كتب: سید نیما موسوی
ترجمة: يسرا شمندي
شكَّل اغتيال قاسم سليماني، في يناير/كانون الثاني 2020، إحدى أبرز لحظات العزاء الجماعي للإيرانيين في السنوات الأخيرة، حيث قلّما وحّد حدثٌ مثل اغتيال سليماني مختلف فئات المجتمع الإيراني، متجاوزًا الانقسامات الفكرية والطبقية، بفضل كونه شخصية “جامعة للأضداد”.
وفي نفس الساعات التي انتشر فيها خبر اغتيال سليماني، إلى جانب الشخصيات المرتبطة بالنظام، قام عدد كبير من اللاعبين والممثلين الإيرانيين الذين لا تربطهم علاقة وثيقة بالنظام السياسي، بنشر قصص تعزية له على إنستغرام. وعلى الرغم من مكانته المرموقة التي كانت تحظى باحترام جميع الأحزاب الرسمية في إيران، فقد كان حتى معارضو النظام الإيراني يكنون له التقدير والاحترام. وقد قام صهر محمد رضا بهلوي، أردشير زاهدي، بتكريمه في بثّ على قناة بي بي سي الفارسية. وأشاد به الكاتب اليساري والمعارض محمود دولت أبادي، في ملاحظاته، بينما أدان حزب نهضة الحرية اغتياله رغم حظر نشاطه القانوني. كما أشاد به السجين السياسي مصطفى تاج زاده، وشارك في جنازته في ذلك الوقت. وقدّم الصحفي والسجين السياسي لطف الله ميثمي تعازيه في اغتيال سليماني، بينما أثنت الممثلة الإيرانية طناز طباطبائي عليه أثناء تقديم تعازيها. ومن المثير للاهتمام أن قلة من الناس يمكن أن يجمعوا بين مختلف فئات المجتمع الإيراني ويحظوا باحترام الجميع. والسؤال المطروح هو: ما الذي جعل سليماني يحظى بهذا القدر من الشعبية بين شرائح المجتمع الإيراني المختلفة؟ هو لم يكن مجرد شخصية سياسية فحسب، بل كان أهم رمز لبناء الأمة في الثورة الإسلامية، التي وضحت علاقات إيران مع الهويات المتضاربة في منطقة الشرق الأوسط.
إن عبارة “نحن أمة الإمام الحسين” لا تقتصر على الإشارة إلى حادثة تاريخية فقط، بل تعتبر مراسم عاشوراء بمثابة أهم تجمع للشعب الإيراني لتخليد ذكرى استشهاد الإمام الحسين. وفي هذا السياق، تكتسب هذه الهوية أهمية بالغة في ظل المنافسة والتعاون مع هويات متنوعة في منطقة الشرق الأوسط، مستندة إلى تجربة الإيرانيين الطويلة في بناء الأمة على مر العصور.
“أمة الإمام الحسين” كانت تعتبر إسرائيل عدوًا لها. وفي سياق الصراع مع إسرائيل، كانت “أمة الإمام الحسين” تجمع الهويات المتعارضة وتنسقها كحبات اللؤلؤ. فقد ضمّت في صفوفها العديد من المجموعات المتنوعة رغم تباين أيديولوجياتها، مثل حركة طالبان البشتون، وأحزاب الهزارة الشيعية في أفغانستان، وبعض السياسيين الأحناف في طاجيكستان، والدراويش السنة في كردستان العراق، والإخوان الجدد في تركيا، والسوشيال ستيين العلمانيين في جبهة التحرير الفلسطينية، والبعثيين العلمانيين السوريين واللبنانيين، ومقاتلي الإخوان في غزة، والشيعة في جنوب لبنان، والمقاتلين السلفيين القاعديين في اليمن، والشيعة الزيديين الحوثيين، والجماعات الإخوانية في السودان ومصر، والشيعة في نيجيريا، وحركة التحرر الليبرالي في الصحراء، والمسيحيين الأرثوذكس في روسيا، والكاثوليك المؤيدين للاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية، حتى الحركات الفاشية في جنوب أوروبا، فعلى الرغم من اختلافاتها العميقة في الفكر والسياسة، استطاع قاسم سليماني ربط هذه المجموعات معًا كأجزاء متكاملة لبناء مجال الحضارة الإسلامية الثورية. إن هذا المجال، كما كان يراه سليماني، لم يكن مجرد امتداد صفوي أو هلال شيعي، بل كان مشروعًا لتوحيد طيف واسع من الهويات المتنافرة في منطقة الشرق الأوسط وما وراءها.
كانت الدولة الصفوية تقدم نفسها منافسة للعثمانيين من خلال التركيز على الهوية الشيعية والعلاقات مع أوروبا، إلا أن سليماني، وفقًا لرؤيته، كان يرى إسرائيل عدوا رئيسيا من خلال تأسيس تحالف متنوع من الجماعات تحت اسم “جبهة المقاومة”، كما سعى لتوحيد هذه القوى وجعلها تتعاون رغم اختلافاتها. وقد كان هذا التحالف جزءًا من مسعى “بناء الأمة” تحت شعار “أمة الإمام الحسين”. في هذا السياق، حاول سليماني تحقيق أهداف عسكرية بأساليب غير عسكرية. ومن هنا، كانت أهم قوة لديه هي قدرته على التعامل بشكل إيجابي مع مختلف الأجنحة السياسية الإيرانية، إلى جانب علاقاته الشخصية الودودة مع بعض الشخصيات السياسية في المنطقة، وهي علاقات كانت ضرورية في الأوقات الصعبة. واتبع سليماني طرقًا غير تقليدية للوصول إلى أهداف استراتيجية وعسكرية، ونجح في كثير من الأحيان. كما كان من بين العسكريين القلائل الذين لم يهتموا بالتشريفات العسكرية، حتى بعد قضائه أربعين عامًا في الخدمة العسكرية، كانت الصور التي يظهر فيها وهو يحمل السلاح نادرة، وحتى في وصيته لابنه، أشار إلى أنه لم يكن يطمح لأن يكون عسكريًا. وكان يُظهر من خلال تصرفاته احترامًا فائقًا للقيادة في إيران، حيث كان يتعامل مع القادة العسكريين وهو يضع يده اليسرى على صدره بينما يرتدي القبعة العسكرية، مما يعكس احترامه الشخصي. ويدل هذا السلوك على عدم تقيده بالتشريفات العسكرية.
وعلى الرغم من أن الجمع بين النظرة العسكرية في ساحة المعركة والنظرة الصوفية المتسامحة في أفكار سليماني قد يبدو متناقضًا، إلا أنه كان جزءًا من إرثه الثقافي والوجودي. وُلد قاسم سليماني في قبيلة لور بمنطقة رابر في كرمان. وقبيلة سليماني، هي إحدى أكبر القبائل، التي انتقلت من جبال منطقة جهارمحال وبختياري إلى ولاية خمسه قرب شيراز منذ قرون، ومنذ 250 عامًا استقرت في منطقة أسفندقه في جيرفت وكذلك في قرية قنات ملك برابر كرمان.
كما كانت قبيلة سليماني من القبائل الكبيرة والمحاربة، حيث تزوج بعض أفرادها من قبائل اللور الأخرى مثل تركاشوند، بيرانوند، حاجيوند وغيرهم، وتدريجًا اندمجوا معهم. وفي القرن الثامن عشر، كانت قبيلة سليماني جزءًا من جيش ملك إيران نادر شاه، الذي شارك في فتح قندهار، وعندما عادوا من أفغانستان، استقروا في المناطق المذكورة في كرمان. ويُقال إن قاسم سليماني، قبل الثورة، كان قد شارك في المعارك المحلية بين قبائل منطقة كرمان في شبابه بينما كان يعمل في مجال البناء. وقد أثرت هذه الروح القتالية أيضًا على اهتمامه بالرياضة، حيث كان يُمارس رياضة الكاراتيه.
تُعَدّ منطقة كرمان في إيران جسرًا ثقافيًا يربط بين إيران وشبه القارة الهندية، مما جعلها مركزًا لتأثيرات ثقافية واقتصادية هامة. وفي القرن التاسع عشر، اعتُبرت جيرفت في كرمان مركزًا رئيسيًا لصناعة النسيج الإيرانية، بتأثيرات مستوحاة من النماذج الهندية.
بالإضافة إلى ذلك، ساهمت الجغرافيا المجاورة لشبه القارة الهندية في تعزيز أهمية الثقافة الصوفية الهندية في كرمان. وتُعَدّ حضارة جيرفت من أقدم الحضارات في إيران، حيث كانت مركزًا لعبادة الميثرائية قبل ظهور الزرادشتية، ويُعزى استقرار هذه الديانة في جيرفت إلى التأثيرات الهندية.
بعد ظهور الإسلام، أصبحت كرمان وجيرفت من أبرز المراكز الصوفية في إيران. وخلال فترة حكم القراختائيين في كرمان، وبفضل استقلالهم عن غزوات المغول، استقطبت المنطقة العديد من الدراويش مثل شاه نعمت الله ولي وشيخ محمود شبستري، مما ساهم في تشكيل المدرسة الصوفية الكرمانية.
تأثر قاسم سليماني، كأبناء كرمان، بالأدب الصوفي لهذه المنطقة، حيث درس في مرحلة لاحقة من حياته في مجال التصوف الإسلامي.
وفي الواقع، كانت شخصية قاسم سليماني مزيجًا من البراعة الحربية في الميدان العسكري والتسامح الصوفي في الساحة السياسية، مما منحته قدرة عالية على المناورة لتحقيق ما كان يطمح إليه. وهذه الشخصية لم تكن فقط تمتلك روحًا قتالية عالية، فكانت قادرة على متابعة هدفها بنجاح من خلال القتال، ولكن في نفس الوقت كانت تحمل روح التسامح التي أكسبتها احترام جميع التيارات السياسية داخل إيران، من الرياضيين والفنانين إلى المعارضين والسجناء السياسيين. وعلى الساحة الدولية، كان هذا التسامح يمكِّنه من جمع الشيعة في جنوب لبنان، والفلسطينيين اليساريين في جبهة التحرير، والمجاهدين السلفيين في القاعدة في اليمن، والمسيحيين الأرثوذكس في روسيا، والفاشيين الكاثوليك في إيطاليا وإسبانيا، والبعثيين العلمانيين في سوريا، والمجاهدين الإخوان المسلمين في غزة، مما كان يمثل القدرة على بناء تحالفات متسقة كانت تعتبر من أبرز سمات شخصيته.