كتب: ربيع السعدني
وجَّه الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان رسالة إلى إدارة ترامب الجديدة، في سياق إشارات متباينة أرسلها كلا الطرفين بشأن المواجهة أو التفاهم الدبلوماسي، وأعلن في مقابلة أجراها مع شبكة “NBC” التلفزيونية الأمريكية، شرح فيها مواقف وتوجهات طهران والحكومة الرابعة عشرة: “نحن لا نبحث عن الحرب أو إراقة الدماء أو الصراع أو الاضطرابات في المنطقة، نحن نبحث عن السلام”، حسبما ذكرت وكالة “إرنا” الرسمية في 15 يناير/كانون الثاني 2025.
سلام مشروط
وأعلن بزشكيان في 15 يناير/ كانون الثاني 2025 في معرض رده على أسئلة الصحفيين على هامش اجتماع للحكومة الإيرانية حول إمكانية التفاوض مع الولايات المتحدة وإدارة ترامب الثانية: “على أمريكا أولاً أن تثبت أنها تفي بوعودها، عندما تقبل بذلك، سنتفاوض”، ولم يحدد بزشكيان ما الكلمات التي يجب أن يتبعها دونالد ترامب، الذي عاد في 20 يناير/كانون الثاني 2025 إلى البيت الأبيض رئيساً للولايات المتحدة بعد مراسم التنصيب.
في الوقت ذاته يخشى بزشكيان أن تواصل إدارة ترامب الجديدة سعيها نحو إحياء حملة “الضغوط القصوى” ضد إيران، ولذلك حذر في المقابلة الأخيرة من أي هجوم على المواقع النووية بطهران، وقال: “هذه الهجمات العسكرية ستكون بلا شك ضارة للمنطقة والعالم، فإيران ليست غزة أو سوريا، ولديها القدرة على الرد بقوة على هذه الهجمات، لكننا لا نسعى أبداً إلى التسبب في اندلاع حرب بالمنطقة أو – لا قدر الله- أن نؤدي إلى انعدام الأمن في المنطقة، نحن لسنا خائفين من الحرب، لكننا لا نبحث عنها”.
دولة راعية للإرهاب
ثم يعود ليضرب من جديد ويؤكد أن “الدولة التي تتحدث عن السلام والحرية وتدعي حقوق الإنسان تدافع الآن للأسف عن كيان قتل أكثر من 50 ألف امرأة وطفل وشيخ وشاب ودمر مدارس مستشفيات ومنازل وبنية تحتية وكل مقومات الحياة في غزة، وهو أمر لا يمكن الدفاع عنه بأي حال من الأحوال، الحرب هي بين الجيوش، وليس بين الناس العاديين والأبرياء الذين يفقدون حياتهم”.
وفي هذه المقابلة التي أجريت في طهران، قال بزشكيان رداً على سؤال حول المؤامرة ضد ترامب التي أبلغ عنها مسؤولون أمريكيون: “هذه واحدة أخرى من تلك الخطط التي تضعها إسرائيل ودول أخرى لتعزيز معاداة إيران، لم تحاول إيران مطلقًا اغتيال أحد وليس لديها أي خطط للقيام بذلك.. على الأقل بقدر ما أعلم”.
وفي السياق ذاته قال بزشكيان خلال اجتماع مع المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2024: “الحرب ليست في مصلحة إيران أو المنطقة أو العالم، ولن يرغب أي عاقل في بدء حرب وصب الزيت على النار مع ذلك، في كل الظروف، سنرد بحزم وشدة على أي إجراءات ضد أمننا”.
كما أكد بزشكيان أن طهران لن تسعى أبداً إلى تطوير أسلحة نووية، حيث تم حظرها من قبل المرشد علي خامنئي.
محاولة لخطب ود ترامب
وفي مقابلته، أعلن بزشكيان استعداد إيران “المبدئي” للحديث مع الإدارة الثانية لترامب، لكنه قال إن الولايات المتحدة لم تفِ بالتزاماتها في الماضي وسعت إلى الإطاحة بالحكومة الإيرانية، وقال إن “مشكلتنا ليست في الحوار، لكن بالتعهدات التي يجب الالتزام بها بعد الحوار والتفاوض هي التي يتعين علينا الالتزام بها، وعندما تفاوضت طهران مع القوى الكبرى بشأن برنامجها النووي في المحادثات التي جرت مع مجموعة (5+1) والتي استمرت لفترة طويلة، التزمنا بكل تعهداتها، ولكن للأسف الطرف الآخر هو الذي لم يلتزم بهذه التعهدات”.
إرث الولاية الأولى
وفي إشارة إلى الإجراء الذي اتخذه الأمريكيون بالانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة قال بزشكيان في كلمته أمام الدورة الـ79 للجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 25 سبتمبر/أيلول 2024: “نحن على استعداد للعمل مع المشاركين في خطة العمل الشاملة المشتركة إذا تم الوفاء بالتزامات الخطة المشتركة من قبل أطراف الاتفاقية بالكامل وبحسن نية”.
ترامب الذي تُكِن له طهران عداء خاصاً في ظل إرث الولاية الأولى له، حيث انسحب من الاتفاق النووي في 8 مايو/أيار 2018، وأعاد فرض العقوبات الأمريكية عليها في 7 أغسطس/آب من العام نفسه، وأصدر الأمر باغتيال القائد السابق لفيلق القدس المسؤول عن إدارة العمليات الخارجية للحرس الثوري قاسم سليماني في 3 يناير/كانون الثاني 2020، وهي الضربة التي لم تنجح إيران في استيعابها قط، وإنما يكمن أيضاً في توقيت عودته إلى البيت الأبيض، ونفذ عقوبات شاملة، وبدورها، توقفت إيران تدريجياً عن تنفيذ التزاماتها بموجب الاتفاق النووي لفترة طويلة حتى تنحى ترامب عن منصبه وأصبح بايدن رئيساً للولايات المتحدة بشعار العودة إلى الاتفاق النووي.
إحياء الاتفاق النووي
بعد وصول جو بايدن إلى السلطة، واصلت حكومتا حسن روحاني وإبراهيم رئيسي المفاوضات لإحياء الاتفاق النووي ورفع العقوبات، ورغم أن المحادثات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة في عهد حكومة رئيسي كانت أقرب من أي وقت مضى إلى اتفاق جديد، إلا أنه مع اندلاع الشرارة الأولى لاضطرابات 2022 تخلى الجانب الأمريكي عن طاولة المفاوضات وتحول إلى دعم النظام الإيراني، على أمل أن يستعيد النظام عافيته، لكن لم تتوصل أي منهما إلى نتيجة.
خطة العمل الشاملة المشتركة، واختصارها (JCPOA) هي اتفاق تم التوصل إليه بين إيران والدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وروسيا والصين) بالإضافة إلى ألمانيا وتم التوقيع عليه، وفي 15 يناير/كانون الثاني 2016، دخل الاتفاق النووي حيز التنفيذ، ليبدأ بالتبعية رفع العقوبات الاقتصادية التي كانت قد فرضت على طهران منذ العام 1979.
لعبة القط والفأر
وفي الرد على سؤال حول تهديد ترامب بتنفيذ سياسة الضغط الأقصى ضد إيران قال بزشكيان: “من الواضح حتى الآن أننا شهدنا منذ البداية أن الولايات المتحدة حاولت الإطاحة بحكومتنا، ونتيجة لذلك زادت العقوبات ضد إيران يوماً بعد يوم، لقد حاولنا دائمًا العيش بسلام، ولكنهم للأسف يزيدون الضغط علينا يومًا بعد يوم، لقد خلقت العقوبات مشاكل لنا، ولكن هذا لا يعني أننا لا نستطيع البقاء على قيد الحياة في ظل هذه العقوبات”، وأضاف: “أتمنى أن يجلب ترامب السلام إلى المنطقة والعالم، وليس نشر الحرب والاضطرابات وإراقة الدماء، هذا ما نتوقعه حتى نتمكن من التحرك والمضي قدماً في الاتفاقات التي تم التوصل إليها سابقاً من أجل السلام والاستقرار”.
ماذا تريد طهران من إدارة ترامب الجديدة؟
حديث الرئيس الإيراني الأخير عن استعداد طهران المبدئي للتفاوض مع الولايات المتحدة، سبق أن كرره مستشاره الاستراتيجي محمد جواد ظريف الذي صرح في مقال نشر في مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية بأن “إيران مستعدة للتفاوض، بما في ذلك مع الولايات المتحدة”.
وفي هذا الإطار، أكد ترامب خلال حملته الانتخابية للرئاسة في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 أن سياسته تجاه إيران في ولايته الثانية ستكون “مختلفة للغاية” عن الأولى، حيث رفض سياسة “تغيير النظام” وأعاد التأكيد على رغبته في نجاح إيران، لكنه أكد أيضًا معارضته لحصول إيران على سلاح نووي!
وفي 16 سبتمبر/أيلول 2024، أعلن مسعود بزشكيان، في المؤتمر الصحفي الأول للرئيس الـ14 لإيران: “أن طهران مستعدة لإجراء حوار “بنّاء” و”تفاعل” مع الغرب بشأن البرنامج النووي، وأنها ترغب في تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة”.
وفي مقابلة مع موقع “إنصاف نيوز” الإصلاحي، يوم 18 يناير/كانون الثاني 2025 ذكر مستشار الرئيس الإيراني للشؤون التنمية الاقتصادية عبد العلي زاده: “نحن مستعدون للتفاوض مباشرة مع الولايات المتحدة، وقد نتوصل إلى اتفاق بعد شهرين إلى ثلاثة أشهر من بدء المفاوضات”، مضيفاً أن “الولايات المتحدة قادرة على الاستثمار في إيران”.
ومن جانبه قال مايك واتس، مستشار الأمن القومي المستقبلي لدونالد ترامب، في تصريحات خاصة لشبكة “Cbs News” الأمريكية، 19 يناير/كانون الثاني 2025: “في فبراير/شباط من هذا العام، ستتخذ الحكومة الأمريكية قرارات سياسية مهمة فيما يتعلق بإيران”.
تفاوض أم خوف!
وكتب مهدي طباطبائي، مستشار الرئيس الإيراني لشؤون الاتصالات، 14 يناير/كانون الثاني 2025 عبر حسابه على “منصة إكس” أن بزشكيان أعلن في مقابلة مع شبكة “NBC” الأمريكية أن طهران “مستعدة لمفاوضات شريفة ومتساوية”.
وأضاف، نقلاً عن وكالة أنباء “إيسنا”: “إيران تريد السلام ووقف التصعيد في المنطقة والعالم، وهي تدين دعاة الحرب والعدوان والإبادة الجماعية التي يمارسها النظام الإسرائيلي وهي مستعدة لمفاوضات شريفة ومتساوية”.
وعلى الرغم من ترحيب مسؤولي الحكومة الرابعة عشرة بالمفاوضات مع إدارة ترامب، وصف خامنئي، المؤيدين للمفاوضات مع الولايات المتحدة بأنهم “خائفون”، وطالب مسؤولي النظام بعدم مراعاة “توقعات الأمريكيين غير المعقولة لأن المفاوضات لن تحل المشكلة مع أمريكا” عند اتخاذ القرارات بشأن قضايا مختلفة مثل الحجاب والتضخم والعملة.
علي سبيل المثال بحسب خامنئي في “اتفاق الجزائر” الموقع بين إيران والولايات المتحدة بخصوص إطلاق سراح الرهائن عام 1981 قائلاً: “جلستم وتحدثتم مع أمريكا في ذلك الوقت، كنت عضوًا في البرلمان، لقد وقعوا عقدًا وأخذوا عدة التزامات للإفراج عن ثرواتنا ورفع العقوبات، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لبلادنا ونحن، أيضاً من هذا الجانب سوف نقوم بإطلاق سراح الرهائن، لقد أطلقنا سراحهم.. فهل أوفت أمريكا بتلك الالتزامات؟ هل رفعت أمريكا الحظر؟ هل أعادت لنا أمريكا ثرواتنا المجمدة؟ لا، أمريكا لا تفي بالتزاماتها”.
هنا، يمكن تفسير الهجوم الواسع الذي تعرض له الرئيس مسعود بزشكيان من جانب تيار المحافظين الأصوليين، ووسائل الإعلام القريبة منه على غرار صحيفة “كيهان” الأكثر قرباً من المرشد علي خامنئي، وكتب رئيس تحريرها شريعتمداري، مقالاً في افتتاحية الصحيفة الأصولية 4 يناير/كانون الثاني 2025: “أولئك الذين يطرحون موضوع المفاوضات مع أمريكا إما نائمون أو سكارى أو مجانين“.
وفي افتتاحية عدد يوم 15 يناير/كانون الثاني 2025، من صحيفة “كيهان” المقربة من المرشد الإيراني كتب شريعتمداري، مقالة بعنوان “سيد بزشكيان، أنت لست مالكاً لإيران“، انتقد فيها دعوة الرئيس إلى التفاوض ونفيه رغبة إيران في الانتقام من ترامب بسبب إصداره أمراً بقتل سليماني، واعتبر أن ذلك يمثل تجاوزاً لصلاحيات رئيس الجمهورية الذي يتولى السلطة التنفيذية فقط.