كتبت: راحلة كاويار
ترجمة: علي زين العابدين برهام
كان السودان، البلد الواقع في شمال شرق أفريقيا، يوما في طليعة النضال ضد الاستعمار البريطاني، لكنه اليوم غارق في واحدة من أشد الحروب الأهلية دموية في العقود الأخيرة.
غير أن ما يجعل هذا الصراع مختلفا عن النزاعات الداخلية الأخرى في أفريقيا هو التدخل الصريح والمؤثر للقوى الخارجية، التي لا ترى في السودان دولة منكوبة بأزمة داخلية، بل ساحة جديدة لصراع جيوسياسي محموم.
ففي ظل تصاعد المواجهات، يبدو السودان عالقا بين كونه ساحة حرب بالوكالة بين القوى الدولية والإقليمية، واحتمالية تحوله إلى حليف جديد في محور المقاومة، مما يجعل مستقبله مفتوحا على سيناريوهات معقدة وحاسمة.
نار اشتعلت من الداخل وزادها التدخل الخارجي
في أبريل/نيسان 2023، تحوّل تحالف عسكري دامَ لسنوات إلى صراع دموي مفتوح على السلطة، حيث دخل عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، في مواجهة مباشرة مع محمد حمدان دقلو، المعروف بحميدتي، قائد قوات الدعم السريع.
هذه الحرب، التي اندلعت بين أقوى جناحين عسكريين في السودان، سرعان ما تحوّلت إلى كارثة وطنية، حيث أسفرت خلال عامين فقط عن أكثر من 13 ألف قتيل وملايين النازحين.
تحوّلت مدن رئيسية مثل الخرطوم، ونيالا، ودارفور إلى ساحات معارك شرسة، في ظل دمار واسع للبنية التحتية، وانهيار النظام الصحي، وتفاقم المجاعة وانعدام الأمن الغذائي، مما جعل السودانيين يواجهون واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخهم الحديث.
أجرى “زاد إيران” حديثا مع جعفر قنادباشي، الخبير في الشأن الإفريقي، تناول فيه جذور هذا الصراع، إذ صرح بأنه منذ نحو عامين، اندلعت الحرب الأهلية في السودان بين فصيلين عسكريين كانا في السابق حليفين. لكن نزعة قادتهما إلى السلطة دفعتهم إلى إشعال فتيل الحرب، ما أدى إلى تدمير البنية التحتية بالكامل، وتشريد الملايين، وإلحاق ضرر جسيم بالاقتصاد أعاده سنوات إلى الوراء.
عندما أصبح السودان ساحةً لصراع القوى الكبرى
منذ الأشهر الأولى للحرب، بدأت مؤشرات التدخل الخارجي تظهر بوضوح. فقد سعت الولايات المتحدة وإسرائيل، عبر اتصالات مباشرة مع البرهان، إلى ترسيخ نفوذهما في الخرطوم، في حين كشفت تقارير عن دعم غير معلن من الإمارات وبعض القوى الإقليمية لحميدتي.
وهكذا، سرعان ما تحوّل السودان من أزمة داخلية إلى ساحة تنافس جيوسياسي، حيث تسعى كل قوة لضمه إلى معسكرها في المستقبل.
في هذا السياق، يقول جعفر قنادباشي إن استمرار الحرب في السودان لم يكن ممكنا لولا التدخلات الخارجية. لقد أصبح السودان فعليا ساحة لصراع القوى الكبرى، حيث يدير كل طرف لعبته الخاصة، مما أطال أمد الحرب وزاد من حدّتها.
علاقات متقلبة مع إيران.. من التحالف الاستراتيجي إلى القطيعة
شهدت العلاقات بين السودان وإيران تحولات معقدة على مدار العقود الماضية. ففي تسعينيات القرن الماضي والعقد الأول من الألفية الجديدة، خاصة خلال حكم عمر البشير، كانت إيران أحد الحلفاء الرئيسيين للخرطوم. حيث رست السفن الحربية الإيرانية في ميناء بورتسودان، وشهدت العلاقات تعاونا أمنيا وتقنيا وطبيا وثقافيا واسع النطاق.
لكن هذه الشراكة انهارت تحت ضغوط السعودية، والولايات المتحدة، وإسرائيل. ففي عام 2016، قطع السودان علاقاته مع إيران وانضم إلى التحالف العربي ضد اليمن، في تحول جذري في سياسته الخارجية.
يشرح جعفر قنادباشي هذا المسار التاريخي قائلا:
“العلاقات بين إيران والسودان كانت دائما متقلبة. كلما كانت هناك حكومات شعبية منتخبة ديمقراطيا، كانت العلاقات جيدة، مثلما حدث خلال فترة الصادق المهدي أو حتى في السنوات الأولى من حكم عمر البشير”.
ويضيف أنه تحت ضغط أمريكي وسعودي شديد، قام البشير بانقلاب كامل على هذه العلاقات، ما أدى إلى قطع التعاون العسكري والأمني مع إيران. وعندما وصل البرهان وحميدتي إلى السلطة، تدهورت الأمور أكثر؛ فهما انقلابيان بلا قاعدة شعبية، وكان بقاؤهما مرهونا بمد أيديهما إلى الولايات المتحدة وإسرائيل.
مشروع التطبيع الفاشل مع إسرائيل
بعد الإطاحة بعمر البشير، خضعت الحكومة الانتقالية في السودان لضغوط أمريكية مكثفة لبدء عملية التطبيع مع إسرائيل. ففي عام 2020، وقّعت الخرطوم اتفاقا كان من المفترض أن يؤدي إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
غير أن اندلاع الحرب الأهلية جمد كل شيء، ليصبح السودان عقبة أمام استكمال مشروع “اتفاقيات إبراهيم”، الذي سعت إسرائيل من خلاله إلى ضمّ الخرطوم إلى جانب الإمارات، البحرين، والمغرب.
يقول جعفر قنادباشي حول اقتراب السودان من الولايات المتحدة وإسرائيل، إن هذه القيادات العسكرية حاولت التقرب من إسرائيل لكسب دعم الغرب، لكنها لم تحظ بدعم حقيقي. واليوم، لا واشنطن ولا تل أبيب تفعلان شيئا لإنقاذ السودان، ما يؤكد أن مشروع التطبيع قد فشل تماما.
السودان.. اليمن الثاني في مسار المقاومة
نظرا إلى عدد السكان المسلمين، وتاريخ نضالهم ضد الاستعمار، والموقع الاستراتيجي للسودان قرب البحر الأحمر، يعتقد العديدون أن هذا البلد، في حال خروجه من النفوذ الأمريكي والإسرائيلي، يمكن أن يتحول إلى “اليمن الثاني” في معركة المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي.
وفي ما يتعلق بأهمية السودان وقدرته على مقاومة الغرب وإسرائيل، يقول قنادباشي: “السودان له أهمية جغرافية كبيرة؛ فالسودان واليمن يقعان على جانبي البحر الأحمر. إذا أصبح السودان دولة مستقلة، فإن ذلك يعني تشكيل قاعدة قوية ضد نفوذ أمريكا وإسرائيل في أفريقيا”.
ويضيف أن شعب السودان يتمتع بروح معادية للاستعمار، ويكره بريطانيا والولايات المتحدة. كما أنهم معارضون للحكومات الوهابية. من الناحية الفكرية والإسلامية، يمكن لشعب السودان أن ينقل رسالة المقاومة ضد إسرائيل إلى كافة أنحاء جنوب أفريقيا.
ماذا يخفي المستقبل؟
يعيش السودان اليوم مرحلة بالغة الحساسية، فالحرب الأهلية لم تنتهِ بعد، ولم تحقق المشاريع الغربية الرامية إلى فرض حكام عسكريين تابعين لها أهدافها. في المقابل، تظهر في بعض المناطق بوادر لعودة الحركات المناهضة للاستعمار، واتجاه نحو محور المقاومة، والنضال ضد إسرائيل، ودعم الشعب الفلسطيني.
وإذا تمكن السودان من تجاوز هذه الأزمة، فإنه سيكون في موقع يمكنه من أن يصبح أحد مراكز الصحوة الإسلامية والمقاومة الجديدة في أفريقيا.
يقول جعفر قنادباشي، في هذا السياق، : “إذا تشكلت في السودان حكومة مستقلة وشعبية، فإن احتمالات انضمامها إلى محور المقاومة ستكون كبيرة جدًا. السودان يمثل فرصة استراتيجية للمقاومة في قارة أفريقيا”.
اليوم، أصبح السودان نقطة تقاطع حاسمة للقرارات الكبرى. ورغم أن الحرب الأهلية قد دمرت الاقتصاد والمجتمع، فإن هذه الأزمة قد تكون أيضًا فرصة للتحول. مستقبل السودان يعتمد على توازن الإرادات: إرادة الشعب في الحرية والاستقلال، أو إرادة القوى الخارجية في الهيمنة والاستغلال.