كتب: محمد بركات
بين المسارات الدبلوماسية وتعقيدات السياسة الداخلية، برز حضور لافت لشخصية اضطلعت بأدوار تفاوضية في محافل دولية، قبل أن تنتقل إلى موقع رسمي جديد ضمن هيكل الدولة.
تدرجت مسيرته بين الملفات الخارجية والمهمات الحكومية، ولعب دورا محوريا في دعم أحد أبرز المرشحين الإصلاحيين نحو سدة الحكم. وباعتباره من الشخصيات البارزة في التيار الإصلاحي، تراوحت مواقفه بين التفاوض والانخراط في التحولات السياسية الكبرى.
ولد محمد جواد ظريف في 8 يناير/كانون الثاني 1960 بالعاصمة الإيرانية طهران، وسط أسرة دينية ذات جذور تجارية عريقة في مدينة أصفهان.
كان والده عباس علي ظريف أحد الشعراء المعروفين في أصفهان، وكان يُعرف بلقب “خزنة العلماء” بسبب كرمه ومساعدته المالية الكبيرة للعلماء ورجال الدين.
أما والدته، عفت كاشاني بور، فهي ابنة أحد كبار التجار من مدينة كاشان المقيمين في طهران.
نشأ ظريف في بيئة محافظة ودينية، وكان محاطا بالأدب والثقافة والعلاقات الدينية الوثيقة، حيث قضت عائلته بداية حياتها في حي ملك بأصفهان.
ثم انتقلت إلى طهران حيث بدأ محمد جواد تعليمه الابتدائي والثانوي، ومن عام 1966 إلى 1976، تلقى تعليمه في مدرسة علوي في طهران، وهي مدرسة خاصة ذات توجه ديني تربوي معروف، لعبت دورا مهما في تشكيل شخصيته الأولى.
الرحلة إلى الولايات المتحدة والدراسة الأكاديمية
في العام 1976، سافر ظريف إلى الولايات المتحدة بفيزا دراسية، وهو في عمر السابعة عشرة، حيث بدأ مرحلة جديدة في حياته العلمية والمهنية.
حصل خلال تلك الفترة على شهادة الدبلوم من كلية درو في سان فرانسيسكو، ثم واصل دراسته الجامعية في جامعة ولاية سان فرانسيسكو، حيث حصل على درجة البكالوريوس في العلاقات الدولية عام 1981، ثم على درجة الماجستير في التخصص نفسه عام 1982.
لم يكتف ظريف بذلك، بل انتقل إلى ولاية كولورادو لمتابعة دراسته في جامعة دنفر، حيث حصل عام 1984 على درجة الماجستير الثانية في الدراسات الدولية من كلية جوزيف كوربل للدراسات الدولية، ثم واصل دراساته العليا حتى نال درجة الدكتوراه في القانون والعلاقات الدولية.
موقفه من الثورة الإيرانية وبداية عمله الدبلوماسي
اتخذ محمد جواد ظريف موقفا مؤيدا للثورة الإسلامية منذ بداياتها، رغم إقامته في الولايات المتحدة خلال سنوات تصاعد الحراك الثوري، فقد تأثر بالأفكار الإسلامية السياسية التي قدمها روح الله الخميني قائد الثورة، وارتبط فكريا بالتيار الديني المعارض لنظام الشاه، دون أن يشارك بشكل مباشر في النشاطات الثورية داخل إيران.
وبعد انتصار الثورة عام 1980، سارع ظريف إلى الانخراط في السلك الدبلوماسي للنظام الجديد، في خطوة عكست انسجامه مع المبادئ العامة للجمهورية الجديدة، لا سيما في بعدها المناهض للهيمنة الغربية، خصوصا الأمريكية.
بدأ ظريف مشواره المهني في السلك الدبلوماسي الإيراني حين عُين بين عامي 1979 و1981، مستشارا بالقنصلية الإيرانية في سان فرانسيسكو ثم انتقل إلى نيويورك ليشغل منصب المستشار السياسي والملحق السياسي والمكلف بالأعمال في بعثة إيران الدائمة لدى الأمم المتحدة من عام 1982 حتى عام 1988.
بعد عودته إلى إيران، عُين مستشارا لوزير الخارجية آنذاك، الدكتور علي أكبر ولايتي، بين عامي 1988 و1989، قبل أن يُعيَّن رسميا سفيرا ومندوبا دائما لإيران لدى الأمم المتحدة بين 1992 و1995.
النشاطات الدولية والمسؤوليات الدبلوماسية
كان لمحمد جواد ظريف حضور بارز في المحافل الدولية، فقد ترأس اللجنة القانونية في الدورة السابعة والأربعين للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1992، كما ترأس لجنة الصياغة في مؤتمر بانكوك الآسيوي لحقوق الإنسان عام 1993، ومثّل إيران في عدة مؤتمرات دولية مهمة.
كذلك، فقد ترأس ظريف اجتماعات دولية عديدة، منها لجنة الخبراء للحوار بين الحضارات في جدة، واللجنة السياسية في قمة حركة عدم الانحياز في ديربان، ولجنة نزع السلاح في الأمم المتحدة، والمؤتمر الآسيوي حول العنصرية والتمييز العنصري.
في عام 2003، تم تعيينه نائبا للجمعية العامة للأمم المتحدة حتى عام 2005، وهو منصب أظهر مكانته وخبرته في المجتمع الدولي والنشاط الدبلوماسي، رغم الظروف السياسية الصعبة التي كانت تمر بها إيران آنذاك.
العودة إلى إيران والأدوار السياسية
عند عودته إلى إيران، تولى منصب مساعد لوزير الخارجية منوشهر متكي حتى عام 2010، وبعد ذلك أصبح نائبا لرئيس جامعة آزاد الإسلامية للشؤون الدولية.
في أغسطس/آب 2013، وبعد انتخاب حسن روحاني رئيسا للجمهورية، حصل ظريف على ثقة البرلمان ليصبح وزير الخارجية في الحكومة الحادية عشرة، ثم أُعيد تعيينه في المنصب نفسه عام 2017 مع بداية الحكومة الثانية عشرة، ليواصل مهامه حتى نهاية تلك الفترة في عام 2021.
الدور المحوري في الملف النووي
يُعد ظريف من أبرز مهندسي الاتفاق النووي الإيراني، المعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة والذي تم التوصل إليه في يوليو/تموز 2015 مع مجموعة دول 5+1، وهي دول الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، حيث كان ظريف رئيس الفريق المفاوض الإيراني، ونجح في قيادة المحادثات الطويلة والمعقدة نحو اتفاق تاريخي.
حينها قارن كثيرون ظريف بشخصية “أمير كبير”، أحد رواد الإصلاح في تاريخ إيران، واعتبروا توقيع الاتفاق النووي مكافئا لتأميم النفط بقيادة مصدق، ولكن رغم هذا النجاح، كان ظريف عرضة لهجمات شرسة من التيار المتشدد داخل البلاد، خاصة بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق عام 2018 في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حيث وصفوه بأنه موالٍ للغرب.
الاستقالة المؤقتة والعودة
في فبراير/شباط 2019، قدّم ظريف استقالته بشكل مفاجئ، وذلك احتجاجا على بعض التجاوزات البروتوكولية وعدم إبلاغه بلقاءات دبلوماسية رفيعة المستوى داخل إيران، غير أن الرئيس حسن روحاني رفض هذه الاستقالة، ما أعاد ظريف إلى منصبه بسرعة.
وبعد انتهاء فترة عمله كوزير للخارجية في أغسطس/آب 2021، ابتعد محمد جواد ظريف مؤقتا عن المشهد السياسي المباشر، مفضلا العودة إلى الأنشطة الأكاديمية والبحثية، مع الحفاظ على مسافة من التفاعلات السياسية اليومية.
الدور في الانتخابات الرئاسية 2024
مع اقتراب الانتخابات الرئاسية المبكرة في العام 2024، والتي جاءت بعد سقوط طائرات الرئيس الإيراني آنذاك إبراهيم رئيسي في مايو/أيار2024، عاد ظريف إلى الواجهة السياسية من بوابة الانتخابات، إذ انضم إلى الحملة الانتخابية لمسعود بزشكيان، مرشح التيار الإصلاحي، حيث لعب دورا استراتيجيا في صياغة الخطاب الخارجي للمرشح، معتمدا على خبرته الطويلة وعلاقاته الدبلوماسية الواسعة. وكان لحضوره أثر واضح في إضفاء مصداقية دولية على الحملة، خاصة في ما يتعلق برؤية إيران المستقبلية في سياق العلاقات الإقليمية والدولية.
توليه منصب نائب الرئيس للشؤون الاستراتيجية
بعد فوز بزشكيان بالرئاسة في يوليو/تموز 2024، أسند إلى ظريف منصبا جديدا تم استحداثه ضمن الهيكلية الحكومية، وهو نائب الرئيس للشؤون الدبلوماسية والاستراتيجية، شمل هذا المنصب مسؤوليات واسعة في توجيه السياسة الخارجية والتنسيق بين مختلف الجهات.
ورغم أهمية المنصب الجديد، لم يدم بقاء ظريف فيه طويلا، ففي مارس/آذار 2025، أعلن استقالته من منصبه بسبب ضغوط متزايدة تتعلق بوضع أبنائه الذين وُلدوا في الولايات المتحدة ويحملون جنسيتها، وهي مسألة أثارت جدلا داخليا واسعا في الأوساط السياسية والإعلامية.
وقد صرّح ظريف حول خلفية هذه الاستقالة بالقول: “ذهبتُ أمس بدعوة من رئيس السلطة القضائية لمقابلته. وأوصاني، في ظل الأوضاع الحالية للبلاد، بأن أعود إلى الجامعة لتجنّب مزيد من الضغوط على الحكومة، فقبلتُ على الفور، إذ لطالما تمنيت أن أكون معينا لا عبئا”.
وبعد الاستقالة، عاد ظريف إلى عمله الأكاديمي، ويشغل حاليا منصب أستاذ مشارك في كلية الدراسات العالمية بجامعة طهران.