كتب: محمد علي
تحل في الرابع والعشرين من شهر أغسطس الذكرى التسعون لولادة رجل الدين الإيراني الشهير علي أكبر هاشمي رفسنجاني، فمنذ ثماني سنوات، شهدت إيران العديد من الأحداث، فلقد شهدنا أحداث أعوام 2017 و 2019 (الموجات الاحتجاجية التي اجتاحت إيران)، وكذلك أحداث شتاء 2022 الحزين (الأحداث التي تلت وفاة مهسا أميني جراء شجار مع شرطة الأخلاق)، وتقول صحيفة هم-ميهن الإيرانية في تقرير لها بمناسبة ميلاد هاشمي أن هاشمي لو كان بيننا اليوم، لم تكن تلك الجروح العميقة قد أصابت البلاد. شعر رفسنجاني بالارتياح عندما تم توقيع الاتفاق النووي، رغم أنه كان يتوقع أن أعداء الاتفاق لن يتقبلوه وسيحاولون تخريبه. ومنذ فترة الحرب، كان يسعى لتحسين العلاقات ورفع العداوة مع أمريكا، تلك المشكلة الكبرى التي أثقل بها الماركسيون صدر إيران.
في أواخر حياته، كان آية الله يتوقع أن قضايا النساء والشباب وأسلوب حياتهم ومسألة الحجاب ستصبح مشكلات تستوجب الحل، وأن على النظام أن يتخذ تدابير في وقت مبكر. لذلك كان يبحث عن حلول. كان يفكر في أن يتقدم أحد كبار العلماء لحل هذه القضايا ويكون كاسرًا للحواجز. في أحد الأيام، قرر زيارة آية الله جوادي آملي. كانت الدروس بالحوزة العلمية معطلة، وقد ذهب إلى دماوند للراحة. ذهب إلى دماوند والتقى بذلك المرجع الحكيم لساعات. طلب منه بجدية أن يتولى زمام المبادرة لحل هذه المشكلة الكبيرة والحيوية، وألا يدع النظام يواجه تمرد النساء والشباب. كانت تلك مهمة عظيمة. لكن الموت لم يمهل رجل الأزمات ليتمكن من تجاوز هذا التحدي الكبير للنظام.
مثال للعقلانية في الحكم:
نتذكر جيدًا وقت الضيقات والحوادث، كان الناس ينتظرون يوم الجمعة ليستمعوا إلى ما سيقوله هاشمي رفسنجاني في خطبة صلاة الجمعة. وكأن الأمر لم يقتصر على الإيرانيين فحسب، بل كانت أنظار العالم تتجه إلى تلك المنصة البسيطة في ساحة العشب بجامعة طهران لمعرفة تحليل خطبته الثانية. كان السيد رفسنجاني، وبمهارة لا مثيل لها يقلل حدة كل التوتر والقلق لدى الناس من خلال سحر كلماته ومنطقه المقنع. كان رمزًا للعقلانية في عملية صنع القرار.
بعد أحداث 11 سبتمبر وهجوم أمريكا على أفغانستان وسقوط طالبان، كانت أمريكا تبحث عن عدو لتهاجمه مثل ذئب جريح. حكمة هاشمي وبُعد نظره أبعدت خطرًا كبيرًا عن إيران. في ذلك الوقت، اكتشفت سفينة محملة بالأسلحة من إسرائيل، وزُعم أنها محملة من إيران لتسليمها للمقاتلين الفلسطينيين. لم يُعرف من وراء ذلك؛ لكن جورج بوش، رئيس أمريكا آنذاك، وصف إيران بعد أسبوع من ذلك في خطابه التهديدي بأنها “محور الشر”. كان احتمال الهجوم العسكري الأمريكي مطروحًا بجدية. لكن خطبة هاشمي، التي كانت تتسم بالحكمة والدهاء، نجحت في تجنيب الخطر عن إيران، وقدم فيها تحليلات واقعية للمجتمع، مما ساهم في تهدئة الوضع المتوتر. خلال حياة رفسنجاني الغنية بالأحداث، كانت تحليلاته وأحاديثه تتناقل بين الناس والسياسيين. كان هاشمي رفسنجاني صريحًا مع الناس، وحاول دائمًا التحدث بصدق. لا شيء أكثر إنقاذًا وبناءً للثقة من الصدق، وهو النهج الذي يتبعه اليوم الدكتور بزشكيان ويحظى بترحيب الناس.
الأحكام العرفية مع الاجتهاد المواكب للعصر:
كان آية الله هاشمي يدرك أن إبداء معارضة للأفكار الضارة السائدة سيواجه بمقاومة من القوى المتشددة. لذلك، كان يعتقد أن تغيير الأفكار الخاطئة يتطلب تغيير البيئة وإعادة تشكيل الهيكل الاقتصادي والحضري وإحداث تحول في نمط الحياة، مما سيجبر الأفكار بدورها على التغيير. في أحد خطاباته، أكد هاشمي أن القوانين التي وُضعت قبل 1400 سنة لمجتمع آخر وظروف مختلفة تمامًا لم تعد قابلة للتطبيق في الزمن الحاضر. كان يرى أن المثقفين يعارضون الحكومة الدينية ويعرفون الدين على أنه علاقة شخصية، بينما يمكن للحكومة الإسلامية أن تعيد صياغة القوانين الإسلامية بما يتماشى مع الظروف الراهنة وتقدم “قانونًا عرفيًا للناس”. كان هذا الاعتقاد من أهم أركان فكر هاشمي السياسي، وعلى هذا الأساس كان يُعرف دور الحكومة الدينية بأنه “أكبر بكثير من ثورة عادية”.
قضية رأس المال وأصحاب رؤوس الأموال:
اعتبر هاشمي أن من أكبر المشكلات التي تواجه النظام بعد الثورة هي عدم وجود طبقة من أصحاب رؤوس الأموال، ولذلك كان من الضروري جمع رأس المال الصغير وإدخاله في دورة الإنتاج: “ليس لدينا رأس المال بالمعنى السائد في العالم أو كما كان قبل الثورة، أو لدينا ولكن بشكل قليل جدًا. يمكن للأشخاص الذين يمتلكون إمكانيات مالية أو فكرية أو إدارية الدخول إلى الساحة ليكونوا أكثر نشاطًا”.
وكان يعتقد أن “السيولة النقدية” في المجتمع مرتفعة، لكن بسبب انعدام ثقة الناس في الوضع السياسي والاقتصادي للبلاد، كانت هذه الأموال إما مخبأة أو تُستخدم في “السوق السوداء”. فقد سمى هاشمي هذه السياسة بسياسة “السيطرة على رأس المال” وكان يعتقد أنها من الرسائل المهمة للثورة. وأحد أسباب عدم نشوء رأسمالية تهدف إلى التنمية كان الفجوة بين رأس المال والمعرفة. وكان يرى أن من نواقص الرأسمالية في إيران هو أن أصحاب رؤوس الأموال لم يكونوا متعلمين. وكان يؤمن بأنه في عهد إعادة البناء ستظهر طبقة من الرأسماليين المسلحين بالعلم والتكنولوجيا، مما سيزيل هذا النقص في التنمية في إيران.”
الفكر الشامل للقضاء على الفقر:
كان هاشمي يؤمن بأن للدولة دوراً محوريًا في مكافحة الفقر، ويجب أن تعتمد في ذلك على استراتيجيتين: الأولى هي تحسين بيئة الأعمال وتوفير مناخ ملائم للاستثمار الخاص والنمو الاقتصادي، والثانية هي تمكين الفقراء من خلال توفير الفرص المناسبة وضمان الأمان لهم. وقد قال في هذا الشأن: “بعد انتهاء الحرب، كان أحد الأهداف الكبيرة للثورة توفير فرص العمل للناس من خلال خطة التنمية الخمسية الأولى، وخلال حكومة البناء تم اتخاذ خطوات فعّالة، حيث انخفضت نسبة البطالة من 15% إلى 9%. ولو استمرت تلك الجهود، لما كانت لدينا اليوم مشكلة البطالة في البلاد.
سياسة التعديل الاقتصادي:
في فكر هاشمي، كانت سياسة تقليص حجم الدولة في مجال الدعم الحكومي، خاصة دعم الطاقة، أمراً بالغ الأهمية. فقد كان يرى أن تطبيق هذه السياسات سيساعد الدولة على زيادة رأس المال من خلال بيع الشركات وتقليل التكاليف الحكومية وتخفيف العبء عنها فيما يتعلق بتقديم الدعم. ففي تفسيره الجديد للعدالة، اعتبر أن الطريقة السابقة لتوزيع الدعم كانت مخالفة للعدالة، لأنها كانت تؤدي إلى تهريب الوقود والطاقة، بالإضافة إلى أن الأثرياء كانوا يستفيدون أكثر من هذا الدعم بسبب استهلاكهم الأكبر. كانت السياسة تعتمد على مبدأ تعديل الأسعار وإزالة الدعم بشكل تدريجي.
كان هدف هاشمي أن تُحرر الدولة من أعباء الدعم، مما يعزز من قدرتها الاقتصادية ويمنحها إدارة أقوى. وفي حال أدى رفع الدعم إلى تضرر بعض الفئات، يمكن للدولة تعويض ذلك من خلال سياسات تأمينية وغيرها:
حماية البيئة:
كان السعي للحفاظ على “البيئة” ومكافحة تدميرها من الأولويات المهمة في فكر هاشمي رفسنجاني. فكان يعتقد أن من أهم نقاط الخلاف بين دول الجنوب والدول الغربية والشمالية هو أن السياسات الخاطئة للدول الشمالية أدت إلى تدمير البيئة. كان هاشمي يؤمن بأن سياسات التنمية الداخلية في إيران لا تسبب تدمير البيئة، بينما سياسات التنمية الغربية أدت إلى “أزمات بيئية”. لذلك، كان يسعى لتأطير موضوع “البيئة” معنوياً، لإنشاء جبهة ضد الغرب، حيث تكون دول الجنوب مدافعة عن البيئة في مواجهة الدول الغربية المدمرة للبيئة.
النقطة المهمة في الفكر النضالي لهاشمي هي أن هذا الفكر كان في خدمة التنمية. تحولت معركته ضد نظام الشاه في الستينات إلى معركة ضد الليبراليين واليساريين في الثمانينات، ثم في التسعينات إلى قضايا مثل مواجهة مدمري البيئة. ويمكن إضافة اهتمامه بالصحة، خاصة في المناطق النائية من البلاد، إلى هذه القضايا، حيث كان يعتبرها جزءًا من برامجه التنموية المهمة.
مشكلات الزواج عند الشباب:
في سياق النقاشات التي انتقد فيها رفسنجاني الزهد والتقشف، ألقى خطبة في صلاة الجمعة بطهران تناول فيها ضرورة التصدي لثقافة التقشف الجنسي. فقد كان يرى أن انتشار هذه الثقافة في إيران، والتي لا علاقة لها بالإسلام، تسببت في بعض الأزمات الاجتماعية. وقد أوضح الآثار الاجتماعية السلبية لهذه الثقافة، والتي زادت سوءًا بسبب المشكلات الاقتصادية التي تعترض طريق الزواج، مؤكدًا على الحاجة الملحة لإيجاد حل لهذه المشكلة. ومن هذا المنطلق، كان يعتقد أن الحل لهذه الأزمة موجود في الدين نفسه، وهو الزواج المؤقت.
مسألة المرأة والحجاب الإسلامي:
من بين أهم القضايا الاجتماعية التي حظيت باهتمام الحكومات المتعاقبة في إيران بعد الثورة الدستورية (المشروطة)، كانت مسألة النساء والقضايا المرتبطة بها، مثل الزواج والأسرة. كانت هذه القضايا محورية أيضًا في الفكر التقدمي لهاشمي. كان هاشمي يعتقد بعدم ضرورة تدخل الحكومة في مسألة الحجاب، وكانت مواقفه لاحقاً بشأن التعامل مع ظاهرة عدم الالتزام بالحجاب وتحصيل الغرامات من النساء غير المحجبات بشكل كامل، متأثرة بخطاب الثمانينات، وذلك لتجنب اتهامه بمعارضة رؤية الإمام الخميني.
كان هاشمي يسعى للاستفادة من النساء كقوة بشرية لتحقيق التنمية. وكما كان العديد من رجال الدولة يشتكون من وضع المرأة الاجتماعي في المجتمعات التقليدية وينتقدون عدم نشاط نصف المجتمع في مجال العمل والإنتاج، كان يعتقد أنه ينبغي تمهيد السبل لمشاركة النساء في المجتمع حتى تعود النصف الآخر إلى ساحات العمل والإنتاج.
كان هاشمي يعتقد أنه لتحقيق هذا الهدف، لا بد من تغيير العقلية المجتمعية، خاصة بين القوى الدينية، تجاه المرأة. سعى إلى كسر هيمنة الخطاب المتحجر فيما يتعلق بالمرأة والحجاب. حاول من خلال تفسير النصوص الإسلامية تغيير الرؤية نحو دور المرأة في المجتمع. بدلاً من اتباع أساليب لا يراها فعّالة، كان يفضل الاستناد إلى استدلالات دينية كطريق مناسب. في هذا السياق، يمكن ملاحظة مبدئين أساسيين في فكر هاشمي بخصوص المرأة، وهما: المبدأ الأول هو أنه بدلاً من الانشغال بالقضايا النظرية وإضاعة الوقت والموارد، يجب التركيز على العمل الفعلي. وأما المبدأ الثاني هو أنه للوصول إلى حقوق المرأة، لا ينبغي الاعتماد على الحلول غير المحلية. لتحقيق النتائج، يجب أن يكون المحور الأساسي للنقاش هو “الفقه”.
دفاعه عن نظرية ولاية الفقيه:
كان آية الله هاشمي يرى أن اتباع ولاية الفقيه والحفاظ عليها هو صمام الأمان للنظام القائم وضمان توازن وصحة المجتمع، وكان يعتقد أن “ولاية الفقيه مؤسسة مفيدة وقيمة، يمكن من خلال الحفاظ على هيبتها واعتبارها وعظمتها، الحفاظ على مصالح المجتمع والثورة”. وكان أبرز استدلالات هاشمي حول ولاية الفقيه استدلالاً عملياً يُظهر أن ولاية الفقيه تضمن مصالح وفوائد مثل ضمان النظام السياسي القائم والحفاظ على توازن المجتمع من خلال الحفاظ على القيم والمعايير.
الكلمة الأخيرة:
منتهى الحديث وتلخيصه هو أن هاشمي رفسنجاني كان من الشخصيات الرئيسية في الثورة الإيرانية، التي لم تقتصر على النضال والجهاد من أجل الإسلام وإيران قبل وقوع الثورة، بل لعب أيضاً دوراً أساسياً في تعزيز الوضع الاقتصادي والسياسي داخل البلاد وعلى الصعيد الدولي من خلال حضوره الفعال واهتمامه في مختلف المجالات السياسية واتخاذ القرارات. وكانت القاعدة الأساسية للفكر التقدمي لآية الله تتمثل في التنمية والإصلاحات الأساسية التي تؤدي إلى الرفاهية والازدهار بما يتماشى مع فقه الإسلام الحقيقي، والاعتدال والوسطية، والواقعية المثالية، والمصلحة، وعلى أساس متين.