ترجمة: يسرا شمندي
تواجه تركيا تحديًا ممتدًا مع القضية الكردية، حيث تتشابك الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية لتشكل أزمة متعددة المستويات. ويعكس التعامل التركي مع الأكراد مقاربة متباينة تهدف إلى فرض السيطرة وتقليص التحديات الأمنية، مع توظيف أدوات عسكرية وسياسية لتحقيق أهداف إقليمية أوسع.
وفقاً لتقرير نشرته صحيفة فرهيختكان بتاريخ 7 يناير/كانون الثاني 2025، أسفر انهيار نظام بشار الأسد عن إزالة إحدى العقبات التي كانت تواجهها تركيا في المنطقة، مما أدى إلى زيادة تركيز أنقرة على قضية الأكراد. ومع سقوط دمشق بيد جماعة “تحرير الشام”، استمر الجيش التركي في تحقيق تقدمه داخل الأراضي السورية، وبدأت جولة جديدة من الاشتباكات مع الأكراد في شرق سوريا من خلال عمل مباشر واستغلال “الجيش الوطني السوري” التابع للجماعة المسلحة.
إن تركيز تركيا على القضية الكردية واستخدامها العنف بشكل مكثف يعكس عمق هذا التوتر الممتد. ويحاول التقرير استعراض الأبعاد المختلفة للصراع بين تركيا والأكراد.
النظرة التركية تجاه الأكراد
لتفسير سبب تعامل تركيا مع الأكراد وأبعادها وغاياتها، لا بد من فهم وجهة نظر أنقرة تجاههم.
1- انهيار الدولة العثمانية مع العرب.. واهتزاز تركيا مع الأكراد
ذكرت الصحيفة أنه بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، لم يتبقَّ للأمة التركية سوى أراضٍ محدودة. ولكن بفضل جهود كبيرة قادها “أتاتورك”، تمكنوا من استعادة أهم المناطق العثمانية في الأناضول وقرروا تأسيس تركيا الحديثة. ورغم ذلك، يعاني الأتراك في هذه الأراضي من تحديات سكانية. وفي وقت سابق، كان النسيج العربي للإمبراطورية العثمانية وتمرداتهم عاملًا رئيسيًا في انهيارها. لعقود، كما كانت التمردات الكردية أيضًا سببًا رئيسيًا في الأزمات المستمرة التي واجهتها تركيا. لقد أدت التحديات المتكررة والمعقدة إلى قلق مستمر في أنقرة بشأن القضية الكردية، وعلى الرغم من نجاحات الحكومة التركية ضد الأكراد، تبقى المشكلة عميقة وقد تنفجر في أي لحظة. وبذلك، من المرجح أن تظل تركيا غارقة في هذا التحدي ما لم تتمكن من إحداث تغييرات ديموغرافية.
2- التناقض مع الأمر الوطني.
وأشارت إلى أنه لو أن 60 إلى 70 بالمائة من سكان تركيا من الأتراك، وكان الـ30 إلى 40 بالمائة المتبقية مقسمة بين أعراق أخرى بحيث لا يتجاوز كل منها 10 بالمائة، لكانت الهوية التركية لتركيا مقبولة بسهولة. ولكن مع وجود قومية رئيسية أخرى، يصبح الأمر أكثر تعقيدًا. جغرافيًا، يمثل جنوب شرق تركيا موطن الأكراد في العالم ويغطي ثلث الأراضي التركية.
3- هل تركيا هي موطن الأتراك أم الأكراد؟
أضافت الصحيفة: تُعد تركيا أكبر موطن للأكراد في العالم، حيث يعيش حوالي 20 إلى 30 مليون كردي من إجمالي 40 إلى 50 مليونًا على مستوى العالم. وبذلك، فإن جنوب شرق تركيا يشكل مركز الأكراد الرئيسي في العالم. غير أن تركيا لا تستطيع أن تكون في نفس الوقت مركزًا للدول التركية وقلبًا للأكراد في آن واحد. ولتتمكن أنقرة من أن تلعب دور قلب الدولة التركية، فإنها بحاجة إلى تجاوز القضية الكردية.
4- التفاوت الشامل بين الأعراق والأديان
وأشارت إلى أنه قد أسهم الأكراد، إلى جانب قوميتهم، في خلق فروق دينية بارزة في تركيا. بينما يتبع الأتراك المذهب الحنفي من أهل السنة، يعتنق الأكراد المذهب الشافعي. وهناك فئة أخرى من الأكراد تتبع مذهب العلويين. إن هذه الاختلافات الشاملة في العرق والدين بين الأكراد قد زادت من عوامل الفرقة. وفي ظل هذه الظروف، يصبح من الصعب تحقيق التآلف أو دمج الأكراد في المجتمع التركي.
5- التهديد الديموغرافي والتحول إلى قومية سائدة
وذكرت أن معدل نمو السكان بين الأكراد في تركيا يتفوق على معدل نمو سكان الأتراك. فمنذ حوالي عشرة أعوام، كانت هناك مزاعم بأن معدل النمو السكاني في المناطق الكردية في تركيا كان يتراوح من ضعفين إلى ثلاثة أضعاف معدل النمو في المناطق التي يقطنها الأتراك. وبالنظر إلى التقارب السكاني بين المجموعتين، قد يصبح الأكراد في العقود القادمة أكبر مجموعة عرقية في تركيا. ومع ذلك، فإن المعدل المرتفع لا يخص جميع الأكراد، حيث إن معظمهم قد هاجروا إلى المناطق الداخلية في البلاد، واختاروا أسلوب الحياة ذاته الذي يتبعه الأتراك. لذا، يعد هذا المعدل المرتفع متعلقاً أساساً بالمناطق الرئيسية لأكراد تركيا.
6- احتمال وصول المهاجرين بالداخل التركي
ذكرت الصحيفة أنه مع النمو الاقتصادي الذي شهدته تركيا وتطور مدن مثل إسطنبول، أصبحت المناطق المركزية والغربية في البلاد تستضيف ملايين الأكراد الذين انتقلوا إليها للعمل والدراسة. واليوم، تعتبر إسطنبول من أكبر المدن التي يقطنها الأكراد في تركيا، رغم أنهم لا يشكلون الأغلبية فيها. وإذا لم يتم حل القضايا التي تسبب الأزمة في المناطق الكردية، فقد تسعى بعض الجماعات ذات الأيديولوجيات القومية للاستفادة من هؤلاء المهاجرين لأغراضها الخاصة. وللحفاظ على الاستقرار في هذه المناطق، زادت دوافع تركيا للتفاعل مع القضايا الكردية. وعلى مدار العقود الماضية، لم تتمكن الحكومات التركية من السيطرة على انتشار الأكراد في المناطق المركزية، رغم أنه كان يُنظر إلى هذه الظاهرة على أنها فائدة للبلاد. أولًا، لقد كان انتقال الأكراد انتقالاً داخلياً داخل البلاد، ولم يكن لدى الحكومة مبرر لمنعه. المسألة الثانية تتعلق بالاختلاف في الإمكانات؛ ففي ظل الفقر والتخلف الذي تعاني منه جنوب شرق تركيا، كان من غير المتوقع ألا يتحرك السكان نحو المناطق المتقدمة والغنية في تركيا.
بعض العوامل التي تدفع تركيا لقمع الأكراد
أشارت الصحيفة إلى أن القضية الكردية تعتبر تحديًا طويل الأمد وعميقًا لتركيا، التي تسعى لقمعها. وتتبنى أنقرة نهجًا يتصاعد تدريجيًا يعززه عدة عوامل وهي:
1- النجاح في السيطرة على الأرمن
كان للأرمن وجود تاريخي يمتد من أرمينيا الحالية إلى أنطاكيا والساحل الشرقي للمتوسط. كما يُعتبر جنوب شرق تركيا موطنًا للأكراد، فإن شمال غربها كان مركزًا للأرمن. وفي نهاية الحقبة العثمانية، كان لهم تأثير كبير في شرق تركيا الحالية، ولكن السلطنة العثمانية قَمَعتهم حتى تضاءل وجودهم بشكل ملحوظ.
2- انتشار القضية الكردية
تعد القضية الكردية مشكلة شاملة في المنطقة، مما يجعل تركيا تشعر بوجود بيئة ملائمة للتعامل معها. بينما واجهت تركيا والعراق وسوريا وإيران مشاكل مع الأكراد، كانت القضية في إيران أقل حدة ولم تتحول إلى قضية قومية.
وأشارت الصحيفة إلى أنه في تركيا، يُنظر إلى الأكراد على أنهم عناصر غير مرغوب فيها وفقًا للموقف الرسمي لأنقرة. إن الأكراد في تركيا يعيشون في بيئة مليئة بالتناقضات، ويواجهون صراعات مشابهة في الدول العربية بسبب الهيمنة العربية، رغم أن وجودهم في العراق وسوريا يقتصر على الطابع الجغرافي وليس العرقي. في إيران، حيث يُعتبر الأكراد قومية إيرانية، لا يوجد صراع جوهري معهم، ولكن النزعة القومية الكردية ساهمت في تعقيد القضية.
أوجد انتشار القضية الكردية في المنطقة بيئة مواتية لتركيا، حيث تحظى بتعاطف من دول المنطقة، بينما تفتقر الدول التي تدعم الأكراد إلى الحافز لمساعدتهم، نظرًا لاستخدام القضية الكردية ضدها أيضًا.
3- آليات التوازن
أوضحت الصحيفة أن تركيا عملت على تطوير قدراتها السياسية والعسكرية، ولا سيما الاقتصادية. وتسعى أنقرة بشكل خاص إلى استخدام الأدوات الاقتصادية لمنع الدول الأخرى من دعم الأكراد ولإسكات اعتراضاتها على قمعهم. ولهذا السبب، تلتزم العديد من الدول الصمت تجاه السياسات المعادية للأكراد خوفًا من غضب أنقرة.
4- الاقتداء بالنموذج الإسرائيلي
وأضافت أن تركيا التي تسعى لإضعاف المناطق الكردية بنفس الطريقة التي يفرض بها الكيان الإسرائيلي سيطرته على السكان الفلسطينيين. وتعمل الحكومة التركية، من خلال بناء سدود كبيرة في جنوب شرق البلاد، على قطع الروابط الشعبية على جانبي الحدود. كما تسعى، خلال هجماتها على الأكراد في سوريا، إلى دفعهم للتراجع واستبدالهم بسكان من الأتراك والعرب في شمال شرق سوريا.
وتشمل خطوات تركيا: التطهير العرقي للأكراد، قطع التواصل بينهم، التدخل في شؤونهم الداخلية، التواجد العسكري في الجغرافيا الكردية، وفرض رقابة مكثفة جوية واستخباراتية على تلك المناطق تهدف إلى تخويف المعارضين، إلا أنها في جوهرها تستهدف تفريغ تلك المناطق سكانياً.
وذكرت أن تركيا قد شنت هجمات على المدن الكردية وقامت بتدميرها في عدة مرات بهدف إيجاد فجوة بين الجماعات الانفصالية وسكان الأكراد.
بعض أهداف تركيا
تسعى تركيا لتحقيق أهداف متعددة ومختلفة تحت ستار قمع الأكراد، والتي يمكن تلخيصها كالتالي:
1- تعزيز الرقابة على الموارد المائية
تعاني منطقة غرب آسيا من تفاقم أزمة المياه، بينما تتمتع تركيا بموارد مائية وفيرة بفضل السدود الضخمة التي تقيد تدفق المياه من نهري دجلة والفرات إلى الدول المجاورة. تسعى تركيا لتطوير مراكز زراعية وسياحية حول هذه السدود لتعزيز صناعتها الزراعية والغذائية، كما تهدف إلى بيع المياه واستخدامها كأداة ضاغطة. إلا أن المشكلة تكمن في أن هذه الموارد المائية موجودة في مناطق مأهولة بالسكان.
2. إضعاف الهوية الإيرانية في المنطقة
تشهد منطقة غرب آسيا تأثيرًا واضحًا لعناصر قومية ودينية، حيث تشمل القوميات الرئيسية الإيرانيين، الترك، العرب، واليهود. تسعى تركيا إلى إضعاف الهوية الإيرانية من خلال التلاعب بالعديد من العوامل، خاصة في ما يتعلق بالأذريين الذين يُعتبرون قومية إيرانية ذات صلة بالقبائل التركية. كما فشلت تركيا في تحقيق هذا الهدف خلال فترة الصفويين، حيث استند الأذريون إلى هويتهم الإيرانية وطابعهم الشيعي للدفاع عن كيانهم. بالإضافة إلى ذلك، تعمل تركيا على تقوية نفوذ التركمان في العراق وسوريا من خلال تعزيز وجودهم العددي والجغرافي في تلك المناطق.
3. الدخول إلى البيئة العربية بذريعة القضية الكردية
تقوم تركيا بتبرير تدخلاتها العسكرية في أراضي العراق وسوريا بحجة القضية الكردية. ففي العراق، يتمحور كامل الحضور التركي حول أزمة الكرد، بينما في سوريا، بالإضافة إلى القضية الكردية، تُعلن تركيا عن ذرائع أخرى لتبرير وجودها العسكري هناك.
لماذا أردوغان وحزب العدالة والتنمية؟
اختتمت الصحيفة التقرير بأنه في المشهد السياسي التركي، توجد قوتان رئيسيتان: العلمانيون الذين يعتمدون على القومية والنزعة الوطنية، والإسلاميون بقيادة أردوغان. بينما يواجه العلمانيون صعوبة في جذب دعم الأكراد بسبب موقفهم القومي، يستطيع أردوغان وحزب العدالة والتنمية استغلال توجهاتهم الإسلامية لكسب تأييد الأكراد، خصوصًا في المناطق الجنوبية الشرقية والمدن الكبرى. بفضل هذه الاستراتيجية، تمكن الحزب من الفوز بأصوات الأكراد، لا سيما من الشريحة المحافظة والمتدينة. وبالتالي، تعتبر القضية الكردية ذات أولوية، مما يفرض تعاونًا بين المؤسسات الحاكمة وأردوغان.