كتب: مصطفى أفضل زادة، مراسل “زاد إيران” في طهران
ترجمة: علي زين العابدين برهام
يستقبل الشعب الإيراني لحظة حلول العام الجديد بالدعاء والتوسل إلى الله تعالى. ويُعد عيد النيروز، العيد العريق للأمة الإيرانية، من أقدم وأجمل الاحتفالات بالسنة الجديدة في العالم، إذ يُحتفل به سنويا مع بداية شهر فروردين “21 مارس/آذار” وحلول فصل الربيع.
ارتبط هذا العيد بمرور الزمن بالعادات الإسلامية، ليصبح مزيجا فريدا من الموروث الثقافي الإيراني والروح الإسلامية.
بعد دخول الإسلام إلى إيران، حرص الإيرانيون على مواءمة تقاليدهم العريقة مع التعاليم الإسلامية، مما أضفى على هذه التقاليد بُعدا إسلاميا، واستطاعوا الحفاظ عليها عبر الأجيال، فباتت اليوم تشكّل مظهرا حضاريا مميزا لإيران.
تُعد لحظة تحوّل السنة أهم لحظات عيد النيروز. حيث تجتمع العائلات حول مائدة “هفت سين”، وتشغّل التلفاز في انتظار الإعلان الرسمي للعام الجديد، ثم يردّدون دعاء استقبال العام: ” يا مقلّب القلوب والأبصار، يا مدبّر الليل والنهار، يا محوّل الحول والأحوال، حوّل حالنا إلى أحسن الحال”.
ويعكس هذا الدعاء تطلع الناس إلى التغيير الإيجابي في حياتهم، واستقبال عام مليء بالخير والبركة. كما يفضّل كثير من العائلات الإيرانية قضاء لحظة دخول السنة في الأماكن الدينية، مثل المساجد وقبور الشهداء، حيث تمتلئ هذه الأماكن بالمصلين والزوّار، في مشهد روحي يُجسد عمق الارتباط بين الإيمان والتقاليد.
عيد النيروز، الذي تضرب جذوره في أعماق التاريخ الإيراني الممتد لآلاف السنين، يرتبط ارتباطا وثيقا بالطبيعة والتجدد والحياة، ويُجسّد رمزا لانبعاث الطبيعة وبداية دورة جديدة من الازدهار. إن تحوّل الطبيعة وتجدّدها يشكلان المحرّك الأساسي للفرح والأمل، ويثيران في النفوس شغفا لرؤية التغيير والمشاركة في صناعته.
يأتي هذا العيد العريق بطقوسه الفريدة وعاداته الراسخة ليعبّر عن قيم التضامن والبهجة والتفاؤل. ويُعتبر النيروز مناسبة لتجديد صلة الرحم، وتصفية القلوب من الأحقاد، واستقبال عام جديد بحيوية وأمل متجدد. كما يُنظر إليه كرمز لانتصار النور على الظلام، والضياء على العتمة، والحياة على الموت. فهو يذكّر الجميع أن بعد كل شتاء قاسٍ ومظلم، لا بد أن يأتي ربيع أخضر مليء بالأمل والحياة.
النيروز ليس مجرد تبدّل في صفحات التقويم، بل هو تحوّل ثقافي واجتماعي ونفسي عميق لدى الإيرانيين، يشكّل جزءا من هويتهم الحضارية. ولا يقتصر الاحتفاء به على إيران وحدها، بل تتشارك العديد من الدول مثل أفغانستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان، وتركمانستان، وأجزاء من القوقاز وآسيا الوسطى، في إحياء هذا العيد بطقوس مشابهة، تعكس نفس الروح المتجددة والموروث الثقافي المشترك.
مع اقتراب عيد النيروز، تنشط حركة الناس استعدادا لاستقبال هذا العيد العريق. من تنظيف المنازل الشامل “خانه تکانی” وشراء الملابس الجديدة، إلى إعداد مائدة “هفت سين”، جميعها مظاهر حيّة تُعبّر عن استمرارية تقليد قديم ما زال ينبض بالحياة بين الإيرانيين.
ومن أبرز الطقوس التي تسبق النيروز، مراسم “الأربعاء الأحمر”، حيث يُعدّ “الطرق بالملاعق” من العادات الطريفة والمميزة لهذا اليوم. في هذا الطقس، يقوم الشباب بتغطية وجوههم لئلا يُعرفوا، ويحملون ملاعق وأوعية، ويطرقون أبواب الأصدقاء والجيران. وعندما يسمع أصحاب البيوت صوت ضرب الملاعق على الأوعية، يفتحون الأبواب ويملؤون الأوعية بالمكسرات والحلويات كرمز للبركة والفرح.
حتى عام 1921، كان الرجال يُحيون ليلة “الأربعاء الأحمر” بإطلاق النار في الهواء، إلا أن هذا التقليد توقف بعد حظر حيازة الأسلحة، لتصبح الألعاب النارية والترقيع هي السائدة في احتفالات الليلة، وتشغل أغلب الإيرانيين حتى اليوم.
ومن أوائل العلامات التي تبشّر بقرب النيروز، تقليد “خانه تکانی”. هذا الطقس الذي يبدأ عادة مع مطلع آخر شهر من الشتاء، يُعتبر فرصة لتنظيف المنازل من رواسب العام الماضي، واستقبال العام الجديد بنقاء وتجديد. حيث تنهمك العائلات في غسل السجاد، وتنظيف الستائر، وإزالة الغبار، وترتيب الأثاث، لتتواكب بيوتهم مع انتعاش الطبيعة الخارجية، فتعمّ أجواء الانتعاش من الداخل والخارج.
لكن “خانه تکانی” لا يتوقف عند النظافة الظاهرة فقط، بل يحمل دلالة رمزية أعمق، حيث يعتقد كثيرون أنه يمثل تطهيرا للأفكار السلبية، وإزالة المشاحنات القديمة، ليبدأوا سنة جديدة بقلوب صافية وعقول متجددة.
وبعد الانتهاء من تنظيف البيوت، تبدأ الاستعدادات الأخرى، كشراء الملابس الجديدة، وتحضير المأكولات الخاصة بالنيروز. فمنذ القدم، يرى الإيرانيون أن ارتداء الملابس الجديدة مع بداية السنة، يُعد رمزا للتجدد والتفاؤل.
إلى جانب الملابس، يتوجه الناس إلى الأسواق ومحلات الحلويات لشراء تشكيلة من المكسرات والحلويات الخاصة بالعيد. ويُعتبر “مكسرات ليلة العيد”، التي تضم الفستق، اللوز، والجوز، والبندق، والزبيب، والحمص المحمص، من الأطعمة المفضلة في هذه المناسبة. كما تتزيّن الموائد بحلويات تقليدية مثل السُوهان، وغيرها التي تُعد من الأطباق التي لا غنى عنها في أيام النيروز.
تُعد مائدة «السينات السبع» الرمز الأبرز لعيد النيروز في منازل الإيرانيين، حيث تُحضّر عادة عشية رأس السنة الجديدة، وتضم سبعة عناصر رمزية تبدأ جميعها بحرف السين (س) في اللغة الفارسية، ولكل منها دلالة على البركة، والأمل، والنماء في العام الجديد. تتكوّن مائدة هفتسین من: التفاح (سيب)، الخل (سرکه)، الزعرور (سنجد)، الحلوى المصنوعة من القمح (سمنو)، الأعشاب الخضراء (سبزه)، السماق (سماق)، والثوم (سیر)، وهي تجسيد لاحتفاء الإيرانيين بقدوم عيد النيروز.
إضافة إلى هذه العناصر السبعة، يضع الإيرانيون على مائدة هفتسین القرآن الكريم، ومرآة، وشموع، وبيض ملوّن، وسمكة ذهبية، وعملات نقدية، حيث يحمل كل عنصر رمزية خاصة به تعكس معاني الخير والتجدد والنور.
ويمثل العام الجديد، إلى جانب مظاهر البهجة والسرور، فرصة لتقوية الروابط العائلية والاجتماعية. ومن العادات الراسخة خلال النيروز، عادة الزيارات العائلية، حيث يزور الإيرانيون أقاربهم، لا سيما كبار السن، منذ اليوم الأول من شهر فروردين، لتقديم التهاني بحلول العام الجديد. وخلال هذه الزيارات، يقدّم الكبار للأطفال والشباب ما يُعرف بـ «العيدية»، سواء على شكل نقود أو هدايا، تعبيرا عن التمنيات بالخير والبركة للسنة المقبلة. كما تُمارس في بعض المناطق عادة زيارة قبور الأحبة المتوفين والدعاء لهم خلال أيام العيد.
ومن التقاليد المميزة أيضا، احتفال «سیزده بدر» الذي يُقام في اليوم الثالث عشر من فروردين ويُعتبر خاتمة احتفالات النيروز. في هذا اليوم، يخرج الإيرانيون إلى أحضان الطبيعة، اعتقادا منهم بأن قضاء اليوم خارج المنزل يبعد عنهم النحس وسوء الطالع المرتبط برقم ثلاثة عشر، ويُضفي على أيامهم أجواء من الانتعاش والتفاؤل.
يُصادف الثالث عشر من شهر فروردين في التقويم الإيراني «يوم الطبيعة»، ويُعتبر عطلة رسمية في إيران. تُشير الروايات التاريخية إلى أن الإيرانيين القدماء كانوا يحتفلون بقدوم العام الجديد طيلة اثني عشر يوما مليئة بالفرح والبهجة، ويختتمون احتفالاتهم في اليوم الثالث عشر بالخروج إلى الحدائق والمروج، حيث يقضون يومهم بين أحضان الطبيعة، معلنين بذلك ختام طقوس النيروز.
ومن أبرز التقاليد المرتبطة بهذا اليوم عادة «ربط الأعشاب الخضراء»، حيث تقوم الفتيات الشابات، على وجه الخصوص، بربط الأعشاب التي كانت تزيّن مائدة هفت سین، وهنّ يهمسن بأمنياتهن للعام الجديد، متمنيات أن يكون مليئا بالخير والسعادة.
إن عيد النيروز لا يُعد مجرد انتقال من عام إلى آخر، بل هو تجسيد لمعاني التجدد، والتضامن، والتفاؤل بالمستقبل. وتنبع كل واحدة من طقوس النيروز، من تنظيف البيوت وزيارات الأقارب، إلى مراسم “الأربعاء الأحمر”، ومائدة هفت سین، وصولا إلى يوم «سيزده بدر»، من جذور عميقة في الوجدان الثقافي الإيراني.
ولهذا استمرّت هذه العادات والتقاليد تنتقل من جيل إلى جيل عبر القرون، محتفظة بروحها المتجددة، ويُحييها الناس كل عام بحماس وفرح لا ينقطع.