كتب: محمد بركات
لطالما تمتعت صحيفة كيهان بمكانة مقربة من المرشد الإيراني علي خامنئي، ودائما ما تولت الدفاع عن آراء ومعتقدات النظام والاتجاه الأصولي الذي يصر على رفع شعار التمسك بالمبادئ التي قامت عليها الثورة الإيرانية عام 1979، ولكن الأمر لم يكن كذلك منذ البداية، فمنذ التأسيس، مرت الصحيفة بعدة مراحل حتى أصبحت على الشكل الذي هي عليه الآن.
النشأة والتطور:
تأسست صحيفة كيهان في عام 1942 على يد عبد الرحمن فرامرزي، الصحفي والأكاديمي والسياسي الإيراني، وبرئاسة مصطفى مصباح زاده، وهو أكاديمي وصحفي وبرلماني إيراني كان يسعى إلى إنشاء منصة تعبر عن وجهات نظر الليبراليين والمثقفين الإيرانيين في ظل التحولات الكبرى التي كانت تشهدها إيران، وقد كان الهدف الأول من تأسيس الصحيفة هو أن تكون صحيفة يومية شاملة تقدم أخبارا وتحليلات عميقة، وتتناول قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية بروح عصرية وجريئة، وذلك وفقا لتقرير موقع مركز الدراسات والأبحاث السياسية الصادر في 25 مايو/أيار 2021.
ووفقا للتقرير، فمع انطلاقها، لقيت الصحيفة دعما واسعا من النخب الفكرية والسياسية، واستطاعت بفضل أسلوبها التحريري الجديد جذب جمهور واسع، وقد اتسمت الصحيفة بالحياد النسبي خلال السنوات الأولى من صدورها، حيث حرصت على تقديم أخبار دقيقة وتحليلات موضوعية، مما جعلها مرجعا لكثير من الإيرانيين الباحثين عن فهم أعمق للتطورات في الداخل والخارج.
وفي فترة الخمسينيات والستينيات، شهدت كيهان توسعا كبيرا، ليس فقط في نطاق تغطيتها الإخبارية، بل أيضا في بنيتها المؤسسية، حيث أطلقت الصحيفة نسخا خاصة مثل كيهان للأطفال وكيهان الدولية، وهي النسخة الإنجليزية الموجهة للجمهور العالمي، ما أتاح لها توسيع دائرة قرائها لتشمل الجمهور غير الناطق بالفارسية داخل إيران وخارجها، وخلال هذه الفترة، برزت كيهان كمنصة حيوية للنقاش العام، واستقطبت عددا من أبرز الصحفيين والمفكرين الإيرانيين.
ومع بداية السبعينيات، بدأت الصحيفة تعكس بشكل متزايد، سياسات الدولة الإيرانية تحت حكم الشاه محمد رضا بهلوي، ما أدى إلى انتقادات من بعض الفئات، التي اعتبرت أن الصحيفة تخلت عن حيادها وانحازت إلى السلطة. ومع ذلك، استمرت “كيهان” في لعب دور بارز في تشكيل الرأي العام، وظلت منبرا رئيسيا للأخبار والتحليلات، وذلك وفق تقرير وكالة أنباء البسيج الصادر في 27 مايو/أيار 2017.
ووفقا للتقرير، فبعد قيام الثورة الإيرانية عام 1979 بزعامة الخميني وانتصارها، شهدت “كيهان” تحولا جذريا في ملكيتها وتوجهها التحريري، فبعد سفر مدير تحريرها إلى لندن بعد الثورة، تمت مصادرتها من قبل الدولة وأصبحت خاضعة لسيطرة الحكومة، ما أدى إلى تغييرات كبيرة في محتواها ونهجها. تحولت الصحيفة إلى ناطقة باسم النظام الجديد، وتبنت سياسات تحريرية تعكس توجهات النظام الإيراني، كما توسع نطاق عملها ليشمل تعزيز الخطاب الثوري داخل إيران وخارجها من خلال نسختها الدولية.
وفي مايو/أيار من العام 1980، أصدر الخميني مرسوما عيّن فيه إبراهيم يزدي مديرا لمؤسسة كيهان، وفي المرسوم، أشار الخميني إلى أهمية الصحافة ودورها في بناء المجتمع، معبّرا عن الحاجة إلى إجراء إصلاحات جذرية في الصحف التي لا تسير على نهج الثورة، مؤكدا ضرورة استبعاد العناصر المنحرفة التي تؤثر سلبا على الإعلام الجماهيري. وفي نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه عُيِّن محمد خاتمي مديرا لصحيفة كيهان بمرسوم جديد من الخميني، وذلك وفقا لتقرير صحيفة آرمان ملي الصادر بتاريخ 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2022.
ووفقا للتقرير، فقد تولى بعد ذلك إدارة الصحيفة شخصيات مثل سيد محمد أصغري ومهدي نصيري بأوامر من خامنئي وقتها، ولكن التحول الأكبر الذي شهدته الصحيفة بعد الثورة كان على يد حسين شريعتمداري، حيث تولى رئاسة تحرير الصحيفة في عام 1993، ومعه أصبحت الصحيفة الناطقَ بلسان المرشد، الأمر الذي استمر حتى الوقت الحالي، فشريعتمداري، الذي يعتبر أحد المقربين من المرشد الأعلى، كان له دور أساسي في جعل الصحيفة تعكس المواقف السياسية للنظام الإيراني.
ومنذ أن تولى شريعتمداري رئاسة التحرير، أصبحت “كيهان” تمثل لسان حال النظام الأصولي في إيران، حيث بدأت الصحيفة تتخذ مواقف حادة تجاه القضايا السياسية الداخلية والخارجية، متمسكة بشدة بمبادئ التيار، كما كانت تدافع عن سياسة إيران الإقليمية، خاصة في ما يتعلق بدعم المقاومة الفلسطينية والرفض الصارم للتطبيع مع إسرائيل، فضلا عن الدعوة إلى استقلال إيران الكامل في المجالات السياسية والاقتصادية.
أبرز الشخصيات الإصلاحية التي هاجمتها “كيهان”:
كان لصحيفة كيهان صدامات كثيرة مع العديد من الشخصيات الإصلاحية، سواء تلك التي تولت السلطة في إيران أو كان لها رأي مسموع، وكان محمد خاتمي، الرئيس الإصلاحي السابق الذي تولى المنصب من العام 1997 وحتى العام 2005، من أبرز الشخصيات الإصلاحية التي تعرضت للانتقاد الشديد، فعلى الرغم من توليه رئاسة تحرير الصحيفة سابقا، فإن ذلك لم يشفع له، فخلال فترة رئاسته، شنت “كيهان” حملات انتقادية مكثفة ضد خاتمي، واصفةً إياه بأنه ضعيف في مواجهة التغلغل الثقافي الغربي ومتهمةً حكومته بتقديم تنازلات تهدد الاستقلال السياسي والاقتصادي للبلاد. وكانت الصحيفة تنتقد بشدةٍ سياسات الانفتاح التي تبناها، مثل دعم الصحافة الحرة والانتخابات النيابية الأكثر تنافسية. كما ركزت على اتهاماته بمحاولة تهميش التيار المحافظ وتقوية نفوذ الشخصيات الإصلاحية التي تتعارض رؤيتها مع أيديولوجية النظام، وذلك وفقا لتقرير صحيفة كيهان الصادر بتاريخ 4 فبراير/شباط 2018.
وبعد انتهاء فترة رئاسته في 2005، لم يتوقف هجوم “كيهان”، بل ازداد حدّة، خاصة مع استمرار خاتمي في دعم الحركات الإصلاحية. وقد لعبت الصحيفة دورا بارزا في التحريض ضد الثورة الخضراء عام 2009، والتي كان خاتمي أحد داعميها الرئيسيين. اتهمته الصحيفة بدعم ما وصفته بـ”الفتنة”، ومحاولة تقويض استقرار النظام. وعلى مدى العقد الأخير، استمرت “كيهان” في مهاجمة خاتمي، واصفةً إياه بأنه أحد رموز التواطؤ مع الغرب. وقد شنت حملة إعلامية واسعة ضده، داعية إلى منع ظهوره الإعلامي ومشاركة آرائه السياسية. وفي كل أزمة سياسية أو اجتماعية، تعيد الصحيفة توجيه أصابع الاتهام نحو فترة حكم خاتمي، معتبرةً أن سياساته الإصلاحية فتحت الباب أمام التآمر الأجنبي، وذلك وفقا لتقرير موقع دنياي اقتصاد الصادر بتاريخ 19 مايو/أيار 2021.
كذلك فقد شنت الصحيفة الأصولية هجوما على محمود أحمدي نجاد الرئيس الإيراني الأسبق، فعلى الرغم من أن نجاد بدأ حياته السياسية كرئيس جمهورية مدعوم من التيار الأصولي، وضمن ذلك صحيفة كيهان التي دعمت صعوده إلى السلطة في انتخابات 2005، فإن علاقته مع هذه الصحيفة تحولت تدريجيا إلى علاقة تصادمية. فخلال ولايته الأولى، دعمت “كيهان” سياسات أحمدي نجاد الاقتصادية والشعارات التي كان يرفعها، مثل محاربة الفساد وتعزيز العدالة الاجتماعية. كما أيّدت موقفه المتشدد في الملف النووي وخطابه المناهض للغرب. ومع ذلك، بدأت ملامح الخلاف تظهر تدريجيا في ولايته الثانية، خاصة بعد إعادة انتخابه المثيرة للجدل عام 2009، وذلك وفقا لتقرير موقع فرارو الإخباري بتاريخ 26 مايو/أيار 2011.
إحدى أبرز نقاط التحول في علاقة “كيهان” مع نجاد كانت دعمه لبعض الشخصيات المثيرة للجدل داخل حكومته، مثل أسفنديار رحيم مشائي، الذي اتهمته الصحيفة بترويج أفكار انحرافية تتعارض مع المبادئ الإسلامية. شنت الصحيفة حملة شرسة ضد مشائي وأحمدي نجاد، متهمةً الأخير بالسماح بانتشار أفكار غير متوافقة مع قيم الثورة الإسلامية، وذلك وفقا لتقرير موقع خبر أونلاين الإخباري بتاريخ 23 أبريل/نيسان 2013.
وخلال السنوات الأخيرة من ولايته الثانية، تصاعدت الانتقادات الموجهة من “كيهان” ضد أحمدي نجاد، خاصة في ما يتعلق بسياساته الاقتصادية التي وُصفت بأنها شعبوية وغير مدروسة، مثل توزيع الدعم النقدي المباشر، والتي زادت من التضخم وأثقلت الاقتصاد الإيراني. كما انتقدت الصحيفة رفض أحمدي نجاد الامتثال لبعض قرارات المرشد الأعلى علي خامنئي، وهو ما اعتبرته الصحيفة خروجا عن خط الثورة وعدم احترام للقيادة.
وقد عُرف علي لاريجاني، السياسي البارز والمسؤول السابق بعدة مناصب حكومية في إيران، بعلاقته المعقدة مع التيار الأصولي، وعلى وجه الخصوص صحيفة كيهان، التي لم تتردد في توجيه انتقادات لاذعة إليه خلال مسيرته السياسية، فعلى الرغم من أن لاريجاني يوصف بأنه صاحب اتجاه اصولي معتدل، فإن آراءه المعارضة للمرشد لم تكن بمأمن عن الانتقاد.
بدأت الانتقادات المباشرة من “كيهان” تجاه لاريجاني خلال فترة رئاسته للبرلمان، خاصة عندما تبنى مواقف تسعى إلى حلحلة بعض الأزمات الداخلية والخارجية من خلال الحوار والتفاهم. اتهمته الصحيفة بتقديم تنازلات تتعارض مع مصلحة النظام، مثل دعمه النسبي للاتفاق النووي، وتسهيله تمرير قوانين اقتصادية اعتبرتها “كيهان” متأثرة بالسياسات الغربية، وذلك وفقا لتقرير جريدة انتخاب الصادر في 31 مايو/أيار 2024.
ووفقا للتقرير، فإن إحدى أبرز محطات الخلاف بين “كيهان” ولاريجاني كانت خلال المناقشات البرلمانية المتعلقة بالاتفاق النووي عام 2015، حيث وجهت الصحيفة انتقادات حادة إليه، معتبرةً أنه تجاهل أصوات المعارضة المتشددة للاتفاق وساهم في تمكين حكومة روحاني من تمرير الاتفاق بسهولة. كما رأت أن إدارته للبرلمان افتقرت إلى الحزم في مواجهة الخطط الاقتصادية التي وصفتها بالضارة.
ومن بين الشخصيات التي كانت هدفا دائما للصحيفة، محمد جواد ظريف، النائب الحالي لرئيس الجمهورية، حيث شنت هجوما مستمرا عليه منذ توليه منصبه كوزير للخارجية في حكومة حسن روحاني عام 2013 وحتى بعد توليه منصبه الحالي مع الرئيس مسعود بزشكيان.
وقد ركزت الصحيفة في هجماتها على ظريف، بسبب ما وصفته بـ”تنازلاته المفرطة” خلال المفاوضات النووية، حيث اعتبرت “كيهان” أن الاتفاق النووي، الذي لعب ظريف دورا محوريا في إبرامه، كان خيانة للمصالح الوطنية، مدعيةً أنه قدم تنازلات كبيرة مقابل وعود غير مضمونة من الغرب، خاصةً الولايات المتحدة. كان هذا الموقف يعكس قناعة التيار المتشدد بأن أي تفاهم مع الغرب، خاصةً أمريكا، انحراف عن مبادئ الثورة، وذلك وفقا لتقرير موقع دنياي اقتصاد الصادر بتاريخ 12 ديسمبر/كانون الأول 2016.
إحدى أبرز نقاط الهجوم الأخرى كان تصريح ظريف الذي قال فيه إن أمريكا تستطيع تدمير إيران بضربة واحدة، وهو ما استخدمته “كيهان” لإظهاره كشخص يفتقر إلى الثقة بقدرات بلاده. كما انتقدت الصحيفة تصريحاته التي اعتبرتها متناقضة مع توجهات القيادة الإيرانية، مثل تعليقه بأن الولايات المتحدة ليست عدوة دائمة، مشيرة إلى أن هذه التصريحات تخالف مواقف المرشد الأعلى.
ومؤخرا شنت الصحيفة هجوما حادا على ظريف، بسبب توليه منصبه الحالي في حين أن قانون تعيين الشخصيات الحساسة ينص على أن من يحمل هو أو زوجته أو أحد أبنائه جنسية أجنبية، لا يمكنه أن يتولى منصبا حساسا في الدولة، وذلك وفقا لموقع فرارو الإخباري الصادر بتاريخ 3 سبتمبر/أيلول 2024.