كتب: سيد نيما موسوي
ترجمة: علي زين العابدين برهام
خلافا للاعتقاد الشائع لدى كثير من الناس، فإن الشيعة من الناحية الفقهية ينقسمون إلى فرق وفروع متعددة. إضافة إلى الاختلافات الكلامية، هناك ثلاثة فروع فقهية رئيسية للشيعة هي: الزيدية، والإسماعيلية، والإمامية، ويتمحور خلافهم الأساسي حول نظام الإمامة.
الشيعة الإمامية يؤمنون باثني عشر إماما من ذرية النبي محمد (ص)، ويعتبرون أن الإمامة توقفت بعد الإمام الحادي عشر حتى ظهور الإمام الثاني عشر (المهدي). في المقابل، الشيعة الزيدية، الذين كانوا يستوطنون شمال إيران قبل أن ينتقلوا إلى اليمن منذ نحو ألف عام، يرون أن سلسلة الأئمة المتوكلية التي حكمت صنعاء حتى ستينيات القرن العشرين هي امتداد لسلسلة أئمة الزيدية.
أما الإسماعيليون، وهم طائفة أخرى من الشيعة، فيُشكلون أقلية مهمة في العالم الإسلامي، حيث يبلغ عددهم نحو 15 مليون نسمة، وهم عكس الشيعة الإمامية، يعتقد الإسماعيليون أن الإمامة بعد الإمام جعفر الصادق انتقلت إلى ابنه إسماعيل، بينما يعتقد الإماميون أن الإمامة انتقلت إلى الإمام موسى الكاظم.
وعلى الرغم من أن الشيعة الإمامية تميزوا بمعتقدات سياسية محدودة نسبيا، فإن الشيعة الزيدية تبنوا فكرة “الجهاد بالسيف”، في حين اتجه الإسماعيليون بشكل كبير نحو التركيز على السلطة السياسية. ومن أبرز الدول التي أسسها الإسماعيليون عبر التاريخ:
- الخلافة الفاطمية في مصر (القرون 10-11 الميلادية).
- دولة أوده في الهند (القرون 18-19).
- دولة بني صليح في اليمن (القرن 11).
- دولة القرامطة في البحرين (القرون 9-11).
- الدولة المستقلة للدروز في جنوب سوريا (القرن 20).
- دولة النزاريين في إيران (القرون 11-13).
الفاطميون في مصر كانوا في الغالب من الإسماعيليين المستعلية، بينما انتمى الإسماعيليون في إيران بشكل رئيسي إلى فرع النزارية. أما الإسماعيليون في الهند، فقد كانوا من فرع الطيبية، الذين اندمج معظمهم تدريجيا مع الإسماعيلية النزارية.
وحتى وقت قريب، كان “كريم آغا خان” يُعتبر الزعيم الروحي للإسماعيلية النزارية، وبعد وفاته، تولى ابنه “رحيم آغا خان” منصب الإمام الخمسين للإسماعيليين، ليواصل مسيرة قيادة هذه الطائفة.
من أبرز الشخصيات التاريخية التي انتمت إلى المذهب الإسماعيلي يمكن الإشارة إلى الشاعر الفارسي الشهير أبو القاسم الفردوسي والشاعر ناصر خسرو، وهما شاعران إيرانيان معاصران لفترة الخلافة العباسية.
اليوم، يعيش معظم الإسماعيليين في الهند، وأفغانستان، وطاجيكستان، وسوريا، ولبنان، وباكستان. كما أن هناك أقلية من الإسماعيليين، التي تقدر بعدد عدة آلاف، يعيشون بشكل سري في إيران. ويقال إن أهم مركز لوجودهم في إيران هو مدينة قائن قرب مشهد، وكذلك قرية كهك قرب قم. وقد جذب اهتمام بعض المستشرقين الغربيين، مثل إيليا بتروشفسكي، لدراسة الإسماعيلية، إضافة إلى إنتاج المسلسل المصري “الحشاشين” في السنوات الأخيرة، مما أثار فضول العديد من الباحثين والجمهور العادي حول هذه الطائفة من المذهب الشيعي.
عقائديا، يتميز الإسماعيليون بعقائد باطنية، وعلى الرغم من أنهم كانوا يُعتبرون في زمن الخلافة العباسية غير دينيين، فإن عقائدهم تمثل مزيجا بين الأديان الإيرانية القديمة والمذهب الشيعي. فهم يؤمنون بالقرآن الكريم وبنبوة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، ويتفقون مع الشيعة الإمامية في الاعتقاد بالإمام الأول. لكنهم يرون أن الإمامة بعد الإمام الصادق تكون لإسماعيل، ويعتقدون أن محمد بن إسماعيل هو المهدي المنتظر في آخر الزمان.
في الشريعة، يتفق الإسماعيليون مع الشيعة الإمامية، ولكن التسلسل الهرمي للوعاظ الإسماعيليين الذين يُطلق عليهم “الدعاة” يجعل عقائدهم قريبة من التصوف. وقد أسهمت شبكة من الوعاظ الإسماعيليين، الذين كانوا يعملون سرا، في إدخال مفهوم التأويل في تفسير الدين. ويُعتقد أن هذا التأويل له جذور في الفكر الصوفي الإيراني القديم، وكذلك تأثر بالتفسير الهرمنيوطيقي في اليونان القديمة. وصل هذا التأويل إلى الشرق الأوسط عبر حركة الترجمة في عصر هارون الرشيد والمأمون، مما ساهم في نشر التأويل في تفسير القرآن، وجعل الإسماعيليين أقرب إلى التصوف. بل إن بعض المتكلمين الإسماعيليين آمنوا بإمكانية التناسخ. وقد جعل هذا التأويل العديد من الفقهاء في المذاهب الإسلامية المختلفة يعتبرون الإسماعيلية طائفة منفصلة عن الإسلام بشكل عام.
إضافة إلى الإسماعيلية النزارية، هناك طوائف أخرى تُعتبر جزءا من المذهب الإسماعيلي في المعنى الأوسع. من أبرز هذه الطوائف: الدروز في الشرق الأوسط، والسليمانيون في اليمن، والبهرة الداوديون في شبه القارة الهندية.
يشكل الدروز طائفة مؤثرة في كل من سوريا ولبنان وإسرائيل، بينما حقق البهرة الداوديون ثروات كبيرة بفضل علاقاتهم التجارية الممتدة مع أوروبا. يُقال إن للبهرة الداوديين دورا بارزا في تجهيز وتولي إدارة المزارات الشيعية في العراق، حيث كانت تلك الأماكن تحت إشرافهم خلال فترة حكم صدام حسين.
في ما يتعلق بإسماعيل آغا خان وشبكته المالية والإعلامية الواسعة على المستوى العالمي، تجدر الإشارة إلى أن هذه الشبكة ليست فقط نتاج عقود من النشاط التجاري لعائلة آغا خان، بل تعتمد أيضا على أموال الزكاة التي يقدمها أتباع المذهب الإسماعيلي. فالملايين من الإسماعيليين حول العالم يخصصون جزءا من دخلهم الشهري لدعم مذهبهم وتعزيز شبكته الإعلامية.
خلال ما يقرب من 70 عاما من قيادته للمذهب الإسماعيلي عالميا، والتي امتدت حتى أوائل عام 2025، أسس كريم آغا خان شبكة واسعة تضمنت العديد من المدارس في أفغانستان، وحافظ على علاقات جيدة مع إمارة طالبان الإسلامية. كما اضطلعت مؤسسته بترميم العديد من المواقع التاريخية في أفغانستان، وضمن ذلك ضريح ظهير الدين بابر (إمبراطور الدولة المغولية) في كابول، وقلعة بالا حصار، وكذلك قلعة هرات.
وشملت استثمارات آغا خان في أفغانستان أيضا مشاريع بارزة، مثل بناء فندق سيرينا، وهو فندق خمس نجوم في كابول، إلى جانب تأسيس شركة الاتصالات “روشن” وإطلاق بنك للقروض الصغيرة، مما عزز من حضوره الاقتصادي في البلاد.
أما في طاجيكستان، فقد كانت استثمارات آغا خان ذات أبعاد سياسية واضحة، حيث تمتع بشعبية كبيرة بين سكان بدخشان، وهم غالبا من أتباع المذهب الإسماعيلي ولديهم علاقات متوترة مع حكومة إمام علي رحمان. ومن بين أبرز مشاريعه في طاجيكستان خلال السنوات الأخيرة، تأسيس جامعة خوروغ في بدخشان، وبناء “جسر الصداقة” فوق نهر آموداريا الذي يربط بين طاجيكستان وأفغانستان.
ورغم حرص آغا خان على تبني موقف سياسي متوازن بين سكان بامير في بدخشان وحكومة دوشنبه، فإن ممتلكاته في طاجيكستان صودرت من قبل السلطات هناك في عام 2023.
في الوقت ذاته، تُعد باكستان موطنا لأحد أبرز فروع الطائفة الإسماعيلية، رغم ندرة الحديث عنه. إذ ينتمي معظم سكان شعب “كالاش”، المقيمين في منطقة تشترال بإقليم خيبر بختونخوا، إلى المذهب الإسماعيلي، وكانوا منذ استقلال باكستان تحت تأثير شبكة آغا خان الثالث. وقد ساهمت أنشطته في جذب الإسماعيليين من الهند وبنغلاديش إلى باكستان.
إلى جانب ذلك، يوجد مجتمع إسماعيلي في منطقة تاشقورغان بمقاطعة شينجيانغ الصينية، حيث اعتنق بعض السكان هذا المذهب منذ أواخر عهد أسرة مينغ الحاكمة، بفضل جهود الدعاة الإسماعيليين في نشر تعاليمهم هناك.
وتشير بعض التكهنات إلى أن تنفيذ خطة تسليم ممر واخان إلى باكستان وإنشاء ممر بري يربطها بطاجيكستان قد يعزز الروابط بين الإسماعيليين في بدخشان الطاجيكية، وتشترال الباكستانية، وتاشقورغان الصينية، وبدخشان الأفغانية، بل وربما يمهد الطريق لإنشاء كيان ذاتي الحكم خاص بالإسماعيليين في هذه المنطقة. وتُسهِّل علاقات آغا خان الوثيقة مع حكومات المنطقة، لا سيما الصين، إمكانية تحقيق هذا المشروع.
إلى جانب استثمارات آغا خان الواسعة في مختلف أنحاء العالم، تُعد مشاريعه في إفريقيا من بين الأبرز والأكثر إثارة للانتباه. ففي شرق القارة، تتولى مؤسسته إدارة شبكة “نيشن” الإعلامية، التي تُعد واحدة من أهم المنصات الصحفية في المنطقة. وتُصنف صحيفة “نيشن“ اليوم ضمن أبرز المطبوعات في كينيا، كما يُنظر إليها على أنها جزء من اللوبي الإعلامي الصيني في إفريقيا، وهو أمر يمكن تفسيره في ضوء الاستثمارات الصينية الضخمة في كينيا والعلاقات الوثيقة التي تربط آغا خان بالصين.
يعود الحضور الاقتصادي لآغا خان في كينيا إلى الحقبة الاستعمارية، حينما كانت الهند وكينيا تخضعان للحكم البريطاني. آنذاك، تم نقل أعداد كبيرة من الإسماعيليين والبهرة الشيعة من الهند إلى مناطق مثل زنجبار ومومباسا، مما أسس لقاعدة مجتمعية واقتصادية شكلت نقطة انطلاق لأنشطة كريم آغا خان في كينيا خلال العقود الأخيرة.
وإضافة إلى نفوذه في إفريقيا، يُعد المركز الرئيسي للإسماعيليين في الولايات المتحدة، الكائن في هيوستن، بولاية تكساس، نقطة ارتكاز مهمة لأنشطتهم في أمريكا. أما على المستوى الروحي، فيُعتبر المقر الرئيسي للإسماعيليين عالميا، الواقع في لشبونة، البرتغال، مركزا ذا تأثير بارز على المجتمع الإسماعيلي حول العالم.
رغم تنوع استثمارات آغا خان في مجالات الثقافة والفنون والإعلام والاقتصاد، فإن نجاحه في بناء شبكة نفوذه يعود بشكل كبير إلى علاقاته الوثيقة مع العائلة المالكة البريطانية. وعلى الرغم من أن جذور العلاقة بين الإسماعيليين والغرب تعود إلى فترة الصراعات الصليبية مع الدولة الفاطمية، فإن الروابط الحقيقية ترسخت خلال الحقبة الاستعمارية البريطانية للهند، حيث نشأت علاقات قوية بين بريطانيا والإسماعيليين، خاصة مع دولة أوده في شمال شبه القارة الهندية.
في عهد الدولة القاجارية في إيران، ومع احتدام التنافس بين روسيا القيصرية وبريطانيا على النفوذ في البلاد، سعت بريطانيا إلى الاستفادة من نفوذ الإسماعيليين كأداة ضغط على القاجاريين، الذين كانوا يتمتعون بعلاقات وثيقة مع روسيا. وبلغ هذا الصراع ذروته مع انفصال هرات عن إيران، حيث لعب آغا خان محلاتي دورا محوريا في التمرد ضد محمد شاه القاجاري، بدعم مباشر من بريطانيا.
تعززت هذه العلاقات بشكل أكبر خلال فترة حكم آغا خان الثالث (سِر محمد شاه الحسين) الذي تمكن، بفضل الدعم البريطاني، من توسيع نفوذ شبكته الاجتماعية والاقتصادية. وكانت علاقاته الوثيقة مع اللورد نورث كورت، الحاكم البريطاني لمدينة بومباي، مفتاحا لتوسيع نفوذه في المنطقة. ومع انفصال باكستان عن الهند، انتقل جزء كبير من المجتمعات الإسماعيلية إلى باكستان، وكان آغا خان الثالث أحد الفاعلين الرئيسيين في هذا التحول. وقد بلغت مكانته لدى البريطانيين حدّا مكّنه من تولي منصب الأمين العام لعصبة الأمم بين عامي 1937 و1938.
في عهد آغا خان الرابع (1957-2025)، استمرت هذه العلاقات الوثيقة مع بريطانيا. وبعد وفاته، وصفه الملك تشارلز الثالث بأنه “صديق مقرب له ولوالدته، الملكة إليزابيث الثانية”. كما بعث برسالة تهنئة إلى رحيم آغا خان بمناسبة توليه منصب الإمام الخمسين للطائفة الإسماعيلية، مما يؤكد استمرار العلاقات الوثيقة بين العائلة المالكة البريطانية والطائفة الإسماعيلية.
في إيران، ورغم العلاقات الوثيقة التي جمعت كريم آغا خان بنظام الشاه، فإنه بعد الثورة الإسلامية عام 1979 لم يكن له أي صلات تُذكر مع إيران. فقد بقي الإسماعيليون في إيران بعد الثورة أقلية صامتة، لم يكن لهم دور مستقل في أي من التحولات الاجتماعية والسياسية التي أعقبت الثورة، مما أدى إلى وضع علاقته بالنظام الجديد في حالة من التباعد المحايد، لا هي جيدة ولا هي متوترة بشكل صريح.
في تسعينيات القرن الماضي، كان من المقرر أن يحضر كريم آغا خان احتفالية تكريمية لحسن الصباح في قلعة ألموت شمال قزوين، إلا أن الدعوة أُلغيت بسبب اعتراضات داخلية. ومن خلال هذا التباعد بين شبكة آغا خان وإيران، يمكن الاستنتاج أن سياسة إيران لا تقوم على الطائفية أو دعم الشيعة دون قيد أو شرط، بل تستند إلى مصالح استراتيجية أوسع، مثل مواجهة إسرائيل. وهذا يتضح من القطيعة الكاملة بين إيران وشبكة آغا خان طوال العقود الماضية، عكس العلاقة الوثيقة التي جمعت آغا خان بالنظام الإيراني قبل الثورة.
واليوم، بعد وفاة كريم آغا خان بعد 68 عاما من قيادته للطائفة الإسماعيلية، انتقلت زعامة هذه الإمبراطورية المالية والإعلامية إلى ابنه رحيم آغا خان، الذي أدى دورا بارزا في توسيع شبكة آغا خان خلال السنوات الماضية، وقد تم تنصيبه إماما للإسماعيليين في فبراير/شباط 2025 بمدينة لشبونة، وفقا لوصية والده. ويبقى التساؤل: هل سيتمكن رحيم آغا خان من الحفاظ على وتيرة النمو المالي والتوسع العالمي للطائفة، كما حدث خلال العقود السبعة الماضية، أم ستشهد المرحلة الجديدة تغيرات مختلفة؟