة الأسلحة النووية – وذلك في إطار التزام طهران بمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية.
واعتبر أن الاتهامات الموجهة لإيران تستند إلى معلومات قديمة تعود إلى 20 عاما، وغالبا ما تكون مدعومة من جهات معادية مثل جماعات المعارضة المناهضة للنظام الإيراني – بحسب وصفه – وأضاف أن وكالات الاستخبارات الأمريكية نفسها أكدت مرارا عدم وجود برنامج عسكري نووي إيراني.
وسبق أن أعلن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي أن إيران سوف تقوم بتلك الخطوة، خلال لقاء له، مع نظيره الإسباني خوسيه بوينو الثلاثاء 26نوفمبر/تشرين الثاني 2024 على هامش منتدى تحالف الحضارات التابع للأمم المتحدة في مدينة “كايشكاش” بالبرتغال.
يأتي ذلك قبل ساعات من توجه الدبلوماسيين الإيرانيين إلى جنيف لعقد مفاوضات جديدة حول البرنامج النووي الإيراني مع فرنسا، وبريطانيا وألمانيا، الجمعة 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2024.
وذلك بعد أن اعتمد مجلس حكّام الوكالة الدولية للطاقة الذرية 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 قرارا ينتقد رسميا إيران بدعوى عدم تعاونها بما يكفي فيما يتعلق ببرنامجها النووي، وكان مشروع القرار قد قدمته بريطانيا وفرنسا وألمانيا بدعم من الولايات المتحدة وأيّدته 19 دولة من أصل 35 وعارضته روسيا والصين وبوركينا فاسو بينما امتنعت الدول الـ12 الباقية عن التصويت.
وطلب القرار الجديد من الوكالة الدولية إصدار “تقييم شامل ومحدث بشأن احتمال وجود أو استخدام مواد نووية غير معلنة فيما يخص قضايا عالقة ماضية وحالية تتعلق بالبرنامج النووي الإيراني”.
ودعت الوكالة طهران إلى تقديم إجابات في تحقيق مستمر منذ فترة طويلة بشأن جزيئات اليورانيوم التي تم العثور عليها في مواقع لم تعلن إيران عنها كمواقع نوويين.
وسبق أن دخلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية مع إيران في مواجهات طويلة بشأن مجموعة من القضايا.
أبرز المواجهات
تعود انطلاقة البرنامج النووي الإيراني إلى عهد الشاه محمد رضا بهلوي، مع توقيع واشنطن وطهران اتفاقاً للتعاون في الأغراض النووية المدنية، عام 1957 ضمن إطار برنامج “تسخير الذرة من أجل السلام”.
وبعد 10 سنوات، منحت الولايات المتحدة مركز البحوث النووية في جامعة طهران مفاعلاً نووياً، وزودته باليورانيوم المخصب بدرجة 93 في المئة اللازم لتشغيله للأغراض البحثية، وهي درجة تخصيب مستخدمة في إنتاج الأسلحة النووية.
وسعياً لإطلاق برنامجها النووي المدني، وقعت إيران عام 1968 معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، التي تتيح للوكالة الدولية للطاقة الذرية التحقق من وفاء الدول بالتزاماتها. وفي السنوات التالية، وقعت إيران اتفاقات لتحقيق برنامجها النووي شملت تعاوناً مع الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا لبناء مفاعلات نووية.
لتبدأ أولى أزمات إيران في تاريخ ملفها النووي عام 1979، بعد نجاح الثورة الإيرانية، حيث أعلنت الدول الأوروبية إيقاف التعاون مع إيران عقب الثورة، وعلى الجانب الإيراني اعتبرت القيادة الجديدة أن كلفة البرنامج النووي مرتفعة جداً، وتجعل إيران رهن الاعتماد على التكنولوجيا والموارد الغربية، لكن الحرب مع العراق بين عامي 1980 و1988، دفعت المرشد الإيراني روح الله الخميني، إلى إعادة تشغيل البرنامج، فأكملت إيران بناء منشآتها بالتعاون مع روسيا، بعدما رفضت الدول الغربية تعاونها مع إيران .
في أغسطس/آب 2002، زعم “المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية” المعارض، وجود منشأتين نوويتين قيد الإنشاء لم تعلن عنهما طهران سابقاً، هما منشأة تخصيب اليورانيوم في نطنز، التي أُنشئ جزء منها تحت الأرض، ومفاعل المياه الثقيلة في أراك، وبالتزامن مع ذلك، اتهمت واشنطن طهران بامتلاك برنامج سري لإنتاج الأسلحة النووية.
في البداية، نفت إيران رسميا وجود مثل هذا النشاط، ورفضت السماح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بزيارة وتفتيش المنشآت الجديدة، لكن في 22 فبراير/شباط 2003، زار مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، حينذاك، محمد البرادعي، منشأتي نطنز وأراك. وتحت وطأة الضغوط الدولية، سمحت طهران للوكالة، في الأشهر اللاحقة من العام نفسه، بتفتيش منشآتها النووية وأخذ عينات منها، ما أثبت أنه خلافاً لنفيها المتكرر، فإن إيران أقدمت على تجارب شملت مراحل عديدة لتخصيب اليورانيوم سراً على مدى نحو 19 عاماً.
وجاء تقرير الوكالة في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2003، ليفضح جزءاً من البرنامج النووي لطهران، التي أقرت بأنها كانت تسعى لإثراء اليورانيوم محلياً، وبأنها أجرت تجارب لتحويل اليورانيوم مستخدمةً مواد أنتجتها في إطار تجارب مختبرية بين عامي 1981 و1993 من دون أن تُبلغ الوكالة بها.
وذكر تقرير الوكالة أن إيران “أقرت بأنها عكفت طوال 18 عاماً على تطوير برنامج لإثراء اليورانيوم بالطرد المركزي وطوال 12 عاماً على تطوير برنامج للإثراء بالليزر”، وسلمت بأنها “أنتجت كميات ضئيلة من اليورانيوم شديد الإثراء… وبأنها أخفقت في التبليغ عن عدد كبير من أنشطة التحويل والتصنيع والتشعيع التي انطوت على مواد نووية”.
وفيما خلُصت الوكالة في تقريرها حينها إلى أنه لم يتوافر دليل على أن تجارب إيران المكتشفة تعلقت ببرنامج تسلح نووي، إلا أنها أكدت أنه نظراً لـ”نمط الإخفاء” الذي اتبعته طهران، فإن الوكالة لا تستطيع التأكيد أن برنامج إيران النووي “مخصص حصراً للأغراض السلمية”.
تجدر الإشارة إلى أن طهران لم تقل بأنشطتها النووية المدرجة في تقرير الوكالة ولم تبدأ التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلا بعد تهديد الوكالة لطهران بتحويل ملفها النووي للبحث في مجلس الأمن الدولي.
وفي 18 ديسمبر/كانون الأول 2003 انتهت الأزمة بعد سلسلة من المفاوضات بين إيران وفرنسا وألمانيا، أسفرت عن توقيع إيران لبروتوكول تتعهد بموجبه بتعليق تخصيب اليورانيوم وأنشطة إعادة المعالجة، وبتزويد الوكالة الدولية للطاقة الذرية بجميع تفاصيل أنشطتها النووية، مقابل اعتراف الدول الأوروبية بحق إيران بتخصيب اليورانيوم والسعي إلى التوصل إلى “ضمانات مرضية” بشأن برنامجها النووي.
لكن التعاون بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية لم يدم طويلاً، فبينما تعلن إيران التزامها بتعهداتها، أصدرت الوكالة تقريرا لها في فبراير/شباط 2004، تذكر فيه أن مفتشي الوكالة الدولية للطاقة اكتشفوا وجود آثار لليورانيوم عالي التخصيب في موقعين مختلفين، وأن درجة نقاء ما تم اكتشافه كانت كافية لإنتاج أسلحة نووية.
وفي 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2004، أصدر مجلس محافظي الوكالة بياناً انتقد فيه “مواصلة إيران بعض أنشطتها النووية”، ومنها إنتاج غاز “سداسي فلوريد اليورانيوم” (UF6).
وفي حين إعلان إيران وقف أنشطة التخصيب، أكدت الوكالة استمرارها، وظل التصعيد بين الطرفين حتى أعلنت الوكالة في بيان لها سبتمبر/أيلول 2005 إحالة ملف إيران إلى مجلس الأمن الدولي.
وردت إيران بتعليق العمل بالبروتوكول الإضافي وجميع أشكال التعاون الطوعي مع الوكالة، وأعلنت للمرة الأولى في 11 أبريل/نيسان 2006، نجاحها في تخصيب اليورانيوم بدرجة 3.5 في المئة، لتتوالى في السنوات اللاحقة حلقات التجاذب الغربي- الإيراني والعقوبات الدولية على إيران.
وفي يونيو/حزيران 2006، انضمت الولايات المتحدة وروسيا والصين إلى بريطانيا وفرنسا وألمانيا لتشكيل مجموعة الدول الخمس زائد واحد، التي تحاول إقناع إيران بالحد من برنامجها النووي.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2007، أعلنت طهران أن أجهزة الطرد المركزي التي تعمل على تخصيب اليورانيوم، بلغ عددها 3000 جهاز بعد أن كانت بضع مئات فقط في عام 2002.
وفي يونيو/حزيران 2010، فرض مجلس الأمن الدولي حظرا شاملا على تصدير الأسلحة إلى إيران من قبل أي من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2011، توقفت المفاوضات بين إيران ومجموعة 5+1.
وفي يناير/كانون الثاني 2012، قالت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إن إيران تعمل على زيادة خصوبة اليورانيوم إلى 20 بالمئة في منشأة جبلية بالقرب من فوردو، وفي مايو/أيار 2015 طلبت الوكالة تفتيش مواقع عسكرية إيرانية، إلا أن المرشد الإيراني علي خامنئي قال حينها إن بلاده لن تسمح بتفتيش مواقع عسكرية في طهران واستجواب علماء إيرانيين ولن تتنازل أمام ما وصفه بـ “الغطرسة”.
لكن تراجعت إيران بعد ذلك، وزار مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية آنذاك، يوكيا أمانو، في 20 سبتمبر/أيلول 2015، موقع “بارشين”، وتسلم خلال زيارته عينات أخذها علماء إيرانيون من المنشأة بإشراف الوكالة.
وفي تقرير أصدرته في الثاني من ديسمبر/كانون الأول 2015، قالت الوكالة إن المعلومات المتاحة لها من تحاليل العينات وصور الأقمار الصناعية، تشير إلى أن إيران “صنّعت وركبت أسطوانةً كبيرةً تستخدم لأغراض نووية، في مجمع بارشين العسكري في عام 2000” ، في ما يتناقض مع إعلان إيران بشأن الغرض المناط بالمبنى موضع الشبهات، وأضافت الوكالة أن إيران تقوم بأنشطة مكثفة في هذا الموقع منذ فبراير/شباط 2012 .
وجاء التراجع الإيراني حينها والسماح بتفتيش منشأة “بارشين”، تمهيداً للتوقيع على الاتفاق النووي عام 2015، لتهدأ الخلافات حول الملف النووي بين إيران والغرب والوكالة الدولية للطاقة الذرية حتى أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مايو/أيار 2018 انسحاب بلاده منه.
لتبدأ جولات جديدة من صدامات إيران مع الوكالة والمجتمع الدولي حول برنامجها النووي، آخرها إصدار الوكالة الدولية للطاقة الذرية قرارا ضدها، وإعلان طهران في المقابل بضخ الغاز لتشغيل آلاف من أجهزة الطرد المركزي المتطورة لتخصيب اليورانيوم، بينما تستعد لجولة تفاوض جديدة حول ملفها النووي مع الدول الأوروبية في مدينة جنيف، فهل تنتهي الجولة بالتوصل لاتفاق أم تصبح محطة لتصعيد جديد؟