كتب: محمد بركات
أصبحت أزمة الإنجاب واحدة من أبرز القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي تشهدها إيران في الوقت الراهن. فمنذ عقود، كانت إيران تتمتع بمعدل إنجاب مرتفع نسبيا، ولكن في السنوات الأخيرة، لوحظ تراجع مستمر في معدلات الإنجاب، وذلك رغم المبادرات الحكومية وخطط التنمية التي تجريها الدولة لمرفع معدل الإنجاب.
تعتبر الحكومة الإيرانية هذا التراجع مؤشرا على تغييرات اجتماعية وثقافية واقتصادية جذرية، كما يهدد بمستقبل سكاني غير مستدام وبناء اجتماعي هش.
من جهة أخرى، تُعد هذه الظاهرة مصدر قلق كبير للسلطات الإيرانية، حيث ترتبط بتحديات في سوق العمل، والتغيرات في هيكل الأسرة، والضغوط الاجتماعية، إضافة إلى التأثيرات المترتبة على الوضع الاقتصادي في المستقبل.
أبعاد الأزمة:
صرح وزير الصحة الإيراني، محمد رضا ظفر قندي، خلال اجتماع للهيئة المركزية لرفع زيادة معدلات الشباب بالنسبة للسكان التابعة لوزارة الصحة، مؤكدا ضرورة خلق زخم لتنفيذ الهيئة، قائلا: “إن موضوع زيادة معدلات الشباب بالنسبة لتعداد السكان واجب وطني يجب أن تهتم به جميع أجهزة الدولة ولا يقتصر على وزارة الصحة فقط، فإذا كنا نريد تحقيق أهدافنا في هذا المجال، يجب أن نخلق زخما حول شباب السكان”، وذلك وفقا لتقرير صحيفة هم ميهن الصادر بتاريخ 5 نوفمبر/تشرين الثاني.
ووفقا للتقرير، فقد أشار ظفر قندي إلى الحوادث المرورية ومعدل الوفيات الناجم عن الحوادث، حيث قال: “يفقد نحو عشرين ألف شخص حياتهم سنويا في الحوادث المرورية، وغالبية هؤلاء من الشباب، يجب أن تكون قضايا مثل سلامة الطرق والمركبات في دائرة الاهتمام، لأن ارتفاع معدل الوفيات في الحوادث المرورية يدل على أهمية هذا الموضوع”. كما أشار ظفر قندي إلى ضرورة تنظيم جلسات توعية في السكن الخاص بالجامعات بشأن هذا الموضوع، مؤكدا أن الجلسات التوعوية المباشرة مع الطلاب في السكن الجامعي يجب أن تُعقد بانتظام. وأضاف أن العاملين في المجال الصحي والممرضات يمكن أن يكون لهم دور كبير في هذا المجال، قائلا: “إذا تم توفير حوافز لهذه المجموعات، فإنهم يمكن أن يكونوا مؤثرين في هذه القضية”.
قبلها كان الدكتور صابر جباري، رئيس الهيئة المركزية لرفع زيادة معدلات الشباب بالنسبة للسكان التابعة لوزارة الصحة، قد صرح في اجتماع الهيئة الذي عُقد في 8 أكتوبر/تشرين الأول، بحضور وزير الصحة، بأنه “وفقا لقانون البرنامج التنمية السابع، يجب أن يصل معدل الإنجاب خلال خمس سنوات إلى ما لا يقل عن 2.5″، مضيفا أن إيران تحتل المرتبة الثامنة عشرة عالميا، التاسعة في آسيا، والثالثة في المنطقة من حيث عدد السكان، وذلك وفقا لتقرير وكالة إيسنا بتاريخ 8 أكتوبر/تشرين الأول.
ووفقا للتقرير، فقد أشار جباري إلى أن معدل المواليد آخذ في الانخفاض، بينما يتزايد عدد كبار السن بالبلاد، قائلا إنه من المتوقع أن يبلغ عدد المسنين نحو 26 مليونا، أي ربع عدد السكان، بحلول عام 2051، وصرح: “على الرغم من وجود بعض المؤشرات الجيدة بشأن معدلات الإنجاب وتطور الخدمات الصحية فإن معدل الإنجاب الحالي لا يتجاوز 1.6، وهو معدل سيئ بالنظر إلى معدلات الوفاة السنوية”.
لماذا يعزف الإيرانيون عن الإنجاب؟
عند النظر إلى الأسباب التي جعلت الإيرانيين يعدلون عن فكرة الإنجاب، نجد أنها تتلخص في عدة عوامل، أولها العوامل الاقتصادية، حيث تعتبر الأزمة الاقتصادية التي تشهدها إيران أحد العوامل الرئيسية التي ساهمت في انخفاض معدلات الإنجاب، فإن إيران تعاني منذ فترة طويلة من معدلات بطالة مرتفعة، وارتفاع تكاليف المعيشة، فضلا عن التضخم المستمر وزيادة الأسعار. كل هذه العوامل تجعل من الصعب على الأسر تحمل تكاليف الأطفال، مما يدفع العديد من الشباب الإيرانيين إلى تأجيل أو حتى التخلي عن فكرة الإنجاب، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأزمات الاقتصادية تؤثر بشكل كبير على فئات الشباب، الذين يواجهون صعوبة في بناء حياة مستقرة تسمح لهم بالإنجاب والتربية، وذلك وفقا لتقرير وكالة إيمنا الصادر في 11 يوليو/تموز 2022.
كذلك، تلعب التغيرات الثقافية والاجتماعية دورا مهما في تراجع معدلات الإنجاب بإيران. فقد شهدت العقود الأخيرة تحولات كبيرة في القيم الاجتماعية، حيث تزايدت الضغوط على الشباب من أجل تحقيق نجاحات مهنية وتعليمية قبل اتخاذ قرار الإنجاب، فالشباب الإيراني اليوم يميلون أكثر إلى إتمام دراستهم الجامعية، والحصول على وظائف مستقرة، وتحقيق بعض الاستقلال المالي قبل التفكير في الزواج وإنجاب الأطفال. علاوة على ذلك، أصبح هناك توجه متزايد نحو تقليل حجم الأسرة في كثير من الأسر الإيرانية، إذ أصبح الأطفال يُنظر إليهم كعبء مالي، ما دفع البعض إلى اتخاذ قرارات بتأجيل أو حتى الامتناع عن الإنجاب، وذلك وفقا لتقرير وكالة تسنيم المنشور في 25 سبتمبر/أيلول 2024.
من الأسباب الأخرى التي تقلل نسبة الإنجاب في إيران، السياسات الحكومية، فعلى الرغم من أن إيران كانت قد تبنت في ثمانينيات القرن الماضي سياسة تحديد النسل للحد من معدلات الإنجاب، فإن الحكومة الإيرانية بدأت في السنوات الأخيرة، في تشجيع الإنجاب بشكل أكبر، وذلك من خلال إطلاق حملات لتشجيع الزواج وإنجاب الأطفال من خلال تقديم حوافز مالية وإعانات للأسر التي تنجب أطفالا. ومع ذلك، لم تؤد هذه السياسات إلى التغيير المرجو في الوضع الديموغرافي، حيث استمرت معدلات الإنجاب في التراجع، رغم الجهود الحكومية. وفي الواقع، يشير العديد من الخبراء إلى أن السياسات الحكومية غير كافية لمواجهة هذا التحدي، إذ إنها تركز فقط على الحوافز المالية ولا تأخذ في الاعتبار العوامل الاقتصادية والاجتماعية الأكبر التي تدفع الأفراد إلى تأجيل الإنجاب أو التوقف عنه، وذلك وفقا لتقرير الموقع الرسمي للمرشد الإيراني المنشور في 11 سبتمبر/أيلول 2024.
وتأتي كذلك التمويلات والتكاليف الصحية المرتبطة بالإنجاب في إيران باعتبارها عنصرا آخر في تلك المشكلة، حيث تتزايد التكاليف الصحية المرتبطة بالإنجاب بشكل ملحوظ، فقد أصبحت الخدمات الصحية المرتبطة بالحمل والولادة أكثر تكلفة في السنوات الأخيرة، ويشمل ذلك تكاليف الاستشارات الطبية، والعلاج، والرعاية بعد الولادة. هذه التكاليف تعتبر عبئا كبيرا على الأسر الإيرانية، مما يؤدي إلى تأجيل أو التخلي عن فكرة الإنجاب، وحتى عند أخذ قرض الإنجاب، وهو أحد الطرق التي استخدمتها الحكومة لتشجيع الإنجاب، فتظل تلك التكاليف عالية، وذلك وفقا لتقرير موقع صداي بورس بتاريخ 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2024.
الآثار المترتبة على تراجع معدلات الإنجاب:
وبالطبع فإن لتلك الظاهرة آثارا تدميرية على المجتمع، فمن بين تلك الآثار ما يعرف بالشيخوخة السكانية، حيث يعد أحد الآثار الرئيسية لتراجع معدلات الإنجاب في إيران ارتفاع نسبة كبار السن في المجتمع. فوفقا للإحصاءات، إذا استمرت معدلات الإنجاب في الانخفاض، فإن إيران ستواجه في المستقبل القريب مشكلة اقتصادية كبيرة تتعلق بتزايد عدد كبار السن مقارنة بعدد الشباب العاملين. هذا التوازن السكاني الهش قد يؤدي إلى زيادة الضغط على النظام الصحي والاجتماعي، إذ ستحتاج الدولة إلى تقديم مزيد من الرعاية الصحية والاجتماعية لكبار السن، في حين أن أعداد القوى العاملة التي تسهم في الاقتصاد قد تتقلص بشكل كبير، وذلك وفقا لتقرير وكالة ميزان الإخبارية الصادر في 25 سبتمبر/أيلول 2022.
كذلك فإن من الظواهر الأخرى السلبية زيادة الضغوط الاقتصادية، حيث إنَّ تراجع عدد السكان، خاصة في فئة الشباب، سيؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد الإيراني، وسيؤدي هذا إلى انخفاض في القوى العاملة، مما يحد من الإنتاجية الاقتصادية ويؤدي إلى تراجع معدلات النمو الاقتصادي. في الوقت ذاته، ستكون هناك زيادة في نسبة الأشخاص الذين يعتمدون على المساعدات الحكومية، مما يضع ضغطا إضافيا على الموارد المالية المحدودة للدولة، وذلك وفقا لتقرير موقع الإذاعة والتلفزيون الإيراني بتاريخ 31 ديسمبر/كانون الأول 2023.
أما من الجانب الاجتماعي، فسيؤدي انخفاض معدلات الإنجاب إلى تغييرات في هيكل الأسرة الإيرانية. فقد نشهد تحولا في دور الأسرة التقليدية، حيث تصبح الأسر أصغر حجما وأقل تماسكا. كما قد يتزايد عدد الأسر التي تعتمد على الأبناء في رعاية الوالدين في المستقبل، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى ضغط اجتماعي على الأجيال الشابة، وذلك وفقا لتقرير وكالة إيرنا الصادر بتاريخ 9 أغسطس/آب 2021.