كتبت: ميرنا محمود
وفقاً للتقرير الصادر عن موقع (Yetkin Report) الإخباري التركي في 30 أغسطس/آب 2024، لاقَت التوصيات السياسية الواردة في تقرير صندوق النقد الدولي لعام 2024 بشأن التوقعات الأولية انتقادات واسعة. وحذّر الخبراء من أن الصندوق يدعم إجراءات من شأنها زيادة الأعباء الاقتصادية على المواطنين، متجاهلاً في الوقت نفسه المشاكل الهيكلية للاقتصاد.
أعلن صندوق النقد الدولي عن ملاحظاته الأولية عقب الانتهاء من مباحثات المادة الرابعة لعام 2024 مع تركيا. ولفت الصندوق الانتباه إلى تحقيق مكاسب كبيرة في الاستقرار الاقتصادي منذ منتصف عام 2023، مع تأكيد الحاجة إلى اتخاذ إجراءات أكثر صرامة لمكافحة التضخم وتحقيق النمو المستدام.
ومع ذلك، فقد أثارت توصيات التقرير انتقادات واسعة. وركَّز الخبراء بشكل خاص على التأثير الذي قد تخلفه سياسة الأجور والتشديد المالي على الفئات التي تعاني بالفعل من انخفاض القدرة الشرائية والصعوبات الاقتصادية. وحذَّر الخبراء من أن توصيات صندوق النقد الدولي تحمل مخاطر اجتماعية واقتصادية كبيرة.
تقرير صندوق النقد الدولي
أشار تقرير المراقبة الأولية لصندوق النقد الدولي إلى أن هناك تحسُّناً ملحوظاً في المؤشرات الاقتصادية لتركيا منذ منتصف عام 2023. كما رحّب الصندوق بتراجع عجز الحساب الجاري إلى 7.2% من الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأول من عام 2024، وزيادة الاحتياطيات الدولية بنحو 91 مليار دولار منذ أبريل/نيسان، وتراجع مخاطر الائتمان بنحو 440 نقطة أساس. يتوقَّع الصندوق انخفاض التضخُّم إلى نحو 43% بنهاية عام 2024، ثم إلى 24% عام 2025، وهو ما يزيد على التوقعات التي أعلنها البنك المركزي للجمهورية التركية. كما يتوقع الصندوق تباطؤ النمو الاقتصادي إلى 4.3% عام 2024، ثم إلى 7.2% عام 2025، مع عودة النمو المحتمل إلى نطاق 5.3-4% على المدى المتوسط. وحذَّر التقرير من وجود بعض المخاطر المحتملة مثل ارتفاع أسعار الطاقة، والتوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط وأوكرانيا، وتدفقات رأس المال الخارجة.
توصيات سياسة صندوق النقد الدولي
الجزء الأكثر إثارة للجدل في تقرير المراقبة الأولية لصندوق النقد الدولي هو التوصيات السياسية التي قدَّمها في إطار الصورة الاقتصادية الحالية. دعا صندوق النقد الدولي إلى ضرورة مواصلة السياسة النقدية المتشددة للسيطرة على التضخم وتوقعات التضخم، مع إمكانية اتخاذ إجراءات تشديدية إضافية إذا لزم الأمر. وشملت توصيات الصندوق أيضاً ضرورة “تحديد الأسعار والأجور والإيجارات بناءً على توقعات التضخم المستقبلية”، إضافة إلى إجراء إصلاحات مثل مكافحة الاقتصاد غير الرسمي، وزيادة مرونة سوق العمل، وتشجيع مشاركة المرأة في القوى العاملة. ودعا الصندوق إلى اتخاذ إجراءات مثل ترشيد النفقات الضريبية وتوسيع قاعدة الضرائب والحد من الإنفاق على المشاريع غير الضرورية.
تحذيرات الخبراء
واجهت التوصيات التي قدَّمها صندوق النقد الدولي في تقريره، انتقادات واسعة من قبل الخبراء. وتركزت هذه الانتقادات بشكل خاص على مقترحات مثل زيادة مرونة سوق العمل، وحزمة الضبط المالي، وربط الزيادات في الأجور بالتوقعات التضخمية المستقبلية، والنهج التدريجي في تنفيذ الإصلاحات. وحذَّر الخبراء من أن “زيادة مرونة سوق العمل” من شأنها أن تؤدي إلى تدهور أوضاع العُمَّال وتقويض حقوقهم، حيث إن مثل هذه الإصلاحات قد تزيد من خطر فقدان الوظائف وتقليل الحماية الاجتماعية للعاملين.
ووفقاً للخبراء الاقتصاديين، فإن حزمة الضبط المالي من إجمالي الناتج المحلي التي تهدف إلى تقليص العجز المالي بنسبة 5.2% قد تؤثر سلباً على الخدمات العامة والاستثمارات، مما قد يؤدي إلى تدهور الخدمات الاجتماعية. كما انتقد الخبراء النهج التدريجي الذي اقترحه الصندوق لمكافحة التضخم، حيث يرون أنه قد يؤدي إلى إطالة أمد هذه المعركة، ويزيد من تعرض الاقتصاد للمخاطر. وأكَّد الخبراء أن هذه السياسات المقترحة قد تؤدي إلى تفاقم التفاوت الاجتماعي، حيث ستؤثر سلباً بشكل خاص على الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
“العبء يقع على عاتق شرائح اجتماعية واسعة”
علق الكاتب الاقتصادي خيري كوزان أوغلي على تقرير صندوق النقد الدولي، مشيراً إلى أن الصندوق يلقي باللوم على توقعات التضخم لدى الأسر في استمرار ارتفاع التضخُّم، وأوضح أن مصطلح “سياسة الدخل” يعني في هذا السياق إبقاء الأجور منخفضة، مما يؤدي إلى تفاقم الفقر وتقليل قدرة المجتمع على شراء السلع والخدمات، معرباً عن “رضا” الصندوق عن هذا الوضع. وفي معرض تقييمه للتقرير في صحيفة “بيرجون”، أشار كوزان أوغلي إلى أن الصندوق يتجاهل المشاكل الاقتصادية الهيكلية، ويدعم بدلاً من ذلك سياسات تؤثر سلباً على عامة الشعب. واختتم كوزان أوغلي تحليله قائلاً: “باختصار، يقدم صندوق النقد الدولي مرة أخرى وصفة نيوليبرالية تعتمد على سياسات نقدية ومالية متشددة، والتي تلقي بعبء التقشف بالكامل على عاتق العمال، وذلك في ضوء البيانات الحالية”. وأضاف أن التقرير لم يوجه أي انتقاد للمدفوعات المُقدَّمة لكبار المقاولين ضمن نطاق مشاريع البنية التحتية، بل أبدى موافقة ضمنية عليها.
ربط الزيادات في الأجور بالتضخم المتوقع: انتقادات واعتراضات
أثارت توصية صندوق النقد الدولي بإرساء الزيادات في الأجور على أساس التضخُّم المتوقَّع جدلاً واسعًا، خاصة أنها قد تؤدي إلى ظلم العمال الذين تضرروا بشدة من التضخم في الماضي. وأعرب المُحلّل الاقتصادي محفوظ إيجيلماز عن قلقه من أن هذه التوصية قد تضر بالعمال الذين يعانون بالفعل من ارتفاع تكاليف المعيشة. ودعا إيجيلماز إلى ضرورة التعويض عن الخسائر التي تكبدها العمال بسبب التضخم السابق، مؤكداً أن دور صندوق النقد الدولي يقتصر على تقديم التوصيات الاقتصادية، ولكن يجب أيضاً النظر في العوامل الاجتماعية والسياسية للتوصُّل إلى حلول دائمة. وقال إيجيلماز: “ربط الزيادات في الأجور بالتضخم المتوقع في المستقبل بدلاً من التضخم الفعلي في الماضي قد يضر بالعمال الذين تضرروا بالفعل من ارتفاع التضخم. نحن بحاجة إلى النظر في السياقين الاقتصادي والاجتماعي”.
سيلفا ديميرالب: المخاطر والتوازن
أوضحت البروفيسور د. سيلفا ديميرالب أن تطبيق هذه المادة بشكل منفرد سيؤدي إلى تحميل العمال تكاليف التقشَّف، ولكن إذا كانت مدعومة بحزمة مالية، فمن الممكن توزيع تكاليف مكافحة التضخم بشكل أكثر عدالة. وقالت ديميرالب: “إذا تم تطبيق هذه المادة بشكل منفرد، فإنها تضع تكلفة التقشُّف على عاتق الأجير. ولكن إذا تم تطبيقها مع المواد الأخرى، خاصةً المادة الخامسة، فسيتم توزيع تكلفة مكافحة التضخم بشكل أكثر عدالة”. وأوضحت ديميرالب المادة الخامسة على النحو التالي: “يجب على السياسة المالية أن تدعم عملية مكافحة التضخم بشكل أكثر فعالية، وكان من الممكن توسيع قاعدة الضرائب بشكل أسرع. إن تقييد النفقات العامة غير الضرورية ووضع حزمة مالية تعادل 5.2% من الناتج المحلي الإجمالي من شأنهما أن يدعما بشكل أفضل عملية مكافحة التضخم. كما حذَّرت ديميرالب من مخاطر التشديد التدريجي للسياسات في مكافحة التضخم، مشيرة إلى أنها قد تؤدي إلى تأخير ترسيخ توقعات التضخم. وأوضحت ديميرالب أن التأخر في اتخاذ إجراءات أكثر حزماً قد يطيل أمد الضغوط التضخمية ويعرض تركيا لمخاطر خارجية، مشددة على ضرورة موازنة هذه السياسات من خلال سياسة مالية أكثر نشاطاً، دون تحميل العمال أعباء زائدة. وأكدت ديميرالب أن توسيع قاعدة الضرائب وتقييد النفقات العامة غير الضرورية سيساهمان بشكل أكثر فعالية في عملية مكافحة التضخم.