كتب: سید نیما موسوي
ترجمة: علي زين العابدين برهام
في الأيام الأخيرة، أطلق الخبير الاقتصادي الإيراني ياسر جبرائيلي صحيفة أسبوعية تحمل اسم “حکمران”، وذلك بعد أسابيع قليلة من بدء بث بودكاست خاص به على يوتيوب بالاسم نفسه. وقد صدر العدد الأول من هذه النشرة الأسبوعية مؤخرا. يُعد جبرائيلي أحد أبرز وجوه التيار الفكري الاقتصادي البديل في إيران خلال السنوات الماضية، وهو تيار يركز على فكرة “تقليل الاعتماد على الدولار” في المعاملات الاقتصادية الإيرانية.
جبرائیلی، الذي شغل سابقا منصب رئيس تحرير وكالة فارس (المقربة من الحرس الثوري)، تحول في السنوات الأخيرة إلى النظرية في مجال الاقتصاد السياسي، بعد انتخابات 2009 وإبعاد الجناح اليساري الكلاسيكي الذي كان يتزعمه مير حسين موسوي، المرشح الرئاسي السابق والسياسي البارز، تعززت السياسات النيوليبرالية التي بدأت في فترة رئاسة هاشمي رفسنجاني في تسعينيات القرن الماضي.
منذ ذلك الحين، أصبح كلا الجناحين الرئيسيين في الساحة السياسية الإيرانية مؤيدين لهذه السياسات، فكلية الاقتصاد في جامعة الإمام الصادق مثلت المدرسة الاقتصادية للجناح الأصولي، بينما كانت كلية الاقتصاد في جامعة شريف تمثل المدرسة الاقتصادية للجناح الإصلاحي. ورغم اختلافات بسيطة بينهما، مثل القضايا الثقافية المتعلقة بالحجاب، كانا يتفقان في دعم السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، مثل إلغاء الدعم، وتقليص حجم الحكومة، وخفض الخدمات الاجتماعية، وحل وزارة الرفاه، وزيادة أسعار البنزين.
في هذا السياق، يُعَدّ محمد إيرواني، وزير الاقتصاد الإيراني الأسبق في ثمانينيات القرن الماضي وأحد المستشارين الاقتصاديين للمرشد الإيراني ذو التوجهات اليسارية، من القلائل الذين عارضوا برنامج السياسات النيوليبرالية. يشغل إيرواني عضوية مجمع “تشخيص مصلحة النظام”، الذي يُعتبر الهيئة الاستشارية العليا للمرشد الإيراني. ومن بين المقربين إليه في المجمع يبرز ياسر جبرائيلي، أحد الأعضاء الشباب النادرين في هذا المجلس، والذي عُرف بانتقاداته الواضحة لاعتماد السياسات النيوليبرالية في السنوات الأخيرة.
اللافت أن مواقف جبرائيلي تعرضت لانتقادات من كلا التيارين الرئيسيين في إيران، ففي حين يرى التيار الأصولي أن رؤاه الاقتصادية بعيدة عن الواقع، يصفه التيار الإصلاحي الاقتصادي بالشيوعي. وتزداد أهمية هذه الانتقادات في ظل غياب أي معارضة جادة للبرامج النيوليبرالية منذ إقصاء اليساريين الكلاسيكيين عن المشهد السياسي بعد انتخابات عام 2009.
تُعَدّ إعادة تفسير المادة 44 من الدستور الإيراني، التي أُقرت عام 2005، من أبرز هذه السياسات الاقتصادية الجديدة. فقد مهّدت هذه التفسيرات الطريق لخصخصة الصناعات الكبرى، على غرار برنامج “الانفتاح” في عهد محمد أنور السادات بمصر، وبرنامج “الاشتراكية” في عهد دينغ شياو بينغ بالصين. وقد واجهت هذه التفسيرات انتقادات من مير حسين موسوي، العضو السابق في مجمع تشخيص مصلحة النظام والمرشح الرئاسي في انتخابات 2009.
وبعد أحداث ما بعد انتخابات 2009، فُتِح الباب لإقصاء اليساريين الكلاسيكيين مثل موسوي، مما أدى إلى توحيد السلطة السياسية باتجاه تبني السياسات النيوليبرالية. ولهذا السبب، يكتسب ياسر جبرائيلي أهمية خاصة كأحد أبرز المنتقدين لسياسات الخصخصة والنيوليبرالية في الاقتصاد الإيراني.
علاوة على ذلك، يُعَدّ ياسر جبرائيلي من أبرز المعارضين لدائرة صُنع القرار في منظمة التخطيط والميزانية في إيران، وهي الجهة التي يهيمن عليها منذ سنوات، خبراء اقتصاديون من المدرسة النيوليبرالية، حيث يوصون بسياسات مثل تقليص حجم الحكومة، وإلغاء الدعم، ورفع سعر صرف الدولار.
ورغم انضمام جبرائيلي إلى الفريق المقرب من إبراهيم رئيسي، الرئيس الإيراني السابق، خلال الانتخابات الرئاسية لعام 2021، فقد كان من أشد المعارضين لقرار إلغاء سعر الصرف التفضيلي في مايو 2022، وهي السياسة التي أدت إلى ارتفاع معدل التضخم إلى 60% خلال حكومة رئيسي. اللافت أن كلا التيارين السياسيين في البلاد رحّب بهذه السياسة، مما جعل جبرائيلي من بين القلائل الذين عارضوها بشدة.
يؤمن جبرائيلي بأن سعر صرف الدولار يجب أن يظل مستقرا في ظل ظروف العقوبات، ويرى أن الحكومة لا ينبغي أن ترفع سعر الدولار خدمةً لمصالح شركات القطاع الخاص في مجالي البتروكيماويات والصلب. ويعتقد أن خصخصة الصناعات الأساسية منذ عام 2007 أدت إلى استفادة مالكي الشركات الجديدة في هذه القطاعات من ارتفاع أسعار الدولار، حيث يبيعون منتجاتهم لشركات صناعة السيارات وفق أسعار الدولار في السوق الحرة. وقد أسهمت هذه السياسة في زيادة أسعار ألواح الصلب والمنتجات البلاستيكية اللازمة لصناعة السيارات، مما أدى بدوره إلى ارتفاع أسعار السيارات المحلية.
ورغم تقارب أفكار جبرائيلي الاقتصادية مع محمد إيرواني، فإن هناك تعارضا واضحا بينه وبين علي آقا محمدي، المستشار الاقتصادي الآخر للمرشد الإيراني، إذ يدعم آقا محمدي سياسات الخصخصة والإصلاحات النيوليبرالية، خلافًا لموقف إيرواني.
يُعَدّ المستثمرون في سوق البورصة بطهران من أبرز المعارضين لياسر جبرائيلي، إذ يرون أن سياسة تثبيت سعر صرف الدولار تتعارض مع مصالحهم الاقتصادية. ففي الوقت الراهن، تُعَدّ العديد من الشركات المدرجة في البورصة، والتي ترتبط مصالحها بشركات البتروكيماويات والصلب، من أشد المنتقدين لجبرائيلي في وسائل الإعلام.
ويبرز من بين هؤلاء المنتقدين كل من صادق الحسيني وأحمد جانجان، وهما اقتصاديان يمتلكان شركات وسيطة تعمل في سوق البورصة. يُقال إن صادق الحسيني، الذي يشغل منصب مستشار وزير الاقتصاد في حكومة مسعود بزشكيان، لعب دورا مهما في رفع سعر صرف الدولار خلال الأشهر الأخيرة، حيث إن ارتفاع سعر الدولار يصبّ قبل كل شيء في مصلحة هذه الشركات المدرجة في البورصة
من الناحية الفكرية، يبدو أن أفكار ياسر جبرائيلي تتأثر بكتابات الاقتصادي الكوري الجنوبي «ها-جون تشانغ». فعلى الرغم من تأثر تشانغ بالأدبيات اليسارية وأعمال كارل ماركس، فإنه يسعى لإيجاد طريق وسط بين الاقتصاد المخطط واقتصاد السوق. يروج تشانغ لفكرة «الدولة التنموية الصناعية»، مما يجعل أفكاره قريبة جدا من السياسات الاقتصادية التي انتهجها رئيس كوريا الجنوبية الأسبق، بارك تشونغ-هي، خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. فقد أسهمت سياسات بارك، القائمة على تحقيق الاكتفاء الذاتي الاقتصادي، القومية الاقتصادية، وتجنب النيوليبرالية، في دفع كوريا نحو التصنيع.
وفي السنوات الأخيرة، سعى جبرائيلي إلى بناء علاقات وثيقة مع عدد من الاقتصاديين المؤسسيين، مثل فرشاد مؤمني، الذي يُعتبر من المقربين لمير حسين موسوي. وقد ساهمت ترجمة كتاب «عقيدة الصدمة» للكاتبة ناعومي كلاين إلى اللغة الفارسية في تعزيز موجة من الانتقادات ضد السياسات النيوليبرالية خلال عقد 2010. ويمكن اعتبار معارضة جبرائيلي لهذه السياسات النيوليبرالية نتاجا لهذا التيار النقدي الذي انتشر في الأوساط الأكاديمية الإيرانية عقب ترجمة الكتاب، وهو ما أدى إلى تقاربه مع عدد من الاقتصاديين ذوي التوجهات اليسارية، رغم وجود تباينات فكرية بينه وبينهم.
وفي مارس/آذار 2024، تزامنا مع بداية العام الإيراني الجديد، تصاعدت الاحتجاجات بشأن أجور العمال، مما أدى إلى إطلاق حملة واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي. جاءت هذه الحملة نتيجة لتعاون بين التيار المناهض لهيمنة الدولار، المقرب من ياسر جبرائيلي، والتيار اليساري العمالي في إيران. وقد ركّز هذا الحراك الإعلامي، مع الحفاظ على مسافة واضحة من المعارضة السياسية، على استخدام الأدوات القانونية للمطالبة بتحسين أجور العمال.
في الوقت الراهن، يعمل ياسر جبرائيلي إلى جانب عدد من الاقتصاديين المتوافقين مع توجهاته على تشكيل تيار إعلامي مؤثر لمناهضة السياسات النيوليبرالية. ويرى العديد من زملائه السابقين في وكالة أنباء «فارس»، أن هدفه من وراء هذا الحراك الإعلامي هو ترسيخ مكانته كخيار سياسي محتمل، وربما حتى كمرشح للرئاسة في المستقبل، خاصةً أن عمره لا يتجاوز الأربعين عاما، مما يمنحه متسعا من الوقت لتحقيق هذا الهدف خلال العقود القادمة.
اللافت في سلوك جبرائيلي السياسي أنه رغم معارضته الشديدة للسياسات النيوليبرالية، يتجنب تبني مواقف سياسية راديكالية أو معارضة للنظام، خلافا لمير حسين موسوي، بل إنه يؤكد ولاءه للمرشد الإيراني علي خامنئي ويُظهر احتراما كبيرا له.
إلى جانب ذلك، يعود جزء من الزخم الإعلامي المحيط بجبرائيلي إلى ظهوره المتكرر في برنامج «جدال»، الذي يُعَدّ البودكاست السياسي الأكثر مشاهدة في إيران. يُشرف على إعداد هذا البرنامج علي علي زاده، الناشط السياسي اليساري المقيم في لندن، مما أتاح لجبرائيلي منصة واسعة للتعبير عن آرائه وتعزيز تأثيره في الساحة السياسية والإعلامية.
أحد العوامل التي وفرت أرضية أوسع لنشاط ياسر جبرائيلي، كان انتخابات عام 2024 في إيران. فقد أدى التنافس بين مسعود بزشكيان وسعيد جليلي إلى اصطفاف كلا التيارين السياسيين الرئيسيين خلف بزشكيان، لدرجة أن حكومته أصبحت بمثابة حكومة وفاق وطني، تعكس تعاون الحزبين الرئيسيين في إيران.
في المقابل، شكّل حصول سعيد جليلي على 13 مليون صوت نقطة تحول مهمة، إذ أتاح ذلك فرصة لتجاوز جزء من الرأي العام الإيراني لـ«نظام الثنائية الحزبية» التقليدي. وبالنظر إلى أن جليلي لم يحظَ بدعم أي من التيارين السياسيين الرئيسيين، فإن تحقيقه لهذا العدد الكبير من الأصوات وفّر أرضية خصبة لظهور تيار سياسي ثالث في إيران.
ويبدو أن ياسر جبرائيلي يسعى لاستثمار هذا الظرف السياسي المهم لتأسيس تيار ثالث جديد في المشهد الإيراني، مستندا إلى التحولات التي أظهرت وجود استعداد شعبي لتجاوز الاستقطاب التقليدي بين القوى السياسية الكبرى.
من الواضح أن ياسر جبرائيلي بفضل خبرته السابقة في المجال الإعلامي، يمتلك قدرة عالية على توظيف وسائل الإعلام المختلفة لخدمة أجندته السياسية، فرغم معارضته من قبل التيارين السياسيين الرسميين في إيران، تمكن جبرائيلي من تأسيس تيار ثالث يستند إلى أفكار الاقتصاد السياسي، وهو تيار يقف في مواجهة المفهوم الأساسي لحكومة الوفاق برئاسة مسعود بزشكيان.
تشكّلت حكومة الوفاق نتيجة تحالف بين رجال الأعمال المقربين من الحرس الثوري ونظرائهم في غرفة التجارة، الذين يمثلون بدورهم القاعدتين الاقتصاديتين للتيارين السياسيين التقليديين. في المقابل، يسعى التيار الثالث، بقيادة جبرائيلي، إلى استقطاب الاقتصاديين المناهضين للسياسات النيوليبرالية، مما يجعله بديلا معارضا لفكرة الوفاق الاقتصادي والسياسي السائدة.
ومع تزايد نفوذ التيار المناهض لهيمنة الدولار، وقدرته على بناء شبكات اجتماعية وتأسيس منصات إعلامية جديدة، يبدو أن ياسر جبرائيلي يُبشّر بولادة تيار يساري جديد في إيران، قادر على إعادة تشكيل ملامح المشهد السياسي والاقتصادي في إيران.