كتب: حسین محمودي
ترجمة: علي زين العابدين برهام
في الأيام الأولى للثورة الإيرانية، كانت إيران تمر بمرحلة من الاضطراب وعدم الاستقرار، فمع سقوط نظام الشاه، لم يكن الهيكل السياسي والاجتماعي الجديد قد استقر بعد، ووسط هذا الفراغ، تنافست المجموعات السياسية والاجتماعية المختلفة، بأفكارها المتباينة، على السلطة ورسم ملامح المستقبل.
أدى فراغ السلطة الناجم عن سقوط نظام الشاه إلى دخول إيران في مرحلة من التحديات العميقة. فمن جهة، كانت الحكومة المؤقتة برئاسة مهدي بازركان تواجه صعوبات كبيرة في إدارة شؤون الدولة، وسط معارضة متزايدة من مختلف التيارات السياسية، ومن جهة أخرى، كانت القوى الثورية، التي قادت الثورة نحو النصر، تطالب بتغييرات جذرية في النظامين السياسي والاجتماعي.
في الوقت نفسه، كان الجيش، الذي كان يشكل أحد أعمدة نظام الشاه، يعاني من حالة من التصدع، حيث وجد العديد من الضباط والجنود أنفسهم بلا توجيه واضح، وعلى الأرض، تصاعدت الخلافات بين القوى السياسية والاجتماعية، مما أدى إلى اضطرابات أمنية في بعض المناطق، بينما كانت فلول نظام الشاه والجماعات المعارضة تسعى لإثارة الفوضى وتقويض النظام الجديد.
في عهد النظام البهلوي، كان الجيش إحدى أقوى وأهم مؤسسات الدولة، حيث لعب دورا أساسيا في ترسيخ وحماية الحكم الملكي، فقد أسسه رضا شاه وعمل على تعزيزه وتحديثه، ليصبح العمود الفقري للنظام، وأداة رئيسية في قمع المعارضين وتنفيذ سياسات الشاه.
كان الجيش مسؤولا عن حماية أمن البلاد من التهديدات الداخلية والخارجية، وهو ما شمل التصدي للانتفاضات والحركات المناهضة للنظام، إلى جانب الدفاع عن الحدود ضد أي عدوان خارجي. لهذا السبب، أدى دورا رئيسيا في قمع المعارضين السياسيين والفكريين.
وبصفته مؤسسة خاضعة تماما للنظام الحاكم، كان الجيش أداة لضمان استمرارية سياسات البهلويين، حيث شارك بفعالية في المشاريع العمرانية والاقتصادية، وعمل على ترسيخ أيديولوجية النظام، كما كان حاضرا في الفعاليات والمناسبات الرسمية لتعزيز صورة الحكم.
كان الشاه، بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، يتمتع بسيطرة مطلقة على الجيش، حيث كان يتخذ بنفسه جميع القرارات الاستراتيجية المتعلقة به، وقد وُجهت ميزانيات ضخمة لتعزيز القدرات العسكرية، مع تركيز دائم على تحديث وتسليح الجيش بأحدث المعدات، التي كانت في معظمها أمريكية.
في ظل هذه الظروف، قام ضباط سلاح الجو في الجيش بزيارة مدرسة علوي بطهران، مقر إقامة الإمام الخميني، ليعلنوا بيعتهم لقائد الثورة الإيرانية. شكّل هذا الحدث المفصلي، الذي جاء من داخل أحد أهم أركان النظام الملكي، نقطة تحول تاريخية في مسار الثورة الإيرانية.
وقد جاء هذا الحدث نتيجة تضافر عدة عوامل مؤثرة.
كان الإمام الخميني، بصفته قائدا دينيا، ومرجعا للتقليد، وشخصية كاريزمية، يتمتع بمكانة استثنائية بين الشعب الإيراني، وكانت رسائله التي يبعث بها من باريس، تُحدث تأثيرا عميقا في الرأي العام، مما دفع كثيرين إلى مقاومة نظام الشاه. وتأثرا بهذه الرسائل وبالمكانة الروحية للإمام الخميني، آمن ضباط سلاح الجو (الهُمافَران) بأن الإمام قادر على قيادة البلاد نحو مستقبل أفضل.
على الجانب الآخر، كان الجيش الملكي يعاني من تمييز واضح، خصوصا في المستويات الدنيا، فقد كان ضباط سلاح الجو والجنود من الرتب غير العليا يتقاضون رواتب أقل ويحصلون على مزايا محدودة مقارنة بالضباط الكبار، كما كانت فرص الترقية والتقدم المهني أمامهم ضيقة. هذا التمييز، إلى جانب المشكلات الاقتصادية والمعيشية، أدى إلى انتشار موجة واسعة من السخط والاستياء داخل الجيش.
في المقابل، كانت الثورة تكتسب زخما متصاعدا، متحولة إلى حركة شعبية شاملة، حيث انخرطت فيها مختلف فئات المجتمع، من طلاب وعمال ومثقفين، ومع تنامي التأييد الشعبي الواسع وإدراكهم للسخط العام المتزايد ضد نظام الشاه، أيقن ضباط سلاح الجو (الهُمافَران) أن مستقبل البلاد بات في يد الثوار، وأن الانضمام إليهم هو الخيار الأمثل لهم ولإيران.
في يومي 5 و6 فبراير/شباط 1979، انتشرت منشورات داخل المساكن العسكرية لسلاح الجو، تدعو الهُمافَران إلى التجمع يوم 7 فبراير/شباط، الساعة السادسة صباحا، في شارع “إيران” قرب مقر إقامة الإمام الخميني. وفي محاولة لاحتواء التحركات الثورية داخل الجيش، أصدرت إدارة مكافحة التجسس العسكري بيانا مضادا، دعت فيه جميع أفراد الجيش إلى التجمع في ميدان بهارستان يوم 8 فبراير/شباط.
وأخيرا، في الساعة العاشرة صباحا من يوم 7 فبراير/شباط، اكتظ شارع “إيران” بحشود كبيرة من ضباط سلاح الجو (الهُمافَران) الذين جاؤوا ليبايعوا للإمام الخميني. ومع انطلاق مراسم البيعة، قرأ الهُمافَران بيانا رسميا تعهّدوا فيه بحماية الأسلحة والمعدات العسكرية التي تم شراؤها بأموال الشعب الإيراني، والتصدي لعملاء وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) الذين ظلوا في إيران متخفين تحت صفة “المستشارين العسكريين”، ومواجهة أي محاولة انقلابية يدبرها عملاء النظام البائد بكل ما أوتوا من قوة.
الإمام الخميني، بدوره، استقبلهم بحرارة، مشيدا بشجاعتهم وولائهم للثورة.
انتشر خبر بيعة الهُمافَران للإمام الخميني كالنار في الهشيم في جميع أنحاء إيران، ليبعث موجة عارمة من الفرح والأمل في قلوب الشعب، وشكَّل هذا الحدث ضربة قاسية لمعنويات أنصار النظام الملكي، حيث فضح الانقسامات الداخلية داخل الجيش، وعزز إرادة الثوار، وساهم بشكل كبير في تسريع انتصار الثورة الإيرانية.
وخلال هذا اللقاء، وُثّقت إحدى أكثر الصور أيقونية وخلودا في تاريخ الثورة الإيرانية عام 1979، وهي الصورة التي يتم إحياؤها سنويا في ذكرى هذا الحدث، خلال اللقاء التقليدي لضباط سلاح الجو مع المرشد الإيراني.
.