كتب: سید نیما موسوی
ترجمة: علي زين العابدين برهام
في العالم المعاصر، أصبحت الانتخابات جزءا لا يتجزأ من الحياة السياسية للدول، واكتسبت الحملات الانتخابية أهمية غير مسبوقة، في الماضي، كانت هذه الحملات تعتمد بشكل أساسي على وسائل الإعلام التقليدية مثل الصحف والمجلات، أما اليوم، وفي عصر شبكات التواصل الاجتماعي، فقد باتت عاملا حاسما في توجيه الرأي العام وحسم النتائج الانتخابية.
لم تعد الحملات الانتخابية مجرد وسيلة دعائية، بل أصبحت ساحة تتقاطع فيها مصالح الممولين، وإدارة الرأي العام عبر الشبكات الاجتماعية، وصناعة الهوية السياسية للمرشحين. وعلى المستوى العالمي، يلعب مديرو الحملات الانتخابية الناجحون دورا محوريا في فوز المرشحين، ويتجلى هذا الدور بأوضح صوره في الانتخابات الأمريكية، حيث تتداخل مصالح المستثمرين مع النفوذ الهائل لمنصات التواصل الاجتماعي.
على سبيل المثال، كان نجاح حملة جورج بوش في انتخابات 2000 و2004، مدينا إلى حد كبير لإدارة “إد جيليسبي”، الذي قاد بوش إلى تحقيق انتصارات حاسمة، بدءا من التجمعات الانتخابية وحتى إعادة فرز الأصوات في فلوريدا عام 2000. وبالمثل، كان نجاح حملة باراك أوباما عام 2008 إلى حد بعيد، ثمرة التخطيط الاستراتيجي لديفيد بلوف، الذي أدار الحملة بمهارة فائقة.
ومن اللافت أن جيليسبي وبلوف، اللذين قادا حملات انتخابية ناجحة في ثلاثة انتخابات رئاسية مختلفة، نجحا لاحقا في توظيف مهاراتهما في مجالات أخرى؛ حيث تحول جيليسبي إلى أحد أبرز جماعات الضغط السياسي والتجاري، بينما شغل بلوف منصب نائب مارك زوكربيرغ، وتولى إدارة حملة كامالا هاريس في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024.
في إيران، بدأت أهمية إدارة الحملات السياسية تبرز بوضوح منذ انتخابات عام 1997، حيث كان فوز محمد خاتمي، رغم منافسته أكبر ناطق نوري، رئيس البرلمان آنذاك والمدعوم من وسائل الإعلام الرسمية، نتيجة مباشرة لحملة انتخابية مُحكمة التنظيم.
قاد هذه الحملة سعيد حجاريان، أحد نواب وزارة الاستخبارات السابقين، الذي نجح في تقديم صورة إعلامية مميزة عن خاتمي، مكّنته من استقطاب دعم واسع من مختلف شرائح المجتمع، من القرى إلى المدن، ومن المعارضين إلى أنصار النظام.
ومن بين أنجح الحملات الانتخابية في إيران، برزت حملة حسن روحاني عام 2017، التي اتخذت اللون البنفسجي شعارا لها، ونجحت في حصد 24 مليون صوت. تمكنت هذه الحملة من استقطاب دعم واسع، شمل كبار رجال الدين ومكاتب المراجع، إضافة إلى المجتمع المدني، والمشاهير، وأنصار الحركة الخضراء، وحتى بعض فئات المعارضة. وقد تولى إدارتها حسام الدين آشنا، المستشار الأمني لروحاني.
يُعد محمد رضا جلائي بور أحد أنجح مديري الحملات الانتخابية في إيران منذ عام 2009. وهو نجل حميد رضا جلائي بور، أحد القادة القدامى في الحرس الثوري الإيراني خلال الثمانينيات، وقد تخصص في علم الاجتماع من جامعة أكسفورد.
برز اسمه لأول مرة في انتخابات 2009، حيث كان أحد مديري حملة مير حسين موسوي، كما قاد حملة “الموجة الثالثة”، التي هدفت إلى إقناع محمد خاتمي بالترشح للرئاسة، لكنها تحولت لاحقا إلى حملة دعم رسمية لموسوي بعد انسحاب خاتمي. في أعقاب الانتخابات، اعتُقل جلائي بور من قبل الأجهزة الأمنية، وقضى عامي 2009 و2010 في السجن، فيما لعبت زوجته السابقة، فاطمة شمس، المقيمة في بريطانيا، دورا بارزا في الحملات الاحتجاجية ضد اعتقاله.
في انتخابات 2013 و2017، كان دوره محدودا، إذ أُسندت إدارة الحملة الانتخابية للمرشح الإصلاحي إلى فريق من المستشارين الأمنيين المقربين من حسام الدين آشنا. غير أن ذروة نشاطه السياسي جاءت بعد انتخابات 2021 وفوز إبراهيم رئيسي، حيث كان له دور محوري في احتجاجات 2022 ضد قانون الحجاب الإجباري. بدأ ذلك من خلال إطلاق مشاريع إعلامية لاختبار الرأي العام، ثم بلغ ذروته بعد وفاة مهسا أميني، حيث كان جلائي بور المهندس الأساسي لحملة “مهسا أميني” عام 2022.
ويُقال إن هاشتاغ “مهسا أميني” سجل رقما قياسيا عالميا غير مسبوق بلغ 400 مليار تكرار على منصات التواصل الاجتماعي، ما دفع العديد من المشاهير العالميين إلى دعمه. ومن رحم هذه الحملة، اندلعت موجة احتجاجات واسعة، أدت إلى تراجع تأثير القيم الدينية في الحياة العامة داخل إيران.
رغم اعتقاله، خرج جلائي بور من السجن بعد عام واحد، ليعود بقوة في انتخابات 2024 كأحد الاستراتيجيين الرئيسيين في حملة مسعود بزشكيان. وقد اعتمدت استراتيجيته الأساسية على استقطاب أصوات الأقليات العرقية، مثل الأكراد، والعرب، والبلوش، وهي الفئات التي شكل دعمها ركيزة أساسية في فوز بزشكيان بالانتخابات.
يُعد محمد رضا جلائي بور اليوم أحد أبرز الاستراتيجيين الإصلاحيين في إيران، حيث ينتمي إلى جيل من السياسيين الذين انتقلوا بعد الحرب الإيرانية-العراقية من اليسار الإسلامي الكلاسيكي في الثمانينيات إلى تبني أفكار أكثر انفتاحا، متأثرين بأطروحات عالم الاجتماع البريطاني أنتوني جيدنز.
هذه الموجة الفكرية، التي ظهرت في حزب العمال البريطاني خلال التسعينيات ولعبت دورا محوريا في فوز توني بلير في انتخابات 1997، وجدت صداها في إيران، حيث تبلورت مع استكمال سعيد حجاريان وحميد رضا جلائي بور (والد محمدرضا) دراستهما العليا. ومع نهاية التسعينيات، بدا حزب “مشاركت”، المقرب من محمد خاتمي، شبيها إلى حد كبير بحزب العمال البريطاني في تلك الفترة، وهو ما كان نتاجا مباشرا لهذا التحول الفكري.
في إيران، شكّل تيار أنتوني جيدنز نسخة محدثة من تيار “حلقة جامعة تربية مدرس”، التي ضمت نخبا أكاديمية درست العلوم الإنسانية وتأثرت باليسار الإسلامي الكلاسيكي، وكانت مقربة من ميرحسين موسوي، ومع ذلك، فإن الخط الفكري الذي تبناه حميد رضا ومحمد رضا جلائي بور ضمن تيار جيدنز كان يحمل انتقادات ضمنية لحلقة “تربية مدرس”.
إحدى أبرز نقاط الخلاف بين تيار جيدنز وحلقة “تربية مدرس” كانت في التعامل مع الخصخصة الاقتصادية؛ حيث تبنى تيار جيدنز رؤية أكثر انفتاحا تجاه الخصخصة، مع الإبقاء على بعض عناصر دولة الرفاه، إلى جانب التركيز على القضايا الثقافية وحقوق الطبقة الوسطى. وقد انعكس هذا التوجه بوضوح في السياسات الاقتصادية والاجتماعية لكل من توني بلير ومحمد خاتمي، حيث جمعا بين إصلاحات السوق، ومتطلبات دولة الرفاه، والتوجهات البيئية، وذلك تحت تأثير أنتوني جيدنز، مستشار بلير، وحلقة المستشارين المحيطة بخاتمي.
حصل حميد رضا جلائي بور على منحة دراسية في التسعينيات في إطار تحول استراتيجي لإعادة توجيه اليسار الإسلامي في إيران، بهدف مواءمة توجهاتهم مع السياسات النيوليبرالية السائدة آنذاك، وذلك من خلال استكمال دراسته في بريطانيا. وبعد عودتهم، التحق العديد من هؤلاء الإصلاحيين الجدد بالمركز الرئاسي للأبحاث الاستراتيجية خلال رئاسة هاشمي رفسنجاني، حيث لعبوا دورا في صياغة سياسات الدولة آنذاك.
أما محمد رضا جلائي بور، فقد غادر إلى بريطانيا عام 2011 لمتابعة دراسته في جامعة أكسفورد، عقب إطلاق سراحه من السجن. وتُشير بعض المصادر إلى أنه أقام علاقات مع شبكة من النشطاء السياسيين المقربين من مهدي هاشمي، نجل هاشمي رفسنجاني، الذي كان في تلك الفترة ناشطا في القسم الفارسي لهيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”.
في الأيام الأخيرة، تولى محمد رضا جلائي بور منصب نائب جواد ظريف، الذي يشغل حاليا منصب نائب مسعود بزشكيان للشؤون الاستراتيجية، ويُنظر إليه على أنه “العقل المدبر” لحكومة بزشكيان.
يبدو أن أهم مشروع مشترك بين جلائي بور وظريف في المعاونية الاستراتيجية هو مشروع “الوفاق”، الذي يهدف إلى بناء تحالفات سياسية واسعة. وتشمل الدائرة التي يسعى المشروع لاستقطابها طيفا واسعا، من مؤيدي محمد باقر قاليباف، رئيس البرلمان، وصولا إلى الأحزاب الإصلاحية.
ومن بين أحدث تحركات جلائي بور، التقارب مع مجموعة “طالبو العدالة” “عدالت خواهان” وهي مجموعة من النشطاء الطلابيين والرقميين الذين كشفوا في السنوات الأخيرة عن قضايا فساد اقتصادي تورط فيها بعض المسؤولين. وفي خطوة لافتة، دعوة ميلاد كودرزي، أحد أبرز أعضاء هذه المجموعة، لحضور اجتماعات المعاونية الاستراتيجية في رئاسة الجمهورية، في ما يبدو كجزء من جهود جلائي بور لتعزيز الحوار مع بعض الفئات الداعمة للنظام، ضمن إطار مشروع “الوفاق”.