كتب: سيد نيما موسوي
ترجمة: علي زين العابدين برهام
في الأسابيع الأخيرة، وتزامنا مع اقتراب رأس السنة الجديدة في إيران، أعلن الفيلسوف والفقیه الإيراني عبد الله جوادي الآملي عن صدور كتابه التفسيري الجديد للقرآن الكريم بعنوان “تسنيم“ والذي يتضمن دروسه ومباحثه التفسيرية الممتدة من عام 1980 وحتى يومنا هذا.
وكانت أجزاء من هذه السلسلة قد نُشرت سابقا، أما الآن، ومع صدور المجموعة الكاملة، بات من الممكن اعتبار «تسنيم» أهم عمل تفسيري للقرآن الكريم تم تأليفه ونشره في إيران بعد الثورة الإسلامية.
تنبع أهمية هذا الكتاب من قيمته الموسوعية والعلمية؛ إذ يُعدّ إنتاج المؤلفات المرجعية إحدى الركائز الأساسية لنهوض أي حضارة. كما كان تأليف الموسوعات بعد الثورة الفرنسية عاملا محوريا في نمو الحضارة الحديثة، فإن تأليف كتب مرجعية في أي مجتمع يعكس عمق التحولات الحضارية التي يشهدها. ويُعدّ تفسير القرآن الكريم من أبرز هذه المؤلفات المرجعية، ما يجعله مرتبطا بشكل وثيق بالحاجات الحضارية والثقافية لأي أمة.
وبما أن الثورة الإسلامية في إيران قامت على أسس دينية وقرآنية، فإن تأليف كتاب مثل «تسنيم» يكتسب دورا مرجعيا بارزا في تشكيل البنية الحضارية والفكرية لإيران المعاصرة. تتكون هذه الموسوعة من دروس عبد الله جوادي الآملي خلال أربعة عقود، منذ عام 1980 حتى 2020، وقد صدر مؤخرا الإصدار الكامل منها في 80 مجلدا.
لفهم المدرسة التفسيرية لعبد الله جوادي الآملي، لا بد من التوقف عند خلفيته الفكرية. يُعدّ جوادي الآملي فقيها وفيلسوفا إيرانيا، وهو من أبرز تلامذة العلّامة الطباطبائي، الفيلسوف المعروف في الحوزة العلمية. وُلد جوادي آملي في منطقة آمل بمحافظة مازندران في شمال إيران، وهي منطقة عُرفت منذ القدم بأنها موطن للفلاسفة الحوزويين، بل وحتى للصوفية المنتمين إلى الحوزة.
يُعتبر محمد بن جرير الطبري، صاحب تفسير الطبري وتاريخ الطبري، أحد أبناء هذه المنطقة، ويمكن اعتباره مؤسس “المدرسة العلمية في آمل“. وقد أمضى سنوات في بغداد يمارس القضاء كفقيه على المذهب الشافعي. إلى جانب ذلك، كانت آمل أول معقل للشيعة العلويين في القرون الإسلامية الأولى داخل إيران، حيث أسّس الحسن بن زيد دولة العلويين هناك. هذه الدولة تعرضت لاحقا لهجمات متعددة من قبل الفايكنج القادمين من شمال بحر قزوين، وكذلك من قبل الصفاريين والسامانيين.
من أبرز رموز المدرسة الفكرية في آمل خلال القرن الرابع عشر الميلادي، كان حيدر الآملي، وهو من كبار شُرّاح مدرسة محيي الدين بن عربي، ومؤلف تفسير قرآني بعنوان “المحيط الأعظم“. وقد قام عدد من المستشرقين، وعلى رأسهم هنري كوربان، بدراسة أفكاره. يُعدّ حيدر الآملي نموذجا للتوفيق بين التشيع، والتصوف، والأساطير الإيرانية القديمة. هذا النهج الفلسفي–الروحي بدأ مع شهاب الدين السهروردي، وتبلور لاحقا في كتاب “جامع الأسرار” لحيدر الآملي. وقد ساهم في تطوير التصور الصوفي للإمامة الشيعية، وهو تصور كان قد بدأ ينتشر على يد الإسماعيليين.
ولا يمكن تجاهل تأثير استمرار حضور الأساطير الإيرانية القديمة في منطقة مازندران، حيث لعبت دورا مهما في تشكيل الفكر الحيدري الآملي. ومن بين الشخصيات الأخرى التي تنتمي إلى هذه المدرسة، يمكن الإشارة إلى ملا محمد تقي الآملي، الذي كان من أتباع فلسفة صدر المتألهين ملا صدرا الشيرازي، وعاش في آمل خلال القرن التاسع عشر.
أما في العصر الحديث، فقد واصل الفلاسفة الحوزويون أمثال حسن زادة الآملي وعبدالله جوادي آملي هذا الإرث الفكري، وأحيا كلٌّ منهما المدرسة العلمية في آمل بصورة معاصرة.
فقيه وفيلسوف ومفسّر في قلب الفكر الشيعي المعاصر
وُلد عبد الله جوادي آملي، الفقيه والفيلسوف الشيعي البارز، عام 1933 في مدينة آمل بمحافظة مازندران شمالي إيران. تلقّى تعليمه الحوزوي على يد اثنين من أعلام الفكر الإسلامي في القرن العشرين: العلامة محمد حسين الطباطبائي والإمام الخميني، وكلاهما من كبار الفلاسفة الصدرائيين، أي من أتباع المدرسة الفلسفية لملا صدرا الشيرازي.
لقد أثّر الطباطبائي تأثيرا بالغا في عدد من المفكرين الذين كان لهم دور محوري في الثورة الإسلامية عام 1979، مثل محمد حسين بهشتي، ومرتضى مطهري، ومحمد تقي مصباح اليزدي، وعبد الكريم سروش، وعبدالله جوادي الآملي نفسه. وقد تبنّى جميعهم المنهج الصدرائي في التفكير، بتأثير من أستاذهم الطباطبائي، الذي أطلق مع الإمام الخميني تيارا فكريا متجددا داخل الحوزة الشيعية، يتسم بالانفتاح على قضايا العصر وبتواصله الفعّال مع الجيل الشاب.
من رحم هذا التيار، نشأت مؤسسات فكرية ودينية رائدة في مجال التجديد الديني، مثل حسينية إرشاد، مدرسة حقاني، ومؤسسة “في طريق الحق“، التي أسسها تلامذة الطباطبائي وساهمت في تشكيل الوعي الديني في إيران خلال العقود السبعة الماضية.
من بين جميع طلاب الطباطبائي، كان جوادي الآملي الأكثر تأثرا بجانب تفسيره للقرآن، خصوصا في تفسير “الميزان“. واستنادا إلى هذا الأثر العميق، وإلى خلفيته الفكرية المتجذرة في المدرسة العلمية لآمل، شرع جوادي الآملي في تأليف مشروعه التفسيري الضخم “تسنيم“ الذي يُعد اليوم من أبرز التفاسير المعاصرة للقرآن الكريم.
اسم “تسنيم” مستوحى من الآية 27 من سورة المطففين:
(وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ)
في إشارة إلى نبع في الجنة يُسقى منه المقرّبون، وهو رمز للمعرفة الصافية والنورانية في التفسير العرفاني.
لم تقتصر شخصية جوادي الآملي على البعدين العلمي والفلسفي، بل اضطلع أيضا بأدوار دبلوماسية رفيعة. ففي عام 1989، مثّل إيران في زيارة تاريخية إلى الاتحاد السوفيتي، حاملا رسالة الإمام الخميني إلى الزعيم السوفيتي ميخائيل غورباتشوف، التي شكّلت آنذاك حدثا عالميا مهما. كما مثّل إيران في مؤتمر الألفية للأديان الذي نظّمته الأمم المتحدة عام 2000، ناقلا رسالة المرشد الأعلى علي خامنئي إلى المجتمع الدولي.
وعلى الصعيدين الفقهي والدستوري، يُعد جوادي الآملي من أبرز منظّري ولاية الفقيه في الفكر الشيعي المعاصر، وكان له دور فعّال في إدراج هذا المبدأ ضمن الدستور خلال مشاركته في أعمال مجلس صياغة الدستور بعد الثورة.
بذلك، يجسّد عبد الله جوادي الآملي شخصية علمية وفكرية نادرة، تجمع بين الأصالة الفلسفية، والتجديد التفسيري، والحضور السياسي والديني في قلب تحولات إيران الحديثة.
منهج تفسير “تسنيم”: تفسير القرآن بالقرآن
يندرج تفسير “تسنيم” لعبد الله جوادي آملي ضمن منهج “تفسير القرآن بالقرآن”، وهو المنهج الذي يرى أن القرآن، بوصفه نصا مقدسا، يمتلك القدرة الكامنة على تفسير نفسه بنفسه، أي إن آياته تُفسّر من خلال آيات أخرى ضمن السياق ذاته. وهذا ما يجعل تفسير «تسنيم» قريبا في منهجيته من تفسير “الميزان” للعلامة الطباطبائي، الذي يُعدّ من الرواد في ترسيخ هذا النهج.
قبل ظهور تفسير «الميزان»، كانت محاولات تفسير القرآن بالقرآن تقتصر غالبا على تتبّع الكلمات المشتركة في الآيات، أو مقارنة القصص، أو الوقوف عند الجوانب الأدبية واللغوية للنص القرآني. أما في منهج «القرآن يفسّر بعضه بعضا»، فيُفترض أن القرآن حجة ذاتية، أي إن دلالاته مستندة إلى ذاته، مع الإقرار في الوقت نفسه بحجية العقل والرواية.
يمتاز هذا المنهج أيضا بقدرته على تخطي الحدود الطائفية، فهو منهج تفسيري يمكن أن يحظى بقبول لدى الشيعة، وفي الوقت نفسه، بسبب اعتماده على النص القرآني المجمع عليه، يمكن أن يُعترف به كمرجع موثوق من قبل أهل السنّة أيضا، مما يمنحه بُعدا وحدويا مهما في الفكر الإسلامي.
الركيزة الأساس لهذا النهج التفسيري هي الإيمان بأن القرآن كتاب فوق الزمان والمكان، وأنه صالح للاحتجاج به في كل عصر ولكل قوم. فمفاهيمه متجذرة في الفطرة الإنسانية، ومبنية على سنن إلهية ثابتة، مما جعله، على مدى أربعة عشر قرنا، كتابا حيّا ومؤثرا في حياة المسلمين.
في تفسيره لكل آية، يمرّ جوادي الآملي بأربع مراحل منهجية:
- المرحلة الأولى: “خلاصة التفسير”
حيث يتناول الآية من منظور لغوي وأدبي، مع التركيز على بلاغة النص وبيانه. - المرحلة الثانية: “التفسير”
يعرض فيها مضمون الآية بشكل تحليلي، ويناقش أحيانا آراء المفسرين السابقين بالنقد أو التأييد. - المرحلة الثالثة: “اللطائف”
وهي القسم الذي يقدّم فيه اجتهاداته الخاصة، ورؤاه الفلسفية والروحية الأعمق في دلالة الآية. - المرحلة الرابعة: “الروايات والسنة”
حيث يُدرج الروايات الدينية، ويُشير إلى سبب النزول إن وُجد، رابطا الآية بسياقها التاريخي والنقلي، دون أن يجعل الرواية المصدر الوحيد أو النهائي في التفسير.
بهذه المقاربة المتعددة الأبعاد، يجمع جوادي الآملي في «تسنيم» بين التحقيق العقلي والفلسفي، والتحليل اللغوي، والتأصيل القرآني، والتوظيف الروائي، مما يجعل عمله من أبرز المشاريع التفسيرية المعاصرة ذات الطابع المنهجي العميق.
يجب النظر إلى عبد الله جوادي الآملي كاستمرار للمدرسة الفكرية لآمل. لقد تأثر بشكل مباشر بآراء محمد بن جرير الطبري التفسيرية وآراء حيدر الآملي العرفانية. وفي هذا السياق، فإن استفادته من أساتذة مثل العلامة الطباطبائي، وملا محمد تقي الآملي والإمام الخميني تمثل نقطة وصل له مع الآراء الفلسفية لملا صدرا.
بالطبع، يُعد تفسير “تسنيم”، الذي هو ثمرة 40 عاما من التدريس في مجال تفسير القرآن، موسوعة قرآنية موثوقة، حيث إن منهجيته ومعرفته تأثرت بأعمال العلامة الطباطبائي.
وبالنظر إلى منهج “القرآن بالقرآن“ وشرح الآية بناءً على آية أخرى، فإن تفسير “تسنيم” لا يحمل لغة شيعية بحتة، بل يمكن أن يكون مرجعا أيضا لأهل السنة. بالطبع، في التاريخ، اعترف بعض المفسرين الشيعة بتفسير “القرآن بالسنة“ أيضا. تفاسير مثل البرهان لهاشم البحراني أو نور الثقلين للعروسي الحويزي من بين التفاسير التي تعتمد على الرواية الشيعية، بينما يُعتمد في تفسير الميزان وتفسير تسنيم على النص القرآني كمصدر أساسي للتفسير.