ترجمة: علي زين العابدين برهام
لم تقتصر الثورة الإيرانية على تغيير النظام السياسي فحسب، بل تركت بصمات عميقة على المجتمع والثقافة والأيديولوجيات السائدة في إيران، ومع مرور العقود على هذا الحدث المحوري، تجد الأجيال الجديدة صعوبة في فهم وتفسير مجرياته ودلالاته، بسبب غياب التجربة المباشرة لتلك الأحداث التاريخية والسياسية.
نشرت وكالة أنباء “خبر أونلاين“، الأحد 2 فبراير/شباط 2025، حوارا مع إبراهيم فياض، عالم الاجتماع والسياسي البارز، حول الثورة الإيرانية وتطوراتها، واستكشاف أبعادها المختلفة. وفي ما يلي نص الحوار:
نحن اليوم أمام جيل لم يعش بعض الأحداث التاريخية والسياسية، ما يجعله يتساءل أحيانا: لماذا حدثت ثورة 1979 أصلا؟ من وجهة نظركم، ما الأسباب والمبادئ التي أدت إلى اندلاع الثورة الإيرانية؟
في الحقيقة، كان الجيل الشاب آنذاك هو المحرّك الرئيسي للثورة، كنا شبابا ومراهقين، وكنّا نلاحظ بوضوح أن الفئة المتوسطة العمر لم تكن متحمسة أو منخرطة في البداية. أتذكر جيدا أن بعض كبار السن في المساجد كانوا يعارضون الحراك الثوري، بل كانوا يعبرون عن رفضهم بشكل صريح.
في المراحل الأولى، كان الشباب يطبعون المنشورات الثورية ويوزعونها سرا، ثم يفرّون بسرعة لتفادي القبض عليهم، أذكر أن بعض كبار السن لم يكتفوا بالرفض اللفظي، بل وصل الأمر أحيانا إلى الاعتداء الجسدي على هؤلاء الشباب، بحجة أن هذه الأعمال جزء من مؤامرة دبرها جهاز “السافاك” للإيقاع بالشباب واستدراجهم نحو الخطر.
هذا المشهد يوضح أن الثورة لم تكن حركة تلقائية شاملة منذ بدايتها، بل كانت شرارتها الأولى نابعة من وعي الشباب وإيمانهم العميق بالتغيير، رغم المخاوف والشكوك التي كانت تحيط بهم من قبل الأجيال الأكبر سنا. لقد كانت ثورة الوعي قبل أن تكون ثورة الشارع.
ولذلك، أود أن أؤكد أن نفس المراهقين والشباب كانوا في مقدمة الصفوف، وكان هذا الأمر نفسه ساريا أثناء الحرب. وللأسف، وقعنا في فخ السرد التاريخي الإيديولوجي، وكان من أبرز التحديات التي ظهرت بعد الثورة هو التعامل الإيديولوجي مع التاريخ، سواء من جهة اليسار أو اليمين.
إذا أردتم النظر إلى تاريخ ثورة 1979 بشكل غير إيديولوجي، كيف يمكنكم سرد أسبابها؟
كان هناك تحديث مفروض من قبل القوى الخارجية، خاصة من الولايات المتحدة، على إيران، وقد كان هذا التحديث القسري قد وصل إلى ذروته في السنوات الأخيرة. من خلال هذا التحديث، تم تغيير الكثير من المفاهيم، بما في ذلك التاريخ ذاته. من ناحية أخرى، أصبحنا مفرطين في التأثر بالثقافة الأمريكية، خصوصا في الفترة ما بين عامي 1971 و 1979 حيث انتشرت الثقافة الأمريكية بشكل واسع في إيران. في هذه الأثناء، تصدى المثقفون مثل علي شريعتي، المفكر المعروف، وكذلك رجال الدين، لهذا التحديث. وفي النهاية، بدأ الحراك في الجامعات بعد وفاة شريعتي، وفي الحوزات بعد وفاة مصطفى الخميني، نجل الخميني قائد الثورة.
هل تعني أن الجيل الثائر الجديد كان يواجه مشكلة مع هذا التحديث؟
نعم، بالضبط، لأن الأحداث حدثت فجأة وبشكل مفاجئ، وقفزت أسعار الأراضي بشكل غير معقول، وارتفعت أسعار المنازل بشكل ملحوظ. في السنوات الأخيرة، أصبح الخريجون من المدارس الثانوية يعملون في البنوك، بينما أصبح من الصعب على الجيل المتعلم العثور على وظائف.
أتذكر جيدا أنني شاهدت شابا في مدينة كازرون قد وضع شهادته الثانوية داخل كيس بلاستيكي وربطها بخيط خلف دراجته الهوائية. كانت كازرون في ذلك الوقت هادئة، وعندما كان يمر، كان الناس يسألونه: ما هذا؟ فيجيبهم قائلا: هذه هي الشهادة الثانوية؛ طوال حياتي كنت أركض وراءها، فلتجري هي ورائي الآن! أردت أن أقول إن مثل هذه القصص لم تكن مجرد تجارب شخصية، بل تحولت إلى نوع من السخرية، وأصبحت جزء من تلك الحقبة.
في الأيام الأخيرة، قال أحد أعضاء مجلس الخبراء إنه ليس من الصحيح أن الثورة قامت بسبب الأوضاع الاقتصادية. ومع أنكم تذكرون الآن قضايا اقتصادية مثل البطالة، يبدو أن هناك تناقضا في هذا الصدد. أود أن أعرف ما العامل الجذري في الواقع؟
دارت مناظرة بين المفكر المعروف علي شريعتي والكاتب والسياسي جلال آل أحمد، حيث قال جلال لشريعتي: “أنت دائما تنتقد رجال الدين، لكنك يجب أن تنتقد المثقفين أيضا”، فأجاب شريعتي: “إن رجال الدين هم القوة المحركة للمجتمع، فإذا قمت بنقدهم وأُصلحوا، سينطلق التحديث في المجتمع”. وفي النهاية، دخل رجال الدين والثوار إلى الميدان، وبدأت الحكايات.
في الحقيقة، كانت بيئة الثورة تتشكل من القضايا الاقتصادية والسياسية والتحديثية، بالإضافة إلى التحديث الديني الذي طرحه شريعتي، والذي شارك فيه العديد من رجال الدين المثقفين مثل المرحوم جواد باهنر ومحمد بهشتي. على سبيل المثال، كان المرحوم باهنر وبهشتي يساهمان في تأليف الكتب المدرسية، وكان الشهيد بهشتي قد أدخل الشك الديكارتي في تلك الكتب، حيث كان الهدف هو تقديم نوع من الدين العقلاني، كما كان هناك مؤلفات دينية أخرى مثل كتب رجل الدين البارز ناصر مکارم شيرازي ورجل الدين جعفر سبحاني. حتى النظام الشاهنشاهي كان لديه توجه ديني، حيث كان الفيلسوف البارز حسين نصر منذ عام 1948 يسعى لإيجاد أسس إسلامية للحكم الملكي.
ثم جاء شريعتي، وأخذ زمام المبادرة، حتى وصل الأمر إلى أن نصر دخل في صراع مع شريعتي. قضى شريعتي حوالي عامين في السجن، وعندما أُفرج عنه، دخل في حالة من التصوف. بهذه الطريقة، نشأ نوع من الدين الحديث الذي قدمه المثقفون ورجال الدين الثوريون بجميع أبعاده، وفي النهاية، انتفض المجتمع بقيادة من كان قد اكتسب خبرات سابقة من الثورات الدستورية وتجربة تأميم النفط.
إذا أردت تلخيص حديثكم حتى الآن، من جهة تحدثتم عن أن الحكومة كانت تسعى لتحقيق تحديث اقتصادي واجه مقاومة من الناس، ومن جهة أخرى نشأ نوع من التحديث الثقافي داخل القوى المجتمعية. ولكن بما أن التحديث هو أساسا خطاب يظهر في جميع المستويات، كيف يمكن أن يكون هناك مقاومة للتحديث الاقتصادي بينما يتم قبول التحديث الثقافي؟
كان التحديث يحدث في جميع المجالات، حتى الشاه كان يسعى إلى تأسيس نوع من التحديث في الدين، ففي خطاباته كان يقول إنه يجب العودة إلى “الإسلام الأول”، وكان شريعتي أيضًا يقول إنه يجب العودة إلى “الإسلام العلوي” لا إلى “الإسلام الصفوي”. أي أن حتى الشاه كان يطرح أفكارا مشابهة، وهذا يدل على أن التحديث الديني قد انتشر بشكل واسع في المجتمع.
هل كان هذا يتعارض مع التحديث الاقتصادي الذي ذكرتموه؟
في عام1974، حدث ارتفاع مفاجئ في أسعار النفط. قبل ذلك، كان سعر برميل النفط لا يتجاوز ثلاث أو أربع دولارات، وكان الناس يعيشون حياة بسيطة جدا، لكن مع زيادة أسعار النفط، بدأ المال يدخل إلى حياة الناس، مما أدى إلى تحسن رفاهيتهم نسبيا. في الوقت نفسه، بدأت أسعار السلع في الارتفاع، الأراضي التي كانت رخيصة بدأت ترتفع أسعارها، وكذلك أسعار الطعام. بمعنى آخر، شهدنا زيادة كبيرة في معدل التضخم. في البداية، كان لدى الشاه الأموال وكان يقرض دولًا مثل باكستان وألمانيا وفرنسا في مجالات تتعلق بالطاقة النووية. ونحن في الواقع كنا شركاء في الصناعات النووية مع فرنسا.
فجأة، أصبح تأثير التضخم الناتج عن عائدات النفط ملموسا في حياة الناس. تدفقت الأموال إلى الأجهزة الحكومية، مما حسّن بشكل كبير أوضاع الموظفين، في حين تدهورت أوضاع التجار والفلاحين وأصحاب المهن الحرة، وفي غضون عامين أو ثلاثة، نشأت فجوة واضحة بين الفئات الريفية والطبقات الدنيا في المدن من جهة، وطبقات الطبقة المتوسطة والعليا من جهة أخرى.
كيف تقيّمون وضع الطبقات والفئات بعد الثورة؟
الطبقة المتوسطة قد توسعت بشكل كبير في الوقت الحالي، بالطبع، تتنوع إلى فئات مختلفة مثل الطبقة المتوسطة الدنيا، والطبقة المتوسطة المتوسطة، والطبقة المتوسطة العليا. الثروة العامة في المجتمع قد شهدت انتشارا ملحوظا، والناس أنفسهم يعترفون أنه قبل الثورة كانت الطبقة العليا قليلة جدا، ولكن الآن أصبحت هذه الطبقات العليا أكثر توسعا. فكل من الطبقة المتوسطة العليا والطبقة العليا متوحدة في مطالبها الخاصة بالتحديث. ويقال في إيران إن هناك ما بين 22 إلى 33 مليار دولار في يد الناس، وهو مبلغ كبير جدا.
إذن، ما الأسباب التي ترى أنها وراء هذه المشاكل الاقتصادية التي نراها في المجتمع الآن؟
في النهاية، لا يمكن تحقيق التقدم دون حدوث تضخم، ليس لدينا صيغة أخرى. الحكومة الحالية هي حكومة يسارية تقليدية، وهي امتداد لحكومة مير حسين موسوي. تسعى هذه الحكومة إلى تحقيق العدالة وتوسيع الطبقة المتوسطة، وفي الوقت نفسه تحسين أوضاع الطبقات الدنيا.
في الواقع، بعد الحرب العراقية الإيرانية، وقعنا في فخ رفاهية كانت تحمل طابعا عرفانيا. لكن الحكومة الحالية تقول إنها قد عادت إلى فترة خالية من هذه الرفاهية. نجد أن بعض المسؤولين، مثل بزشکیان، لا يلتزمون بالمعايير التقليدية، فعلى سبيل المثال، عندما يُعطى شيئا في ندوة، يقوم بإلقائه، ولا يرتدي الزي التقليدي لرجال الدين، بل يفضل ارتداء المعطف. نحن الآن نشهد تحولا في المنظور إلى حقبة مير حسين موسوي.
هنا، تسعى الحكومة إلى تحويل الطبقات الدنيا إلى طبقة متوسطة، ودفع الطبقة المتوسطة للأعلى، ومنع انهيار الطبقات الدنيا. لذلك، يحدث صراع بين الحكومة وهذه الطبقات، وأول من يدخل في هذا الصراع هو التيار اليميني التقليدي، أي السوق، لأن الحكومة الحالية تهدف إلى إزالة العقوبات من أجل القضاء على السوق السوداء والسمسرة. كما كان اليمين الحديث يسعى لاستخدام حكومة بزشکیان كمنصة لتمرير مشاريعه الخاصة، ولكننا الآن نرى أن هذه الصراعات قد اندلعت وأصبح اليمين الحديث في مواجهة الحكومة. والنتيجة هي أن هذه الحكومة تمثل استمرارية لحكومة موسوي
بالتالي، كانت ثورة 1979 ثورة تسعى للعدالة، مشابهة للفترة الدستورية (1905- 1911) حيث تحولنا إلى حركة نحو الدستورية والحرية. والآن، تسعى هذه الحكومة لإعادتنا إلى العدالة و”بيت العدالة”. إنها نوع من التحول في المنظور إلى بدايات الثورة.
هل ترى المستقبل مشرقا؟
نعم، بلا شك. المجتمع يسير قدما نحو التقدم. فقط انتهت فترة الرفاهية، وحكم طبقة معينة التي كانت تتبادل السلطة فيما بينها. مع حكومة بزشکیان، ستنتعش هوية الطبقة المتوسطة واليسارية في إيران مرة أخرى، دون أن تكون هذه الطبقات متشددة أو منعزلة عن العالم. بمعنى أنها، بينما تسعى لتحقيق العدالة، ترغب في التواصل مع العالم لتتمكن جميع فئات المجتمع من التفاعل في الاقتصاد العالمي.