كتب: مصطفى أفضل زادة، مراسل “زاد إيران” في طهران
ترجمة: علي زين العابدين برهام
تعتبر المشاركة في رحلات “راهيان نور” في إيران من أكثر التجارب تميزا وتأثيرا، سواء للإيرانيين أو حتى للزوار الأجانب. تتضمن هذه الرحلات زيارة لمناطق الحرب التي شهدت الصراع بين إيران والعراق، وعادةً ما تُقام قبل بداية العام الإيراني الجديد بشهر وحتى نهاية عطلة “النيروز” التي تستمر 13 يوما.
توفر هذه الرحلات فرصة كبيرة لفهم أعمق لتاريخ إيران وثقافتها وروح المقاومة التي تميز شعبها، وقد أصبحت هذه الرحلات، التي تُنظّم منذ نحو 30 عاما، حركة ثقافية وطنية راسخة في المجتمع الإيراني.
يقول “داود مؤذنيان”، أحد رواة رحلات “راهيان نور”: “بعد انتهاء الحرب، كنا نزور مناطق العمليات العسكرية بشكل فردي أو بصحبة مجموعة من الأصدقاء، حيث نسترجع الأجواء ونستذكر ذكرياتنا مع الأصدقاء الذين استُشهدوا، ومع مرور الوقت، بدأنا بتنظيم قوافل منظمة لزيارة تلك المناطق. في البداية، كانت هذه القوافل محدودة العدد، حيث لم يتجاوز المشاركون فيها 400 أو 500 ألف شخص، وذلك لأن فكرة زيارة المدنيين لمناطق الحرب كانت أمرا جديدا وغير مألوف في ذلك الوقت”.
تُنظَّم رحلات “راهیان نور” بشكل أساسي من قِبَل قوات “الباسيج”، إضافة إلى الجامعات والمدارس والمؤسسات الثقافية، حيث يشارك فيها ملايين الأشخاص من عامة الناس سنويا لزيارة مناطق الحرب التي شهدت أحداث الحرب بين إيران والعراق. وقد تحولت هذه المناطق اليوم إلى مواقع تاريخية تذكارية، تستقبل قوافل متنوعة من الطلاب والتلاميذ والعائلات، وحتى السياح الأجانب.
لا تقتصر رحلات “راهيان نور” على كونها زيارات تاريخية فقط، بل هي تجربة عميقة تهدف إلى إتاحة الفرصة للزائرين لفهم الأبعاد المختلفة لحرب إيران والعراق، واستشعار معاني التضحية والصمود التي تجسدها تلك المناطق.
خلال موعد إقامة هذه الرحلات، تتوجه قوافل متنوعة تضم شرائح مختلفة من المجتمع إلى المناطق التي كانت تشكل خطوط الجبهة الأمامية خلال الحرب التي استمرت 8 سنوات بين إيران والعراق. يشارك في هذه الرحلات رواة الحرب، وغالبيتهم من المحاربين القدامى والمصابين، حيث يقفون بين المشاركين ليحكوا وقائع الأيام الصعبة التي عاشوها خلال الحرب، ويسردون قصص مقاومة القوات الإيرانية وتضحياتها.
تتضمن روايات “راهيان نور” عرض وثائقيات حية وآثار باقية من حقبة الحرب، مما يعمق فهم الزائرين لتلك الفترة التاريخية ويجعل التجربة أكثر تأثيرا وواقعية.
يعتبر أحد الجوانب البارزة لرحلات “راهیان نور” تأثيرها العميق على الأجيال الشابة. فمن خلال مشاركة الطلاب والطالبات الإيرانيين في هذه الرحلات، لا يكتسبون فقط فهما أعمق لتاريخ بلادهم المعاصر، بل يدركون أيضا قيم التضحية والإيثار والوحدة الوطنية التي تجسدها تلك الفترة.
تُظهر النقاشات مع المشاركين في هذه الرحلات أن هذه التجارب تُحدث تحولا كبيرا في نظرتهم تجاه وطنهم، وتعزز لديهم الشعور بالمسؤولية الاجتماعية، مما يجعل هذه الرحلات أداة فعّالة لتعزيز الانتماء الوطني وغرس القيم الإنسانية لدى الشباب.
يكتب “علي محمدي”، أحد رواة رحلات “راهیان نور”، في مذكراته: “جاءت مجموعة من الطلاب لزيارة إحدى مناطق الحرب، ورغم اقتراب فصل الربيع، كان الجو حارا في الجنوب. عندما نزل الطلاب من الحافلات، لاحظت أنهم خلعوا أحذيتهم، شعرت بالخجل، فقررت أن أفعل مثلهم وخلعت حذائي أيضا. في تلك المناطق، عندما تتعرض الرمال لأشعة الشمس، تصبح حارة بشكل لا يُحتمل، وقليلون هم من يستطيعون تحمل هذا الحر الشديد والمشي حفاة الأقدام”.
ويستطرد محمدي قائلا: “كان المشهد الذي رأيته، حيث الشباب يسيرون حفاة الأقدام بحماسة على الرمال الحارقة تحت أشعة الشمس اللاهبة، مشهدا آسرا ومليئا بالعبرة بالنسبة لي. إن قوتهم وحماسهم للسير حفاة كان بمثابة تقليد لروح المجاهدين الذين ساروا في تلك الصحاري عطشى خلال أيام الحرب، حيث استشهد كثير منهم، فقد كان على المجاهدين قطع مسافة تصل إلى نحو 18 كيلومترا سيرا على الأقدام.
تخيل شخصا يحمل على ظهره حقيبة وسلاحا ومعدات فردية، ويقطع مسافات طويلة في حرٍّ لا يُطاق ليشن هجوما على العدو ويتقدم، إن ذلك يتطلب قوة هائلة. أليس الله هو الذي منحهم هذه القوة العجيبة؟”.
تُعد زيارة منطقة “الشلامجة” واحدة من أكثر اللحظات تأثيرا خلال رحلة السفر إلى مناطق الحرب، فهي المكان الذي يرقد فيه العديد من الشهداء، إذ يقوم المشاركون في هذه الرحلات بقراءة الأدعية، واستذكار الذكريات، وحتى كتابة رسائل للشهداء، مما يعمق ارتباطهم العاطفي بهذه الأماكن المقدسة، كما يأخذ كثيرون من تربة هذه المناطق بركة وذكرى من هذه الرحلة، ليحملوها كهدايا تذكارية لأصدقائهم ومعارفهم.
يقوم العديد من الأشخاص من مختلف شرائح المجتمع الإيراني كل عام بالسفر إلى مناطق الحرب ضمن رحلات “راهيان نور”؛ من أجل التعرف على تاريخ وثقافة بلادهم. وعكس العديد من مناطق الحرب في العالم، تسود في المناطق الإيرانية أجواء روحانية وفريدة، حيث لا تزال هذه الأماكن، حتى بعد مرور عدة عقود على الحرب، تعيد إحياء مشاعر وذكريات تلك الفترة في نفوس الزائرين.