كتب: علي رضا فقيهي راد
ترجمة: علي زين العابدين برهام
معمر محمد أبو منيار القذافي، المعروف بالزعيم الليبي الراحل، هو من قاد انقلابا عسكريا في مطلع سبتمبر/أيلول عام 1969، أطاح خلاله بحكم الملك محمد إدريس السنوسي، ليبدأ حقبة حكم امتدت لأكثر من أربعين عاما.
كان يُلقب بـ”ثائر العرب”، ووقف ضد الشاه الإيراني، وناهض الثورة الإسلامية في إيران، كما كان من أشد المنتقدين للسياسات الأمريكية، حتى إنه نشر على نفقته الخاصة ميثاق منظمة الأمم المتحدة اعتراضا على مواقفها.
لكن، وعلى الرغم من مواقفه الصلبة، اختار لاحقا أن يتقرب من الغرب، وبدلا من المواجهة، دعا الولايات المتحدة إلى التفاوض. فسلم برنامجه النووي والصاروخي، وعقد صفقات ثقيلة مع الولايات المتحدة، وتنازل عن كل شيء دون مقابل.
ومع ذلك، ما الذي كان مصيره؟
الذين منحوه الوعود الأمنية ووقع معهم الاتفاقات، شاركوا في الإطاحة به، وأسقطوا نظامه، ثم قتلوه بوحشية!
في 21 ديسمبر/كانون الأول 1988، تنفجر طائرة تابعة لشركة “بان أمريكان” الجوية، كانت في طريقها من لندن إلى نيويورك فوق بلدة لوكربي الأسكتلندية، مما أدى إلى مقتل 259 راكبا و11 شخصا من سكان المنطقة.
تُتهم ليبيا بأنها المسؤول الرئيسي عن هذه الحادثة، ويُشار إليها في وسائل الإعلام بـ”حادثة لوكربي”. في هذا الشأن، يقول القذافي: “نقدّر أن عدونا ليس الولايات المتحدة فقط، بل إن كل أعدائنا يعرفون أن الولايات المتحدة هي من يمنحهم الإذن بتهديدنا، وإذا لم تكن الولايات المتحدة إلى جانبهم، فلن يتجرؤوا على القيام بذلك. هذه ستكون آخر جرائم الولايات المتحدة القذرة”.
تطالب الولايات المتحدة بتسليم عميلين أمنيين ليبيين، لكن القذافي يرفض هذا الطلب، ويعتبره إهانة لسيادة ليبيا. تقوم الولايات المتحدة بإحالة القضية إلى مجلس الأمن الدولي. في 21 يناير/كانون الثاني 1992، يطلب مجلس الأمن عبر القرار 731 من ليبيا تسليم المتهمَين ووضع تعويضات لأسر ضحايا الطائرة. وبعد شهرين، وبموجب القرار 748، يُفرض على ليبيا حظر جوي وتسليحي شامل.
تُمنح الحكومة الليبية مهلة أسبوعين إما لقبول مسؤولية تفجير لوكربي وإما مواجهة عقوبات شاملة. ويصف ستيفن هادلي، مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض آنذاك، هذه القضية بأنها حيلة جديدة لممارسة مزيد من الضغط، ويقول: “هذه حيلة جديدة لفرض ضغوط إضافية. نحن نضع معارضينا تحت الضغط. من لا يشكلون لنا مشكلة، نُبعدهم عن العالم، ونضعهم في عزلة، ويُقصَون، إلا إذا أرادوا التحدث معنا بلغتنا نحن”.
يتجاوز القذافي الأزمة كالعادة بابتسامة لا تعبّر عن اهتمام. وبعد مرور عشرين شهرا من الضغوط الأمريكية المتواصلة على مجلس الأمن، يصدر الأخير القرار رقم 883 في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1993، ليُشدّد العقوبات المفروضة على ليبيا. شملت هذه العقوبات تجميدا جزئيا للأصول الليبية، إضافة إلى حظر تصدير المعدات النفطية إليها.
ولم تتوقف الضغوط الأمريكية عند هذا الحد، ففي 5 أغسطس/آب 1996، أقرّ الكونغرس الأمريكي قانون عقوبات إيران وليبيا (ILSA)، المعروف أيضا بقانون داماتو، وقّعه الرئيس كلينتون. ومنح هذا القانون الرئيس سلطة فرض عقوبات على الشركات الأجنبية التي تستثمر أكثر من 40 مليون دولار سنويا في القطاع النفطي الليبي.
أما نظام القذافي، الذي يعتمد اقتصاده بالكامل على عائدات النفط دون أي تنويع، ويحكم البلاد دون سند شعبي أو إصلاحات داخلية فعلية، فقد حاول اللجوء إلى الدول العربية طلبا للدعم، لكنّه قوبل بالرفض.
وفي خضمّ هذه الأزمات، زادت الولايات المتحدة من ضغوطها، وراحت تلوّح بخيار الضربة العسكرية. وجاء تصريح كلينتون صريحا: “عليهم أن يعلموا أن صبرنا ليس بلا حدود. قد يكون الحل الأسهل لأزمتنا مع ليبيا هو الضربة العسكرية، لكننا نفضّل منحهم فرصة أخيرة”.
في النهاية، بدأ العقيد القذافي مفاوضات سرية ودبلوماسية خفية مع أجهزة الاستخبارات البريطانية والأمريكية. وقد تجلّى تغيير سلوكه بشكل واضح في 5 أبريل/نيسان 1999، عندما سلّمت ليبيا اثنين من المشتبه بهما في تفجير طائرة شركة “بان أمريكان” الرحلة رقم 103 (التي تشير التقارير إلى تورط عناصر استخباراتية ليبية فيها) إلى السلطات الهولندية للمحاكمة. كما وافقت ليبيا على دفع تعويضاتٍ قدرها عشرة ملايين دولار لكل ضحية من ضحايا حادثة لوكربي، ليصل المجموع إلى ملياري وسبعمائة مليون دولار.
وبعد شهر واحد، في مايو/أيار 1999، كشف “مارتن إنديك” (مساعد وزير الخارجية الأمريكي آنذاك)، أن المسؤولين الليبيين قدموا خلال المحادثات السرية مع الولايات المتحدة اقتراحا بتفكيك برنامج الأسلحة الكيميائية.
وواصلت الولايات المتحدة ضغوطها، ففي 3 أغسطس/آب 2002، مدّدت قانون “داماتو” ليمتدّ تأثير العقوبات المفروضة على إيران وليبيا لخمس سنوات إضافية.
في 12 سبتمبر/أيلول 2003، اتخذ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، قرارا تاريخيا بإلغاء العقوبات المفروضة على ليبيا، حيث حظي القرار بتأييد 13 دولة، بينما امتنعت كل من الولايات المتحدة وفرنسا عن التصويت.
جاء هذا القرار تتويجا لسلسلة من الخطوات التي أقدمت عليها ليبيا، أهمها الموافقة على دفع تعويضات سخية لعائلات ضحايا حادثة لوكربي، والاعتراف الرسمي بمسؤوليتها عن التفجير الإرهابي.
لكن الموقف الأمريكي ظل متشددا، حيث استمرت واشنطن في التشكيك بنوايا النظام الليبي. فعلى الرغم من الموافقة على زيادة تعويضات ضحايا لوكربي، رأى المسؤولون الأمريكيون أن هذه الخطوات غير كافية. وسرعان ما بدأت الإدارة الأمريكية تطرح مطالب جديدة، أبرزها التخلي الكامل عن أي برنامج نووي، بحجة مخاوفها من نوايا ليبيا العدائية المحتملة.
وفي هذا السياق، صرح جيمس كانينجهام، السفير الأمريكي لدى إسرائيل آنذاك، بأن بلاده لن ترفع العقوبات عن ليبيا ما دامت هناك مخاوف من سعيها لتطوير أسلحة الدمار الشامل. كما أكد جون بولتون، ممثل الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، ضرورة منع ليبيا من امتلاك أي منشآت نووية.
أما على الصعيد الداخلي، فقد وجد القذافي نفسه في موقف بالغ الحرج. فاقتصاد البلاد الذي يعتمد بشكل شبه كامل على عائدات النفط كان يعاني من وطأة العقوبات. كما أن شرعيته السياسية كانت تتآكل يوما بعد يوم بسبب فقدان الثقة الشعبية. وقد زاد من مخاوفه الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، مما دفعه إلى التعبير عن خشيته من أن تكون ليبيا الهدف التالي.
في النهاية، اختار القذافي الاستمرار في سياسة التنازلات للغرب، بدلا من العمل على إصلاح الأوضاع الداخلية المتردية. وقد عبر عن مخاوفه بقوله: “من يعلم؟ قد تكون ليبيا هي الضحية القادمة. اليوم العراق، وغدا ليبيا، وبعدها دول أخرى”.
في خطوة واضحة للضغط على ليبيا، وضعت الولايات المتحدة شروطا صارمة لرفع العقوبات عنها. طالبت واشنطن بتدمير كافة المنشآت والمعدات النووية الليبية دون استثناء، وإيقاف جميع برامج البحث والتطوير في المجال النووي، إضافة إلى منح مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية صلاحيات مطلقة للتفتيش في أي موقع دون قيود أو شروط.
جاء على لسان الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش، تصريح واضح بهذا الخصوص: “إن القرار الأمثل للقادة الليبيين هو التعاون الكامل مع المجتمع الدولي. يجب عليهم إثبات جديتهم من خلال خطوات عملية تبدأ بالتخلي الفوري عن البرنامج النووي. عندها سنعمل على دمج ليبيا في المنظومة الاقتصادية العالمية كشريك تجاري مقبول”.
استجابة لهذه الضغوط، أقدمت ليبيا في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2003 على خطوة غير مسبوقة، حيث أعلن وزير خارجيتها في بيان رسمي، القبول الكامل بجميع الشروط الأمريكية. تضمن البيان التزاما بتسليم كامل ترسانة الأسلحة غير التقليدية وضمنها النووية والكيميائية، والتوقيع على البروتوكول الإضافي للوكالة الذرية الذي يوسع صلاحيات التفتيش، كما تعهدت بتقليص القدرات الصاروخية عبر خفض مدى صواريخها إلى 300 كيلومتر فقط.