كتب: مصطفى أفضل زادة، مراسل “زاد إيران” في إيران
ترجمة: علي زين العابدين برهام
يوافق يوم 20 مارس/آذار، قبل يوم واحد من نهاية العام في إيران، يوم الصناعة النفطية الوطنية، وهو يوم مُعلن كعطلة رسمية في التقويم الإيراني. غير أن هذا اليوم يتجاوز كونه مجرد مناسبة رسمية؛ إنه منعطف حاسم في تاريخ إيران المعاصر، يسرد فصول نضال طويل ضد الاستعمار ونهب الثروات الوطنية.
ورغم أن تأميم صناعة النفط نجح مؤقتا في إقصاء الأجانب عن هذا المورد الحيوي، إلا أن التدخلات الأجنبية، إلى جانب تبعية نظام “بهلوي” للغرب، أجهضت مكاسب هذا الحراك التاريخي، ليُجهز عليها انقلاب 19 أغسطس/آب 1953، الذي أعاد فرض الهيمنة الاستعمارية على موارد إيران.
قبل تأميم صناعة النفط، كانت شركة النفط الإيرانية-البريطانية تستحوذ على 80% من أرباح استخراج النفط، فيما لم تكن إيران تحصل إلا على 20% فقط من عائدات هذا المورد الوطني. وقد كرّس هذا الظلم الفادح في عهد رضا شاه من خلال توقيع اتفاقية عام 1933 ، التي جاءت أسوأ حتى من اتفاقية دارسي الشهيرة.
اتفاقية دارسي، المبرمة عام 1901 بين الثري البريطاني ويليام ناكس دارسي وحكومة مظفر الدين شاه القاجاري، منحت دارسي امتياز استكشاف واستخراج وبيع النفط في إيران لمدة 60 عاما، مقابل منح إيران 16% فقط من صافي الأرباح، بينما آلت السيطرة الكاملة على الموارد النفطية إلى الشركات البريطانية.
غير أن توقيع اتفاقية عام 1933 شكّل صدمة لدى الشعب الإيراني ونخبه السياسية، ما دفعهم إلى إدراك أهمية تأميم النفط وضرورة استعادة السيادة على الثروات الوطنية. وكان من بين الموقعين على هذه الاتفاقية حسن تقی زاده، أحد أبرز الشخصيات السياسية في عهدي القاجار والبهلوي، والذي كان يشغل حينها منصب وزير المالية، ولعب دورا محوريا في تمرير الاتفاقية وتنفيذها.
وبعد خلع رضا شاه، وُجهت لـ تقي زاده انتقادات حادة في البرلمان، وظهرت مطالب بمساءلة المسؤولين عن توقيع ذلك العقد. هذا الوعي الوطني المتنامي تحوّل، بقيادة شخصيات بارزة مثل محمد مصدق، إلى حركة شعبية عارمة هدفت إلى إنهاء هيمنة الاستعمار وبسط السيادة الإيرانية الكاملة على ثرواتها النفطية.
لكن الأيادي الخفية للاستعمار لم تسمح لهذا الاستقلال أن يترسخ. فبريطانيا، التي كانت ترى نفسها مالكة لنفط إيران، ومعها الولايات المتحدة، سارعتا للبحث عن سبيل لإعادة بسط نفوذهما على هذا المورد الحيوي. بادئ ذي بدء، لجأتا إلى فرض العقوبات الاقتصادية وفرض حصار نفطي خانق على إيران، غير أن فشل هذه السياسة دفعهما إلى حياكة مؤامرة أخرى.
جاء انقلاب 19 أغسطس/آب 1953، بتنفيذ مباشر ودعم من أجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية، ليُسقط حكومة مصدق الوطنية ويعيد محمد رضا بهلوي إلى سدة الحكم بسلطة مطلقة. ونتيجة لهذا الانقلاب، لم تعد الشركات النفطية الغربية إلى إيران فحسب، بل فُرضت مجددا قبضة صارمة حالت دون أي محاولة مستقبلية لتحقيق الاستقلال الاقتصادي والسياسي لعقود طويلة.
غير أن انتصار الثورة الإسلامية عام 1979 غيّر هذا المشهد برمّته. فسرعان ما بادرت الحكومة الجديدة إلى اتخاذ خطوة حاسمة تمثلت في طرد جميع الشركات متعددة الجنسيات من قطاع النفط، والسيطرة الكاملة على هذا المورد الاستراتيجي. بهذا الإجراء، وُضع حد لعقود من الهيمنة الاقتصادية الغربية على ثروات إيران، وبدأت البلاد تنتهج سياسة طاقة مستقلة.
ومنذ تلك اللحظة، اعتبرت الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، أن إيران قد تحولت إلى خصم بسبب فك ارتباطها الاقتصادي بالغرب. فجاء الرد عبر عقوبات شاملة، وضغوط سياسية مكثفة، بل وحروب بالوكالة، في محاولة لإخضاع دولة قررت أن توظف مواردها لخدمة مصالحها الوطنية لا لصالح الشركات الأجنبية.
وفي ثمانينيات القرن الماضي، تواصل هذا الصراع بشكل جديد خلال الحرب العراقية الإيرانية. حيث اندلعت “حرب الناقلات” إثر الهجمات العراقية على السفن التجارية المتجهة إلى الموانئ الإيرانية، لتؤكد مجددا أن السيطرة على الموارد النفطية ما تزال محور الاستراتيجيات الغربية في المنطقة.
وفي مواجهة هذه الاعتداءات، أطلقت إيران تحذيرا صارما: «إذا مُنعنا من تصدير نفطنا، فلن يُصدّر أي نفط من الخليج بأسره». كان هذا التهديد كافيا ليدفع الولايات المتحدة وحلفاءها في الناتو إلى الوقوف إلى جانب العراق، وجاء قرار مجلس الأمن رقم 522 ليُدين إيران فعليا ويمهد الطريق أمام تدخل غربي مباشر في هذه الحرب.
مع تصاعد الهجمات العراقية على المنشآت النفطية في جزيرة خارك ابتداء من عام 1985، بادرت إيران بتوسيع نطاق عملياتها العسكرية لتشمل استهداف ناقلات النفط العراقية. وكانت الكويت، التي لعبت دور الداعم الرئيسي لإمدادات العراق النفطية، قد طلبت المساعدة من الولايات المتحدة لحماية شحناتها. فجاء الرد الأمريكي بإطلاق عملية “الإرادة الحازمة”، التي تمثلت في مرافقة ناقلات النفط الكويتية تحت العلم الأمريكي. وفي إطار هذه العملية، تم تغيير اسم ناقلة النفط الكويتية “الرخاء” إلى “بريجتون”، بعد رفع العلم الأمريكي عليها لعبور مضيق هرمز بأمان. لكن إيران، الرافضة لضمان أمن مسارات تصدير خصومها، سارعت إلى تنظيم هجمات استهدفت هذه الناقلات.
تولى قيادة هذه العمليات البطولية الشهيد نادر مهدوي، أحد أبرز قادة القوات البحرية في الحرس الثوري، والذي جسّد بإقدامه وتصميمه مقاومة شرسة للوجود الأمريكي في مياه الخليج. وبقيادة مهدوي، شنّت القوات الإيرانية هجمات مباغتة باستخدام الزوارق السريعة والصواريخ على السفن الأمريكية، وعلى رأسها المدمرة “يو.إس.إس ستارك”، موقعة بها أضرارا جسيمة. أثبتت هذه العمليات أن إيران قادرة على فرض معادلات جديدة في الخليج، وأنها لن تسمح للهيمنة الأمريكية بالاستمرار بلا رد.
إلا أن الأمريكيين ردّوا على هذه العمليات بعمل انتقامي وحشي، حيث اعتقلوا الشهيد نادر مهدوي وعددا من رفاقه، وأقدموا على تعذيبهم بوحشية حتى نالوا شرف الشهادة، ليخلدوا في ذاكرة المقاومة الإيرانية.
في أعقاب الحرب، لم تكتفِ إيران بالحفاظ على موقعها في السوق النفطية العالمية، بل شرعت في تنفيذ استراتيجية بعيدة المدى تقوم على تنويع مصادر دخلها من خلال الاستثمار المكثف في صناعة البتروكيماويات وتطوير حقول الغاز الطبيعي، ما خفّض بشكل ملموس من اعتمادها على صادرات النفط الخام.
هذا التوجه، بالإضافة إلى تعزيز التعاون مع دول آسيا والمنطقة، أثار قلقا متزايدا لدى الغرب، الذي سارع إلى فرض عقوبات جديدة بهدف كبح هذا التقدم. لكن إيران واصلت بثبات مسارها معتمدة على إمكاناتها الذاتية وشراكاتها الاستراتيجية.
ومن أبرز الإنجازات بعد انتصار الثورة الإسلامية، كان السعي الحثيث نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي في الصناعات النفطية والغازية. إذ كانت الشركات الغربية تحتكر قبل الثورة كافة التجهيزات والتكنولوجيا المرتبطة بهذا القطاع الحيوي، لكن مع خروجها، اضطرت إيران إلى الاعتماد على قدراتها الوطنية.
واليوم، لم تحقق إيران فقط الاكتفاء الذاتي في استخراج وتكرير النفط، بل سجّلت تقدما ملحوظا في مجال التكنولوجيا النفطية. هذا الاستقلال الصناعي، إلى جانب تقليل الاعتماد على الدولار في المعاملات النفطية، كان من أهم الأسباب التي دفعت الغرب إلى تكثيف الضغوط الاقتصادية والسياسية على إيران.
بينما واصل الغرب تصعيد ضغوطه على إيران عبر أدوات متعددة، وعلى رأسها العقوبات الاقتصادية، عملت إيران بذكاء على توسيع شراكاتها الاستراتيجية، لاسيما في آسيا، من خلال إبرام اتفاقيات طويلة الأمد في مجالي النفط والغاز مع دول كبرى مثل الصين وروسيا. هذه السياسة لم تكن مجرد رد فعل، بل تعبير واضح عن سعي إيران للحفاظ على مكانتها في الأسواق العالمية، وتجسيد لمسار ممتد بدأ مع تأميم النفط ولا يزال مستمرا في التطور حتى اليوم.
إن تأميم صناعة النفط في 20 مارس/آذار 1951 لم يكن مجرد قرار اقتصادي، بل محطة مفصلية دشّنت معركة طويلة ضد الهيمنة الأجنبية. ورغم أن هذه المعركة تلقت ضربة بانقلاب أطاح بحكومة مصدق، إلا أن انتصار الثورة الإسلامية عام 1979 أعاد إحياءها، لتستمر حتى عصرنا الحاضر.
واليوم، تتجلى آثار هذا الإرث التاريخي بشكل أوضح من أي وقت مضى في سياسات إيران، والتي لا تزال ترتكز على المبدأ الأساسي الذي وُضع آنذاك: “الثروات الوطنية ملك للشعب، لا للجهات الأجنبية”.
هذا المبدأ تحوّل إلى قاعدة راسخة لا تقتصر على قطاع النفط وحده، بل أصبح حجر الأساس الذي يشكّل توجهات إيران في سياساتها الداخلية والخارجية، وسيبقى كذلك محورا رئيسيا في مسيرتها المستقبلية.