ترجمة: محمد بركات
ما زالت أصداء ما حدث في سوريا من سقوط نظام بشار الأسد الأحد 8 ديسمبر/كانون الأول، تدوي في المنطقة، فكما توجهت الأنظار إلى إيران وخسارتها موطئ قدم هاماً في المنطقة، فقد توجهت كذلك إلى تركيا، الدولة التي اعتبرت أن سقوط بشار كان بسبب عدم التعاون معها، الدولة التي أصبحت في داخل المشهد السوري الحالي وجزءا من مستقبله السياسي.
وبهذا الشأن فقد نشرت صحيفة فرهيختجان تقريرا يناقش أبعاد التكلفة التي على تركيا دفعها بسبب الأوضاع الجارية في سوريا، حيث قال: “من المؤكد أن تركيا سعيدة بسقوط نظام بشار الأسد، فمن وجهة نظر أنقرة، كان هذا النظام عائقا أمام نفوذها الواسع في سوريا، ولكن ما غفلت عنه تركيا أن الإرهابيين، تقصد فصائل المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام، قد سيطروا على دمشق، وأن قوتهم أو ضعفهم ستكون لها عواقب وخيمة على تركيا، فقوَّتهم قد تنقل الإرهاب إلى تركيا، وضعفهم سيخلق فوضى ويجعل محيط تركيا الإقليمي غير آمن”.
ويكمل التقرير بأن أنقرة مسرورة للغاية بما يحدث في سوريا لدرجة أنها، وبالتعاون مع جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي يتقدم من الجنوب باتجاه المناطق الجنوبية لسوريا، قد عززت ووسعت انتشارها العسكري في شمال البلاد، فإن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يعلم جيدا أنه لا يمكن الوثوق بـ”الإرهابيين”، ولهذا السبب أرسل مزيدا من وحدات الجيش التركي إلى سوريا.
لقد أراد أردوغان أن يسقط النظام السياسي السوري، لكنه لا يعرف ما سيحدث في المستقبل. ولهذا السبب، وفي الأيام الأخيرة، سعى لإسكات منتقديه والمعارضة الداخلية، وقدم خروج الأسد من دمشق ودخول الجولاني إليها كإنجاز شخصي له، مما يضع تركيا الآن في موقف حساس، حيث إنها تواجه تكاليف باهظة ومتزايدة دون أن تتمتع بأي فرص كبيرة.
التكلفة السياسية
جاء في تقرير الصحيفة، أن الآراء الإسلامية الراديكالية في إدلب، المتاخمة للحدود الجنوبية لتركيا، قد تكون لها تداعيات على تركيا، خاصةً أن هناك تجمُّعا من العرب يقيم في تركيا. هذه الأقلية تشكل ما بين 4 و6 بالمئة من سكان تركيا، أي نحو 5 ملايين نسمة.
فالإسلاميون الراديكاليون الذين سيطروا على سوريا وامتد نفوذهم من إدلب، يمكن أن يكون لهم تأثير سلبي على تركيا في الأمدين المتوسط والبعيد، فإذا تمكنوا من نقل أفكارهم إلى الأوساط السياسية والمجتمع التركي، فقد تشهد تركيا تجربة مع الراديكالية.
ومن جهة أخرى، ينبغي ملاحظة أن جزءا كبيرا من المهاجرين السوريين سيظل في تركيا حتى مع سقوط النظام السياسي السوري. فهؤلاء المهاجرون لم يأتوا إلى تركيا بسبب معارضتهم للنظام السياسي السوري أو خوفهم من الانتقام، بل بسبب انعدام الأمن العام والأزمة الاقتصادية. وربما يوجد بينهم أعداد كبيرة من مؤيدي النظام السابق وجنوده.
الخطر السياسي الأكبر يكمن في احتمال ظهور نماذج مشابهة لـ”تحرير الشام” داخل تركيا، وبالنظر إلى مساحة الحريات الأكبر ووجود الأطر الديمقراطية في تركيا، فإنهم لن يحملوا السلاح بالتأكيد، لكن راديكاليتهم قد تجعل الساحة السياسية التركية عرضة للفوضى والتطرف.
كما أشارت الصحيفة إلى أنه في المستقبل، ستتأثر المؤسسات الحكومية والإسلاميون في تركيا بآراء “تحرير الشام” وأفكارها السلفية، مما سيؤدي إلى تشكيل لوبي قد يخدم الحُكام الحاليين في دمشق ضمن أنقرة.
التكلفة الاقتصادية
ذكرت الصحيفة أنه فيما يبدو أن قطر قد تكفلت بتغطية تكلفة إدارة محافظة إدلب في شمال سوريا، بينما تتولى تركيا الجانب اللوجستي، وبالطبع، فإن تكاليف إدارة مثل هذا الكيان تتجاوز بكثيرٍ متطلبات إدارة محافظة عادية.
فقد بلغ عدد سكان إدلب في السنوات الأخيرة نحو 2 مليون و400 ألف نسمة من السكان المحليين، إضافة إلى مليون و300 ألف شخص نزحوا إليها من محافظات أخرى. ومن بين هؤلاء، يعيش مليون و200 ألف شخص في مخيمات قريبة من الحدود التركية، وغالبيتهم من معارضي الأسد وعائلاتهم. ويُقدّر العدد الإجمالي لسكان المحافظة اليوم بنحو 4 ملايين نسمة.
وبالطبع فإن تأمين الغذاء، والدواء، والخدمات العامة للسكان كان جزءا من تكاليف إنشاء حكومة ذاتية في إدلب، والتي تحملتها تركيا وقطر. كما يُقدر وجود 70 إلى 80 ألف مسلح بين السكان، يحصل كل منهم على مئات الدولارات كرواتب شهرية.
إلى جانب تأمين سبل العيش والاحتياجات الأساسية للسكان والمسلحين، كانت تكلفة الصيانة العسكرية لإدلب مرتفعة جدا، حيث تحاصر هذه المحافظة قوات الجيش السوري والجيش الروسي، واللذان نجحا في عام 2019 في تطهير ما يقارب الثلث الجنوبي من إدلب من الإرهابيين. إن هذا الانتشار العسكري الكثيف حول إدلب فرض تكاليف باهظة على الجماعات الإرهابية. وبالتأكيد لم تكن تركيا قادرة على تحمل كل هذه التكاليف بمفردها، ويُرجّح أن قطر كانت تغطي حصة كبيرة منها.
إن تكاليف تأمين الاحتياجات الأساسية لمحافظة إدلب والشريط الحدودي في شمال سوريا كانت مُرهقة جدا لتركيا. ومن الآن فصاعدا، ستصبح أنقرة مسؤولة عن إعالة وتغطية تكاليف مناطق أوسع بكثير، إذ يعيش اليوم أكثر من 15 مليون شخص في المناطق التي تحتلها الجماعات الإرهابية التابعة لتركيا.
التكلفة العسكرية
تشير الصحيفة إلى أن الجيش التركي قد انتشر على نطاق واسع في شمال سوريا والعراق، حيث تمركزت وحداته بكامل عتادها في هذه المناطق، وأنشأ قواعد عسكرية دائمة. وتشير التقديرات إلى أن تركيا لديها 10 آلاف جندي في سوريا وما بين 5 و10 آلاف جندي في العراق، ليصل المجموع إلى نحو 20 ألف جندي.
إن تكلفة الحفاظ على هذا العدد الكبير من القوات، الذي يعادل فرقة عسكرية كاملة، تشمل عدة نفقات، مثل بناء قواعد عسكرية محصنة، وتأمين محيطها لعدة كيلومترات عبر تركيب أنظمة مراقبة جوية وبرية وتحليق الطائرات المُسيّرة باستمرار، إضافة إلى عمليات النقل الجوي الواسعة والمكلفة، والاستخدام المتواصل للذخائر والأسلحة لمواجهة الجماعات المحلية.
ومع تعقيد الأوضاع الأمنية في شرق سوريا وزيادة تحفيز تركيا لتعزيز وجودها العسكري المباشر هناك، سيكون على أنقرة تخصيص ميزانية أكبر للعمليات العسكرية خارج حدودها.
التكلفة الاجتماعية
قالت الصحيفة إن التقديرات تشير إلى أنه من أصل 25 مليون نسمة يمثلون إجمالي سكان سوريا، نزح ما بين 5 و7 ملايين شخص خارج البلاد بسبب الحرب، وهذا الرقم يُعادل نحو ربع إلى ثلث السكان، وهناك احتمال كبير بأنه مع تسلّط الجماعات الإرهابية على الحكم وما يترتب عليه من انهيار إداري، ستتدهور الأوضاع الاقتصادية أكثر من ذي قبل.
في هذه الحالة، سيُصبح ملايين السوريين نازحين مرة أخرى ولن يكون أمامهم خيار سوى اللجوء إلى دول الجوار. لكن لبنان والأردن يعانيان من أوضاع اقتصادية صعبة، كما أن الهجرة إلى العراق تُعد صعبة ومعقدة، فالشرق السوري يخضع لنفوذ الأكراد والجيش الأمريكي وتنظيم داعش، مما يجعل الوضع الأمني غير مواتٍ لاستقبال موجات نزوح كبيرة. وحتى في حال تجاوز النازحين لمسافات طويلة شرق سوريا، فإنَّ غرب العراق بدوره يُعاني من درجة من عدم الاستقرار الأمني.
إلى جانب ذلك، فالوصول إلى الحدود العراقية لا يعني الاستقرار، لأن الأعداد الكبيرة من النازحين ستكون مضطرة للانتقال إلى المناطق الوسطى والجنوبية في العراق، وهو أمر شبه مستحيل.
وفي المقابل، تُعد تركيا ذات اقتصاد وأمن أفضل نسبيا، والوصول إليها من سوريا أسهل، حيث يمكن للنازحين الاستقرار فورا في مدنها الحدودية بعد عبورهم الحدود.
التكلفة الدولية
أكدت الصحيفة أن تركيا تتحمل مسؤولية سقوط النظام السياسي السوري وتبعات أفعال “تحرير الشام”. ففي الأسبوع الماضي، قام هاكان فيدان، وزير الخارجية، وإبراهيم كالن، رئيس جهاز الاستخبارات التركي، بزيارة دمشق، وقاما بزيارة رمزية للمسجد الأموي، مما أظهر أنهما يعتبران نفسيهما المسؤولَين عن إدارة الأمور هناك.
ومن الآن فصاعدا، فإن أي مشكلة شعبية، اقتصادية، سياسية أو أمنية في سوريا، إلى جانب تصاعد الإرهاب، ستُحمّل على عاتق تركيا. لذا، كما اعتُبرت باكستان مسؤولة عن الفوضى في أفغانستان وسقوط نظامها السياسي، فسيتم اعتبار تركيا مسؤولة عن الأزمات المستقبلية في سوريا من قِبَل المجتمع الدولي.
التكلفة الاعتبارية
إن سقوط النظام السياسي السوري كبّد تركيا خسائر اعتبارية فادحة، حيث اتُهمت بالتعاون مع إسرائيل والعمل لصالح الولايات المتحدة.
فبعد ساعات قليلة من وقف إطلاق النار بين لبنان والاحتلال الإسرائيلي، شنّت الجماعات المسلحة التابعة لتركيا هجوما على حلب وانتهكت الهدنة، وقد اعتُبر هذا الهجوم محاولة لإضعاف المقاومة اللبنانية في مواجهة إسرائيل.
كذلك، فقد نفّذ الاحتلال الإسرائيلي غارات جوية مكثفة دمرت القدرات العسكرية السورية، وضمن ذلك سلاح الجو، والدفاع الجوي والقوات البحرية والصاروخية، وقد تزامن ذلك مع تقدم القوات الإسرائيلية برا، حيث سيطرت على منطقة حائل في الجولان، ثم توسعت إلى كامل الجولان واقتربت من دمشق، حيث تتمركز القوات الإسرائيلية في محافظة ريف دمشق على بعد أقل من 20 كيلومترا من العاصمة.
ولا يزال من غير الواضح ما الذي حققته تركيا من سقوط النظام السوري، لكن المستفيد الأكبر حتى الآن هو إسرائيل وبنيامين نتنياهو.
فالاستفادة الإسرائيلية من انهيار النظام السوري شكلت ضربة قاسية لمكانة تركيا، ومن جانب آخر، فالشعب السوري الذي يرى دور تركيا في دمار بلاده، بدأ بتنظيم مظاهرات شعبية ضد الجماعات المسلحة من دمشق إلى حمص وحتى إدلب. والإعلام الموالي للجماعات المسلحة حاول تصوير هذه التظاهرات على أنها احتفالات بسقوط النظام السوري، رغم أن الواقع يُظهر عكس ذلك.
التكلفة الداخلية
إن ارتفاع أعداد القتلى، وزيادة التكاليف العسكرية، وإنفاق الموارد المالية لدعم الجماعات المسلحة، قد تؤدي إلى تصاعد المعارضة الداخلية في تركيا، ففي الأيام الأخيرة، حاول أردوغان تصوير سقوط النظام السوري كإنجاز شخصي، لمواجهة انتقادات المعارضة بشأن التدخل التركي في سوريا.
في حين أن المعارضة التركية لم تهدف إلى إسقاط الأسد أو تمكين قادة الجماعات المسلحة، بل انتقدت التكاليف الباهظة التي تتحملها تركيا لدعم الإرهابيين دون تحقيق أي نتائج ملموسة. وفي ظل افتقاره إلى حجج مقنعة، لجأ أردوغان إلى ترويج سقوط الأسد وصعود الجولاني كإنجاز له.
التكلفة الإقليمية
بتدخلها واحتلالها أراضي سوريا، أطاحت تركيا بنظام سياسي مجاور. ومع ذلك، فسوريا ليست الدولة الوحيدة التي تأثرت بتدخلات أنقرة. التدخلات التركية في السنوات الأخيرة كانت مكلفة للغاية لدول المنطقة، مما أدى إلى تشكيل تحالف إقليمي بين الإمارات والسعودية ومصر ضد المحور التركي القطري.
وفي الوقت نفسه، فإن محور المقاومة الذي حافظ على بعض العلاقات مع تركيا، واجه صعوبات كبيرة بسبب سياسات أنقرة، فاحتلال شمال سوريا والعراق يعكس المنافسة غير المنضبطة التي تمارسها تركيا مع جيرانها.
إذا استمرت تركيا في الظهور كقوة مهيمنة، فإنها ستواجه ائتلافات إقليمية معادية، وبهذا الشأن فهناك تقارير تفيد بأن الإمارات قد سعت للإطاحة بأردوغان بالفعل خلال محاولة الانقلاب عام 2016 كجزء من هذا الصراع الإقليمي.