كتب: محمد بركات
أزمة لطالما ألقت بظلالها على المجتمع الإيراني، فمع تعاقب الحكومات المختلفة وتغيير الرؤى السياسية حول ما يجب فعله في قضايا كالملف النووي والعلاقات مع دول الجوار والحرب مع أمريكا، يظل ملف الإسكان في إيران أحد الملفات التي تشاركت فيها الحكومات، الإصلاحية والأصولية، المصير نفسه، وهو العجز عن حله. فقد صرح محمد باقر قاليباف، رئيس البرلمان الإيراني، صباح الاثنين 4 نوفمبر/تشرين الثاني، خلال الملتقى السنوي العام لمؤسسة الإسكان قائلا: “بعد 45 عاما، لم نتمكن من حل مشكلة الإسكان على الرغم من تراكم كبير من الاستثمارات التي يجب أن تُستغل في تطوير البلاد”، وذلك وفقا لتقرير وكالة إيسنا الإخبارية بتاريخ 4 نوفمبر/تشرين الثاني.
قال قاليباف في مستهل حديثه خلال الملتقى: “أحييكم جميعا، أيها الأعزاء والمجاهدون في مجال الخدمة وبناء المساكن، فأنتم تجعلون بناء المساكن للفئات الأكثر احتياجا في المجتمع أولويتكم، إن مؤسسة الإسكان مؤسسة ثورية، وتعد من أولى المؤسسات الثورية التي أُسست بعد قيام الجمهورية الإسلامية، ذلك النظام الذي يجب أن يضمن دين ودنيا الناس ويسير بهما إلى الأمام؛ إذ إن كلا منهما دون الآخر ليس من أهداف الثورة”.
وقد أشار قاليباف إلى تأسيس مؤسسة الإسكان في 10 أبريل/نيسان 1979، قائلا: “بعد مرور 45 عاما على الثورة، لا يزال خطاب الإمام الخميني في العاشر من أبريل/نيسان حيا، وذا مغزى وقابل للتطبيق. فقد جعل الإمام موضوع الإسكان إحدى أهم القضايا في هذه المؤسسة الأولى”. مضيفا: “إن الوضع اليوم مختلف عن الماضي، ففي الأزمنة القديمة ربما كانت الأولوية للملبس والمأكل، ولم يكن من الشائع أن يمتلك الجميع مسكنا، ولم تكن هناك مثل هذه التوقعات، حيث كان العديد من الناس يستأجرون بيوتا، فقد كان نمط الحياة مختلفا. لكن اليوم، باتت الحقيقة ونمط الحياة يفرضان أن يكون السكن موضوعا مهما كأهمية الطعام واللباس في الحياة”.
وأكد رئيس البرلمان ضرورة اهتمام جميع الجهات التنفيذية والتشريعية بموضوع الإسكان، قائلا: “بعد 45 عاما لم نتمكن من حل مشكلة السكن، على الرغم من تراكم كبير من الاستثمارات التي يجب أن تُستغل في تطوير البلاد. ينبغي لهذه الاستثمارات أن تدور مرتين سنويا في دورة السوق، لكنها تُدفن في المجالات الاقتصادية المختلفة، وتبقى راكدة، ثم يستفيد البعض من التضخم، دون أن يتحقق أي ازدهار”.
وأضاف: “يوجد في البلاد عدة ملايين من المساكن الفارغة، وفي المقابل هناك ملايين الأسر بلا مأوى. هذا يعني أن إنتاج المساكن قليل، وحتى تلك التي تُنتج يتم احتكارها”.
وبيّن رئيس البرلمان أن “علينا الوصول إلى فهم صحيح لمسألة الإسكان، وأن نصل إلى إدراك وفهم مشتركَين في مجال الحكم بموضوع الإسكان، لنخطط ونضع السياسات اللازمة. يجب أولا أن تكون لدينا القدرة على فهم المشكلة، ثم تحويلها إلى قضية، ومن ثم إيجاد القدرة على حلها. فإذا لم نعترف بوجود المشكلة، فلن نتمكن من حلها، وأنا، بصفتي خادما، وممثلا عن الشعب، وخادما لنواب المجلس، أقول من هذا المنبر إن لدينا قضية تُدعى الإسكان، ولم نتمكن من حلها”.
وخلال حديثه طرح قاليباف هذا التساؤل قائلا: “مع استمرار هذا الوضع، في أي سن سيتمكن الناس من امتلاك منزل؟”، وأجاب قائلا: “بافتراض أن كل أسرة تدخر ثلث دخلها لتتمكن من شراء منزل، فإن الأمر سيستغرق 80 عاما للفئات الأقل دخلا حتى تصبح مالكة لمنزل، مما يعني أن الشخص قد يرحل عن الدنيا قبل أن يمتلك بيتا! أما بالنسبة للطبقة المتوسطة في المدن الكبرى، فإن هذه المدة تبلغ على الأقل 50 عاما، بينما متوسط مدة امتلاك المنزل في الدول الأخرى يتراوح بين 8 و15عاما”.
أزمة السكن في إيران:
تفاقمت مشكلة الإسكان في إيران بشكل كبير خلال العقود الأخيرة، وأصبحت تشكل عبئا على حياة المواطنين، خاصةً الفئات ذات الدخل المحدود، وترجع هذه الأزمة إلى عدة أسباب؛ أولها: ارتفاع أسعار الإيجارات، حيث تشير التقارير إلى أن معدلات التضخم في أسعار العقارات والإيجارات زادت بنسب قياسية، إذ بلغ معدل التضخم السنوي للإيجارات نحو 52%، بينما ارتفعت أسعار العقارات بشكل ضخم يعادل نحو 17 ضعفا خلال ست سنوات. هذا الوضع يجعل شراء منزل أو حتى استئجاره أمرا بعيد المنال لكثير من الأسر، حيث يصل سعر متر واحد من العقارات في بعض المناطق إلى 11 ضعف الدخل الشهري للعامل، مما يؤثر بشكل كبير على حياة الأفراد ويزيد من انتشار فقر السكن، وذلك وفقا لتقرير نشره موقع هم ميهن الإخباري بتاريخ 20 ديسمبر/كانون الأول 2023.
أحد الأسباب الأخرى لتلك الأزمة هو الشراء بغرض الاستثمار لا السكن، فقد أشار خبراء إلى أن 70% من المعاملات العقارية تتسم بالطابع الاستثماري، حيث يتجه الأفراد والمؤسسات لشراء العقارات كوسيلة لزيادة رأس المال بدلا من استخدامها للسكن، وهذا يؤدي إلى تضخم في أسعار العقارات والإيجارات على حساب الفئات الفقيرة، وذلك وفقا لتقرير بنك اطلاعات ساختمان المنشور بتاريخ 14 سبتمبر/أيلول.
من ناحية أخرى، لعب التضخم دورا في تفاقم هذه الأزمة، حيث تشير تقارير مركز الإحصاء الإيراني إلى أن نحو نصف السكان في إيران يعانون من فقر السكن، أي عدم القدرة على شراء منزل يناسب عدد أفراد الأسرة أو حتى استئجاره، حيث يُجبرون على العيش في منازل غير مناسبة أو مزدحمة بسبب ارتفاع التكاليف، فقد بلغت نسبة تكلفة السكن للأسر التي تعيش بالمدن إلى ما يصل إلى 42.4% في عام 2024، مما جعلها أعلى نسبة إنفاق للأسرة. بينما تُظهر المؤشرات العالمية أن الأسر التي تتجاوز فيها نسبة السكن 30% من إجمالي الإنفاق تُعدّ فقيرة سكنيا. وبالتالي، فإن نسبة تكلفة السكن للأسر الحضرية في عام 2024 تتجاوز المعايير العالمية بنحو 12.4%. وهذا يعني أن تكاليف السكن مرتفعة لدرجة تجعل الأسر تضطر إلى تقليل الإنفاق على بنود أخرى كالغذاء، والصحة، والتعليم، والترفيه، وذلك وفقا لتقرير موقع اقتصاد أونلاين المنشور بتاريخ 2 نوفمبر/تشرين الثاني.
وإضافة إلى التضخم، فقد أدت السياسات الحكومية غير المتسقة دورا في تفاقم الأزمة. فبمرور السنوات، تبنت الحكومات المتعاقبة سياسات متنوعة لحل مشكلة الإسكان، من أهمها كان مشروع “نهضة الإسكان الوطني” الذي كان يهدف إلى بناء مليون وحدة سكنية سنويا، إلا أن هذا المشروع لم يحقق الأهداف المرجوة منه، حيث واجه صعوبات عدة؛ منها محدودية موارد الصندوق، وعدم إمكانية تحقيق نسبة 20% من القروض المخصصة لقطاع الإسكان، والمشكلات الناجمة عن تغيير تخصيص الأراضي، وزيادة الكثافة، وملكية الأراضي الممنوحة من قبل الأجهزة التنفيذية، وارتفاع تكلفة تجهيز الأراضي المضافة والتوسع المنفصل، وعدم وضوح مصادر تمويل تكاليف تجهيز البنى التحتية في الأراضي الوطنية، وغياب الدقة في آليات توفير الخدمات الإنشائية، والأنماط وطرق البناء التقليدية، وذلك وفقا لتقرير وكالة أنباء تسنيم المنشور في 21 يناير/كانون الثاني 2022.
لم لا تحل أزمة السكن في إيران؟
أرجع بهزاد عمران زاده، الأستاذ الجامعي والخبير في مجال الإسكان ومسؤول مركز أبحاث المدينة الإسلامية، الأزمة إلى أن 70% من المعاملات في سوق الإسكان من النوع الاستثماري، مما يؤدي إلى خلق تأثيرات تضخمية في هذا السوق، كما أوضح عمران زاده أنه نظرا إلى انخفاض قدرة المشترين، فقد وقعت مبادرة الإسكان الوطني في يد السماسرة، في حين أن الحل لتأمين المساكن للفئات الأقل دخلا هو تخصيص أراضٍ مجانية ضمن حدود المدينة، وتقديم تراخيص البناء للمشترين الحقيقيين، ومشاركتهم مع المقاولين لبناء المساكن، مضيفا أن المشكلة الحالية ليست في نقص المساكن، بل في غلاء أسعارها، مما يجبر الناس على السكن في ظروف سيئة أو على التضحية بجزء من معيشتهم، وذلك وفقا لحوار أجراه مع موقع خبر أونلاين المنشور في 28 أكتوبر/تشرين الأول.
وخلال الحوار وجَّه له سؤالا، مفاده: “لماذا أدت السياسات المتبعة على مر الحكومات المختلفة إلى تعقيد مشكلة الإسكان أكثر فأكثر؟”. وفي الإجابة عن ذلك قال: “أنا لا أعتقد أن مشكلة الإسكان أصبحت أكثر تعقيدا من فترة إلى أخرى، ففي فترة الثورة كانت هناك العديد من الأحياء العشوائية في طهران وضواحي مدن أخرى، وبيان الخميني في أبريل/نيسان يُظهر أن الإسكان كان يُعتبر مشكلة موروثة يجب معالجتها، وكان يؤمن بدور الشعب في هذا المجال، فإذا استعرضنا السياسات المختلفة بعد الثورة، نجد أنه أحيانا كانت هناك إنجازات جيدة، مثل إزالة الأحياء العشوائية بالمدن في العقد الأول من الثورة، ومن خلال تأسيس مؤسسة الإسكان، والقروض الحسنة، وتوزيع الأراضي المجانية، وحتى الكوبونات لتأمين مواد البناء، وصل سوق الإسكان إلى حالة من التوازن، وتم حل جزء كبير من مشكلة الإسكان في تلك الفترة، لكن هذا المسار لم يستمر، وقد كان لدينا المادة 9 من قانون الأراضي الحضرية التي كانت تتيح للحكومة والمؤسسات العامة السيطرة على الأراضي من أجل الإسكان، ولكن تم إيقاف تنفيذ هذا القانون فيما بعد”.
ويكمل: “أما السياسات الداعمة والمسهلة، مثل القروض والتسهيلات الأخرى، والتي كانت متاحة في العقد الأول بعد الثورة، فقد تضاءلت مع سياسة التعديل الاقتصادي والتوجه نحو اقتصاد السوق الرأسمالي في فترة إعادة الإعمار، مما أدى إلى تفاقم مشكلة الإسكان. وفي النصف الأول من العقد الثالث، استمر الوضع على هذا الحال حتى تولت حكومتا أحمدي نجاد السلطة في النصف الثاني من العقد الثالث، وحدثت تطورات إيجابية رغم العيوب في تنفيذ مشروع (مسكن مهر)، حيث ساهم في حل جزء من مشكلة الإسكان، خاصة للفئات الدنيا”.
وأردف: “وقد استمر هذا النهج حتى الحكومتين الحادية عشرة والثانية عشرة، حكومتي أحمدي نجاد وحسن روحاني، حيث واجهنا حالة من عدم الفعالية وسوء التنفيذ في مجال الإسكان، وتحول موضوع الإسكان من مشكلة إلى أزمة، وفي الدورة الحادية عشرة من البرلمان والحكومة الثالثة عشرة، حكومة إبراهيم رئيسي، حدثت تطورات جيدة”.
وختم بقوله: “إذا استمر هذا النهج، فقد نتمكن من القضاء على مشكلة الإسكان خلال 5 إلى 6 سنوات القادمة، بشرط استمرار القوانين التي تم تمريرها في البرلمان الحادي عشر، والمشاريع التي تنفذها الحكومة الثالثة عشرة”.