كتب: مصطفى أفضل زادة، مراسل “زاد إيران” في طهران
ترجمة: علي زين العابدين برهام
في السينما العالمية، تحظى الأفلام التي توثق لحظات حاسمة في تاريخ الشعوب بمكانة خاصة، ويأتي فيلم “إله الحرب”، للمخرج حسين دارابي، كأحد النماذج البارزة لهذا النمط السينمائي، حيث يقدّم سردا مشحونا بالعاطفة والدراما، مستعرضا حدثا محوريا من الحرب الإيرانية – العراقية.
عُرض الفيلم في الدورة الـ43 لمهرجان فجر السينمائي، وحظي بترحيب واسع من الجمهور والنقاد. يتناول الفيلم جزءا من حياة حسن طهراني مقدم، الملقب بـ”أبو البرنامج الصاروخي الإيراني”، مسلطا الضوء على دوره في تطوير القدرات الدفاعية الإيرانية.
مهرجان فجر السينمائي: منصة للأعمال الوطنية البارزة
يُعد مهرجان فجر السينمائي أضخم حدث سينمائي في إيران، حيث استضافت دورته الرابعة والثلاثون في فبراير/شباط 2016، أبرز ما أنتجته السينما الإيرانية.
وبالتزامن مع الذكرى السنوية لانتصار الثورة الإسلامية، شهد المهرجان منافسة قوية بين أفلام متنوعة في مختلف الفئات السينمائية، ونجح في جذب اهتمام النقاد والجمهور على حد سواء.
“إله الحرب”: ملحمة سينمائية
لا يُعد “إله الحرب” مجرد فيلم حربي أو تاريخي، بل هو عمل سينمائي بحثي وفني يعالج إحدى أهم الفترات في التاريخ المعاصر لإيران بأسلوب درامي مشوق.
يسرد الفيلم قصة مجموعة من الخبراء والجنود الإيرانيين الذين يخوضون مهمة بالغة الصعوبة خلال الحرب الإيرانية – العراقية، حيث يسعون إلى تشغيل الأنظمة الصاروخية الإيرانية رغم الظروف القاسية، بينما يحاول العدو إفشال جهودهم في كل لحظة، لكن بفضل ذكائهم وصمودهم، ينجحون في تنفيذ عملية مصيرية تقلب موازين الحرب.
يقدم الفيلم صورة ملحمية عن دور حسن طهراني مقدم، الأب الروحي للبرنامج الصاروخي الإيراني، ورفاقه، مسلطا الضوء على تضحياتهم وجهودهم في تعزيز القدرات الدفاعية لإيران، في قصة تُجسد الإرادة والابتكار في مواجهة التحديات العسكرية.
بفضل إخراج حسين دارابي وسيناريو إحسان ثقفي، نجح الفيلم في تقديم تجربة سينمائية مشوقة ومؤثرة، حيث استطاع “إله الحرب” عبر تصميم مشاهد دقيقة ومؤثرات بصرية متقنة أن يعيد إحياء أجواء الثمانينيات في إيران، مما يجعل المشاهد يغوص في قلب الأحداث ويتفاعل معها بواقعية.
إثارة وتشويق في قلب المعركة
إحدى أبرز نقاط قوة الفيلم تكمن في مشاهد المطاردات والتوتر العالي التي أُدرجت بمهارة ضمن السرد السينمائي. ويُعد مشهد الهجوم على منزل الليبيين لاستعادة المعدات الصاروخية من أكثر المشاهد حبسا للأنفاس، حيث يضع الجمهور في ذروة التوتر والإثارة، مجسدا المخاطر التي واجهها الأبطال في سعيهم لإنجاز المهمة.
يجسد الفيلم شخصية إبراهيم شريفي، قائد فريق المتخصصين في الصواريخ، والتي تم كتابتها استنادا إلى شخصيات حقيقية، لتعكس إرادة وإبداع الإيرانيين خلال الحرب، ورغم استناده إلى وقائع تاريخية، يتجنب الفيلم أن يكون مجرد عمل توثيقي جامد، بل يضيف طبقات درامية وقصصا فرعية تعزز من جاذبيته السينمائية وتجعل الأحداث أكثر تأثيرا.
لا يقتصر “إله الحرب” على كونه فيلما حربيا تقليديا، بل يقدم رؤية أعمق حول التقدم العلمي والصناعي لإيران خلال إحدى أصعب الفترات التاريخية، وعلى عكس العديد من الأفلام الحربية التي تركز فقط على الجوانب العاطفية والبطولية، يتناول الفيلم البُعد الفني والهندسي للمعركة، كاشفًا كواليس حرب التقنيات والابتكارات العسكرية.
قابلية للنجاح عالميا
بفضل موضوعه الفريد وسرده القائم على البحث التاريخي الدقيق، يمتلك “إله الحرب” إمكانيات قوية للنجاح ليس فقط داخل إيران، بل أيضا على المستوى الدولي، حيث يسلط الضوء على أبعاد غير مألوفة من الحروب الحديثة، مما يجعله عملا سينمائيا قادرا على جذب اهتمام جمهور عالمي.
رغم نجاح “إله الحرب” في إيصال رسالته القوية ومعالجته المتميزة لموضوعه، فإن بعض النقاد يرون أنه كان بإمكان الفيلم تقديم سرد أكثر تماسكا لو ركّز بشكل أكبر على عملية تطوير الصواريخ والتحديات التقنية التي واجهها المهندسون الإيرانيون.
إضافة إلى ذلك، يشير بعض المراقبين إلى أن إدراج عناصر الأكشن والدراما العائلية في بعض المشاهد قد يُشتت الانتباه عن الخط الرئيسي للقصة، ومع ذلك، فإن هذه الملاحظات لا تقلل من القيمة الفنية والموضوعية للفيلم، الذي نجح في تقديم رؤية مشوقة وجذابة.
فيلم حربي برؤية جديدة
يُعد “إله الحرب” عملا متميزا في تصنيف السينما الحربية والتاريخية، حيث لا يقتصر على توثيق مرحلة حساسة من تاريخ إيران، بل يُشكل نموذجا يمكن الاستفادة منه في صناعة أفلام تتناول الأبعاد العلمية والصناعية والدفاعية.
بفضل الاهتمام الدقيق بالتفاصيل وسرده المثير والمشوّق، تمكن الفيلم من نيل إعجاب الجمهور، ليصبح واحدًا من أهم الأعمال السينمائية في مهرجان فجر لهذا العام.
إذا استطاع “إله الحرب” دخول الساحة الدولية، فسيكون إضافة بارزة للسينما الإيرانية على المستوى العالمي؛ نظرا إلى موضوعه الفريد وطريقة طرحه التي تجمع بين الإثارة والدقة التاريخية.
من هو “أبو الصواريخ الإيرانية”؟
يُعرف حسن طهراني مقدم بلقب “أبو البرنامج الصاروخي الإيراني”، وهو أحد أبرز القادة العسكريين والعقول الاستراتيجية التي كان لها دور أساسي في تأسيس وتطوير القدرات الصاروخية لإيران. بفضل نبوغه وإبداعه وإصراره الدؤوب، استطاع أن يبني البنية التحتية للصواريخ الإيرانية من الصفر.
خلال الحرب الإيرانية – العراقية، واجهت إيران تحديا كبيرا بسبب افتقارها إلى منظومة صاروخية متطورة، بينما كان الجيش العراقي، بدعم من الدول الغربية والاتحاد السوفيتي السابق، يمتلك ترسانة من الصواريخ بعيدة المدى.
في ظل هذه الظروف، تولى حسن طهراني مقدم، إلى جانب فريق من الخبراء الشباب، مهمة وضع الأسس الأولى للقدرات الصاروخية الإيرانية، ومن خلال الإبداع والاعتماد على الإمكانات المحلية، نجح في تأسيس نواة القوة الصاروخية للحرس الثوري عام 1984، وتمكن من تشغيل أولى منظومات صواريخ سكود، مما مثّل نقلة نوعية في القدرات الدفاعية الإيرانية.
رغم القيود الدولية ومحدودية المعرفة التقنية محليا، لم يستسلم حسن طهراني مقدم لهذه العقبات، بل بحث عن مصادر خارجية يمكنها دعم برنامج إيران الصاروخي، وكانت إحدى المحطات الحاسمة في هذا المسار هي التعاون مع ليبيا في الثمانينيات، حيث استعان بخبرات المستشارين الأجانب لإجراء أولى التجارب الصاروخية.
لكن طهراني مقدم لم يكن يرى في التكنولوجيا المستوردة حلا طويل الأمد، بل أدرك أن الاستقلال الحقيقي لا يتحقق إلا عبر توطين الصناعة الصاروخية، وهو ما جعله يسعى لتحويل المعرفة المكتسبة إلى إنتاج محلي متكامل.
من الاستيراد إلى التصنيع المحلي
مع نهاية الحرب العراقية – الإيرانية، لم تعد إيران تكتفي بشراء الصواريخ الجاهزة من الدول الأخرى، بل اتجهت نحو التصنيع الذاتي. قاد طهراني مقدم مشاريع بحثية متقدمة، واضعا أسس تطوير الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى.
وقد أثمرت هذه الجهود إنتاج صواريخ متطورة مثل شهاب، وسجیل، وقدر، وفاتح، مما عزز قدرات إيران الدفاعية وجعلها قوة صاروخية مستقلة.
كان يؤمن بأن إيران يجب أن تتجاوز مرحلة الاعتماد على التكنولوجيا المستوردة، وتسعى لبناء قدراتها الذاتية، لتصبح قوة صاروخية قادرة على مواجهة التحديات المستقبلية، وهو النهج الذي استمر بعده حتى اليوم.
يُعد تطوير تقنية الوقود الصلب للصواريخ أحد أعظم إنجازات حسن طهراني مقدم، حيث أسهم بشكل كبير في زيادة دقة الصواريخ الإيرانية، ومدى وصولها، وسرعة إطلاقها، لم يكن هذا الابتكار مجرد تقدم تقني، بل مثّل تحولا استراتيجيا غيّر موازين القوى في المنطقة، مما عزز قدرة الردع الإيرانية بشكل غير مسبوق.
في 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، فقدت إيران أحد أبرز عقولها الدفاعية عندما لقي حسن طهراني مقدم مصرعه في انفجار داخل قاعدة صاروخية للحرس الثوري في ملارد، أثناء اختبار منظومة صاروخية جديدة. كانت هذه الحادثة خسارة فادحة، حيث رحل أحد أهم الاستراتيجيين العسكريين الإيرانيين، تاركا خلفه إرثا يصعب تعويضه.
وكانت وصيته الأخيرة أن يُنقش على قبره:
“هنا يرقد رجل كان يسعى إلى تدمير إسرائيل”.