كتب: محمد بركات
منذ ما يقارب العقد من الزمان، تشهد الساحتان السياسية والاقتصادية في إيران نقاشات مكثفة حول أحد أكثر الملفات حساسية وتأثيرا على العلاقات المالية الدولية، ففي ظل التحديات التي تواجه الاقتصاد الإيراني، تتجدد التساؤلات حول أهمية الانضمام إلى مجموعة العمل المالي ومدى تأثيرها على قدرة إيران على التفاعل مع النظام المالي العالمي، وبين تأييد الرئيس وحكومته ومعارضة برلمانية قاطعة، تبقى القضية موضع شد وجذب.
ففي بداية جلسة البرلمان الإيراني العلنية الأحد 2 فبراير/شباط 2025، صرح محمد باقر قاليباف، رئيس البرلمان، قائلا: “عقدنا صباح اليوم جلسة غير علنية في قاعة البرلمان؛ لمناقشة القضايا الاقتصادية في البلاد والمسائل المتعلقة بـFATF واتفاقيتي باليرمو وCFT، بعدها شرعنا في إجراءات الجلسة العلنية”.
وحول تفاصيل تلك الجلسة، صرح عباس كودرزي، المتحدث باسم هيئة رئاسة البرلمان، موضحا تفاصيل القضايا التي نوقشت فيها، وقال: “تمت المصادقة على اتفاقيتي باليرمو وCFT في البرلمان العاشر، الذي كان برئاسة علي لاريجاني وفي عهد الرئيس حسن روحاني، ولكن بعد رفضهما من قبل مجلس صيانة الدستور وإصرار البرلمان آنذاك، أُحيلتا إلى مجمع تشخيص مصلحة النظام، ومع انتهاء مهلة النظر فيهما، أعيد طرحهما على جدول أعمال المجمع. ونحن، كهيئة البرلمان، ليست لنا صلاحية لاتخاذ قرار جديد بهذا الشأن”.
وأضاف جودرزي: “بما أن البرلمان هو بيت الأمة ويجب أن يكون له رأي مؤثر في القرارات الوطنية، فقد عُقد اليوم اجتماع بحضور خبراء من مركز الأبحاث وبعض النواب المحترمين، وخلال الاجتماع، قدّم خبراء المركز ورؤساء اللجان المعنية وبعض النواب مداخلات، وتمت مناقشة أبعاد وواقع FATF”.
وتابع: “من بين 41 إجراء طُرحت خلال السنوات الماضية، قبلت الحكومات المتعاقبة 39 إجراء، لكن إجراءين لم يتم الاتفاق عليهما بسبب وجود قوانين داخلية وتحفظات من جانبنا، مما أدى إلى رفض الطرف المقابل لهما وعدم قبول انضمام إيران إلى منظومة العمل المالي، وأبرز ما تم تأكيده في الجلسة غير العلنية هو أن معظم المشكلات المتعلقة بالمعاملات المالية والمصرفية تعود إلى العقوبات الثانوية التي فرضتها الولايات المتحدة، وليس إلى FATF، الذي لن يساهم في حل المشكلات الاقتصادية للبلاد”.
كما أوضح أن “النواب شددوا على أن المسؤولين يجب ألا يربطوا الاقتصاد وسبل العيش بهذه القضايا، إذ إن 39 من أصل 41 إجراءً قُبلت، ومع ذلك لم تُحل أي مشكلة، لأن الهدف الحقيقي من FATF، ككيان سياسي وأمني، هو الإضرار بالإرادة الاستراتيجية للجمهورية الإيرانية واستهداف استقلال الأمة الإيرانية، كما يسعى إلى منع إيران من التحايل على العقوبات المفروضة عليها”.
وأكد أن “البرلمان يشدد على ضرورة أن تعتمد الحكومة على القدرات الداخلية وتعزز نقاط القوة الوطنية، وألا تربط العلاقات الاقتصادية بإرادة الأعداء، بل تتخذ خطوات حاسمة لحل المشكلات. كما أن علينا، إلى جانب السعي لرفع العقوبات من خلال المفاوضات، العمل على إحباط تأثيرها، وهذه هي الاستراتيجية الأساسية للنظام”.
من جانبه، قال أحمد نادري، عضو هيئة رئاسة البرلمان، حول فعاليات تلك الجلسة: “في هذا الاجتماع، تمت مناقشة FATF ومستقبله في البلاد، وقدم مركز الأبحاث التابع للبرلمان تقريرا يتناول ماهية FATF وآلياته والقضايا المتعلقة به في إيران والدول الأخرى. كما استعرض رؤساء لجان الأمن القومي والسياسة الخارجية، والشؤون القانونية والقضائية، والاقتصاد في المجلس، وجهات نظر لجانهم، وأعرب عدد من النواب عن آرائهم المؤيدة أو المعارضة للانضمام إلى FATF”.
وشدد نادري على أن “البرلمان ليس الجهة المخول لها اتخاذ قرار بشأن FATF، بل يعود ذلك إلى مجمع تشخيص مصلحة النظام”، مضيفا: “إن الجلسة غير العلنية اليوم كانت فرصة لتبادل الآراء والتوصل إلى توافقات، ولم يتم خلالها اتخاذ أي قرارات، لأن المجلس في هذه المرحلة ليس صاحب القرار، والمسألة باتت خارج صلاحياته”.
أزمة انضمام إيران لمنظومة العمل المالي
كانت مسألة الانضمام إلى منظومة العمل المالي من عدمها محط جدل بإيران في العقد الأخير، وFATF اختصار لعبارة Financial Action Task Force وتعني مجموعة العمل المالي الخاصة، وهي هيئة دولية تأسست في عام 1989 من قبل دول مجموعة السبع، السبع دول الصناعية الكبرى (G7)، وتتمثل مهمتها الأساسية في مكافحة غسل الأموال، وتمويل الإرهاب، وانتشار أسلحة الدمار الشامل.
وتكمن أهمية تلك الهيئة في عدة نقاط، أهمها مكافحة الجرائم المالية، فمن خلال تنفيذ توصياتها، يمكن للدول الحد من غسل الأموال وتمويل الأنشطة غير المشروعة، كذلك فإن الانضمام إليها يساعد في الوصول إلى النظام المالي العالمي، وعكس ذلك، إذا لم يلتزم بلد ما بمعايير FATF، فقد ترفض البنوك والمؤسسات المالية الدولية التعامل معه.
وتشتهر تلك الهيئة بوجود تصنيفين أساسيين لها تصنف بهما الدول من حيث النزاهة المادية، الأول هو القائمة الرمادية، وتشمل الدول التي لا تلتزم بالكامل بمعايير FATF وتخضع لرقابة مشددة، والثاني هو القائمة السوداء، وتضم الدول التي ترفض التعاون، وتُعتبر ذات مخاطر عالية على النظام المالي العالمي.
وقد بدأت علاقة إيران بمجموعة العمل المالي في أوائل الألفية الثالثة، حيث واجهت إيران ضغوطا متزايدة بسبب اتهامات غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، ففي العام 2008، تم إدراج إيران في قائمة الدول عالية المخاطر بسبب عدم التزامها بالمعايير المالية الدولية، واستمر هذا الوضع حتى عام 2016، عندما تعهدت الحكومة الإيرانية بتنفيذ إصلاحات مالية، مما أدى إلى تعليق مؤقت لبعض القيود المفروضة عليها.
في ذلك الوقت، وافق البرلمان الإيراني على قوانين لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، كما أُحيلت اتفاقيتا باليرمو وCFT إلى مجمع تشخيص مصلحة النظام للمصادقة عليهما. ومع ذلك، فقد واجهت هذه القوانين معارضة داخلية من بعض المؤسسات التي اعتبرت أن الانضمام إلى FATF قد يحد من قدرة إيران على الالتفاف على العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
وبحلول عام 2020، وبعد انتهاء المهلة التي منحها FATF لإيران دون إقرار القوانين المطلوبة، تمت إعادة إدراجها في القائمة السوداء، مما زاد من تعقيد تعاملاتها المالية مع البنوك العالمية.
منذ ذلك الحين، ظلت قضية FATF موضوعا جدليا داخل إيران، حتى أتى الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، في منصب رئاسة الجمهورية في يوليو/تموز 2024، حيث طالب بإعادة فتح الملف مرة أخرى، مشيرا إلى أن إيران يجب أن تُزال من القوائم السوداء لتلك الهيئة لتحسين الاقتصاد ورفع الضغط عن كاهل المواطنين، ليعاد فتح ملف انضمام إيران من جديد في مجمع تشخيص مصلحة النظام الإيراني وبأمر من المرشد علي خامنئي.
وفي الأشهر الأخيرة ازدادت حدة النقاش حول تلك القضية، فبينما يطالب البعض بضرورة الامتثال لمعايير المجموعة لتسهيل العلاقات المصرفية والتجارية، يرى آخرون أن ذلك قد يؤدي إلى كشف قنوات تمويل بعض الكيانات الإيرانية، خاصة في ظل العقوبات الأمريكية، من بينهم على لاريجاني، مستشار قائد الثورة، الذي صرح خلال حديث له الأحد 2 فبراير/شباط 2025، بأن الانضمام إلى FATF لن يكون فعالا في ظل استمرار العقوبات، مشيرا إلى أنه من غير المرجح أن تتعاون البنوك الأوروبية مع إيران، حتى لو انضمت إلى هذه المجموعة.