كتب: محمد بركات
في المشهد السياسي الإيراني، تلعب التحالفات والانقسامات الداخلية دورا محوريا في تحديد موازين القوى، لا سيما داخل التيار الأصولي، الذي شهد على مدار السنوات الأخيرة، صراعات متكررة بين أجنحته المختلفة، ومع كل استحقاق انتخابي، تتجدد هذه التوترات، حيث يسعى كل طرف إلى ترجيح كفته، سواء عبر الحوارات المغلقة أو من خلال المواقف المعلنة في وسائل الإعلام.
هذا وتعد الانتخابات الرئاسية المبكرة لعام 2024، واحدة من المحطات التي كشفت عمق هذه الخلافات، إذ برزت المنافسة بين شخصيات بارزة داخل التيار الأصولي، الأمر الذي أدى إلى اجتماعات مكثفة لمحاولة توحيد الصفوف. لكن مع اختلاف وجهات النظر وتباين المصالح، لم يكن من السهل التوصل إلى توافق، ما فتح الباب أمام العديد من التأويلات حول كواليس تلك الاجتماعات وما دار فيها من نقاشات حاسمة.
في هذا السياق، يعود الجدل مرة أخرى إلى الساحة مع ظهور تصريحات جديدة حول اجتماع مشهد الشهير، حيث بدأت تتكشف تفاصيل جديدة تضيء على ما كان يجري خلف الكواليس، مما أثار تساؤلات عديدة حول مدى تأثير هذه الخلافات على مستقبل التيار الأصولي والمشهد السياسي في إيران ككل.
خلفية الاجتماع
ترجع أحداث هذا الاجتماع إلى العام الماضي، ففي خضم الانتخابات الرئاسية المبكرة التي شهدتها إيران في يوليو/تموز 2024، وذلك بعد حادثة سقوط طائرة إبراهيم رئيسي، الرئيس الإيراني السابق، في مايو/أيار 2024، بلغ الانشقاق داخل التيار الأصولي أقصى درجاته، حيث كان محمد باقر قاليباف، ممثل التيار المعتدل والوسطي في الجناح الأصولي، في مواجهة مباشرة مع سعيد جليلي، الذي حظي بدعم التيارات الأصولية المتشددة في الجناح نفسه. حاول أنصار كل طرف إقناع الطرف الآخر بالانسحاب لصالحه، بحجة أن ذلك يخدم المصلحة العامة للتيار الأصولي.
حينها، رأى أتباع جليلي، خاصةً أعضاء جبهة الصمود، أن جليلي هو المرشح الأوفر حظا داخل المعسكر الأصولي، واعتبروا إصرار قاليباف على البقاء سعيا وراء السلطة. وفي المقابل، اعتبر أنصار قاليباف أنه في حال انتقال الانتخابات إلى الجولة الثانية، فإن أي مرشح سيواجه جليلي سيكون الفائز في نهاية المطاف، لذا طالبوا جليلي بالانسحاب قبل فوات الأوان.
بلغت الخلافات ذروتها في ليلة الانتخابات، عندما عُقد اجتماع مهم في شارع راهنمايي بمدينة مشهد الإيرانية لحسم هذا الأمر، حينها ظهرت روايات متضاربة حول مجريات هذا الاجتماع، فقد أشارت بعض الشائعات إلى أن حسن نصر الله، الأمين العام السابق لحزب الله، كان قد طلب من جليلي الانسحاب، في حين تحدثت أخرى عن تدخُّل شخصيات أخرى، ولكن انتهت التخمينات عند هذا الحد ولم يتطرق أحد إلى تفاصيله مرة أخرى.
عودة الجدل حول مجريات الاجتماع
إلا أن الأمر لم يستمر في طي الكتمان، فقد عاد مرة أخرى للساحة عقب مقتل حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، في أكتوبر/تشرين الأول 2024، حينها كرر أنصار قاليباف ادعاء أن نصر الله كان حاضرا في ذلك الاجتماع وأنه طلب من جليلي الانسحاب لصالح قاليباف، لكن جليلي رفض.
ومن بين ما قاله ذلك التيار، ما نشره محمد حسين مصباح، وهو من المقربين من قاليباف، على حسابه بمنصة إكس في أكتوبر/تشرين الأول 2024: “عار عليكم، لقد سمعتم ظروف المنطقة ولم تقبلوا التنحي بسبب هوى النفس، وفرضتم هذه المصيبة”.
هذا وقد ادعى موقع بهار نيوز في تقرير له بالشهر نفسه، أن هذا الاجتماع قد حضره كل من إسماعيل قاآني قائد فيلق القدس، ومحسن رضائي عضو مجمع تشخيص مصلحة النظام، وأمير حاجي زاده قائد القوات الجوفضائية للحرس الثوري، وأحمد مروي، متولي العتبة الرضوية، وأنه وفقا لمصادر غير رسمية، فإن قاآني هو من طلب ذلك، لكن لا توجد معلومات مؤكدة حول ما إذا كان نصر الله قد حضر بالفعل الاجتماع أم لا، ولكن الأمر خفت مرة أخرى دون تعليق أي من الأطراف.
على أن الأمر تجدد مرة أخرى عندما نشر جليلي، مقطع فيديو على حسابه بمنصة إكس، الثلاثاء 25 فبراير/شباط 2025، خلال كلمته في جلسة حول الحكمة السياسية في القرآن، ردا على سؤال أحد الحضور عن تفاصيل آخر اجتماع انتخابي في مشهد، واصفا ما تم تداوله من أخبار حول طلب نصر الله منه التنحي بـ”الكذب المحض”، حيث قال: “كنت هناك، ومعي السيد قاليباف والسيد قاآني، ولم يتم التطرق إلى أي نقاش حول المقاومة، ولم يجر أي اتصال هاتفي، ولم يكن هناك أي شخص آخر في الاجتماع، وكل ما يُقال محض كذب وافتراء، حتى بعد مقتل أخينا العزيز حسن نصر الله، نشروا أكاذيب ونسبوا هذا الكذب إليه”.
تفاصيل الاجتماع السري
بالتزامن مع نشر فيديو جليلي، سلط موقع رجا نيوز، المقرب من جبهة بايداري، الصمود، الضوء على أبعاد أخرى للاجتماع السري بمشهد، حيث أكد الموقع في تقرير له 25 فبراير/شباط 2025، حضور جليلي، وقاليباف، واللواء قاآني، زاعما أن الاجتماع جاء نتيجة جهود بعض الشخصيات، ومن ضمنهم محسن رضائي، للوصول إلى مرشح واحد يمثل التيار الثوري.
ووفقا لرواية الموقع، فقد أصر قاليباف خلال الاجتماعات التي سبقت اجتماع مشهد، على أن يكون معيار اختيار المرشح النهائي هو القبول الشعبي ونتائج استطلاعات الرأي، وبعد خطاب جليلي في مشهد وزيارته منزل والدة رئيسي، الرئيس الإيراني السابق، انعقد اجتماع ثلاثي بينه وبين اللواء قاآني وقاليباف.
وأكد التقرير أن قاآني لم يحضر الاجتماع بصفته قائدا لقوة القدس، بل على حسب وصف الموقع، صديقا قديما يحظى باحترام كلا الطرفين، ويضيف التقرير أن قاليباف أصرّ على أن يكون المرشح النهائي، لكن جليلي شدد على أنه لا يمانع ترشح الآخرين، إلا أن الانسحاب يجب أن يستند إلى نتائج استطلاعات الرأي، التي لم تكن لصالح قاليباف آنذاك.
وحسب الموقع، فقد قال قاليباف خلال الاجتماع إنه يتمتع بما وصفه بأنه حجة شرعية للبقاء في السباق الانتخابي وذلك بناء على تكليف من بعض الجهات، الأمر الذي فسره الموقع على أنه تأييد المرشد، وحينها أبدى استعداده للانسحاب إذا كان هناك توجيه مباشر من المرشد، لكنه طلب الانتظار حتى اليوم التالي؛ للتحقق من صحة الادعاء.
وفي اليوم التالي، حصل أحد المقربين من حملة جليلي على موعد قصير للقاء المرشد الأعلى، وسأله عن صحة ادعاء قاليباف، فجاء الرد من المرشد: “لم أكلف أحدا بالبقاء أو الانسحاب من الانتخابات”، مضيفا: “رغم أن البعض جاء ليطلب مني قول ذلك، فإنني لم أوافق قط”.
وردا على ذلك، كتب أمير حسين يزدان بناه، عضو حملة قاليباف الانتخابية: “لم نتحدث حتى الآن عن الاجتماع الانتخابي الأخير الذي حضره الدكتور قاليباف واللواء قاآني والدكتور جليلي في مشهد؛ وذلك حفاظا على وحدة التيار الثوري، ولوجود بعض التفاصيل التي لم يكن من المناسب ذكرها، خصوصا في ظل ظروف الحرب مع الكيان الصهيوني. ولكن بعد الأكاذيب التي نُشرت، أصبح من الضروري الكشف عن تفاصيل ما جرى في اجتماعات الأربعاء والخميس”.
ليأتي الرد من علي رضا سليماني، رئيس تحرير رجا نيوز، حيث كتب على حسابه بمنصة إكس في 26 فبراير/شباط 2025: “لقد صمتنا أمام الأكاذيب لمدة ثمانية أشهر، واليوم لا نرى هدية أفضل من أن تكشفوا كل ما تريدونه. كما تراجعتم عن أكاذيبكم بشأن السيد، ستتراجعون عن كل ما ستقولونه لاحقا. هناك كثير من الكلام في صدورنا”.
جذور الصراع
يعود الصراع بين محمد باقر قاليباف وسعيد جليلي إلى أكثر من عقد، حيث بدأ التنافس بينهما في انتخابات عام 2013، عندما رفض جليلي الانسحاب لصالح مرشح التيار الأصولي، مما أدى إلى تشتت الأصوات وفوز حسن روحاني. منذ ذلك الحين، أصبح كل منهما يرى الآخر عائقا أمام طموحاته الرئاسية، فوفقا للخبراء، لم يكن الخلاف بينهما مجرد تنافس انتخابي، بل امتد إلى مستوى فكري وإداري، حيث انتقد جليلي سجل قاليباف في تنفيذ المشاريع العمرانية، بينما ردّ الأخير بالتشكيك في كفاءة جليلي الإدارية.
ولم يتوقف الصراع عند ذلك، فخلال أعمال الدورة البرلمانية الحادية عشرة عام 2020 والتي كانت تحت إدارة قاليباف أيضا، قاد أنصار جليلي حملات ضد قاليباف، متهمين إياه بسوء الإدارة، مثل قضية التلاعب في الميزانية، وسفر عائلته إلى تركيا، وملف السيارات الفاخرة للنواب. هذه الخلافات تعمّقت بعد الانتخابات الأخيرة، حيث انتقد جليلي وحلفاؤه مواقف قاليباف بشأن قضايا مثل قانون الحجاب، ورفع الحظر عن بعض التطبيقات، وعدم دعمه لاستجواب وزير الاقتصاد الحالي عبد الناصر همتي.
مستقبل الصراع.. هل تكون المواجهة طويلة الأمد؟
وحول مصير هذا الصراع، تجيب صحيفة هم ميهن في عددها للخميس 27 فبراير/شباط 2025، بأنه من الواضح أن كلا الطرفين لن يتراجع بسهولة، خاصةً أن كليهما يرى نفسه المرشح الأبرز لرئاسة الجمهورية في المستقبل، فقد يحاول قاليباف الحفاظ على نفوذه عبر تحالفات حكومية، في حين يسعى جليلي إلى حشد دعم شعبي وإعلامي لإضعافه.
في النهاية، ترجح الصحيفة أن هذا الصراع لن ينتهي قريبا، بل قد يتحول إلى مواجهة طويلة الأمد، حيث يحاول كل طرفٍ فرض رؤيته على المشهد السياسي الإيراني، وأن الأيام القادمة ستحسم إن كان أحدهما سينجح في إقصاء الآخر، أم أن التنافس سيستمر حتى الانتخابات المقبلة.