كتب: محمد بركات
لطالما كان للمرأة الإيرانية دور بارز في العديد من المجالات، حيث أثبتت حضورها في الساحة العلمية والدينية إلى جانب أدوارها الاجتماعية والثقافية. وفي الحوزات العلمية، لم تكن المرأة غائبة عن مسيرة الاجتهاد والبحث الفقهي، إذ سعت العديد من العالمات إلى بلوغ أعلى المراتب العلمية رغم التحديات القائمة. ومع ذلك، فإن مسألة تولي المرأة لمنصب المرجعية لا تزال محل جدل واسع، حيث تتباين الآراء بين المؤيدين والمعارضين قديما وحديثا.
ففي البداية تجب الإشارة إلى أن المرجعية في المذهب الشيعي تعني القيادة الدينية العليا التي يتمثل دورها في إصدار الفتاوى الشرعية وتوجيه أتباع المذهب في القضايا الفقهية والاجتماعية، ويُطلق على الشخص الذي يتولى هذا المنصب “المرجع الديني أو مرجع التقليد”، وهو فقيه بلغ درجة الاجتهاد المطلق، مما يؤهله لاستنباط الأحكام الشرعية من المصادر الأساسية، وهي القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والعقل.
ويتبع الشيعة مبدأ التقليد، حيث يجب على غير المجتهد الرجوع إلى المرجع في الأحكام الدينية. ويشترط في المرجع أن يكون الأعلم بين الفقهاء، أي الأكثر قدرة على الاستنباط، إلى جانب تمتعه بالعدالة والتقوى، وتعد المرجعية الشيعية مؤسسة دينية ذات تأثير كبير، ليس فقط في الشؤون الفقهية، بل أيضا في القضايا الاجتماعية والسياسية، حيث كان لها دور بارز في العديد من الأحداث التاريخية التي مرّ بها العالم الإسلامي.
والمقصود عند الحديث عن دور المرأة ومكانتها في هذا المجال هو مرجعية النساء في الفقه الإسلامي، فرغم أن العديد من النساء الإيرانيات يدرسن في الحوزات العلمية، بل ويصلن إلى مرتبة الاجتهاد ويُطلق عليهن لقب مجتهدة، فإنه حتى أواخر عام 2024 وأوائل 2025، لم تتمكن أي امرأة من بلوغ مقام المرجعية، أي إننا حتى الآن لم نشهد وجود امرأة كمرجع تقليد في التاريخ الإسلامي الشيعي.
جدير بالذكر أن مسألة مرجعية النساء ليست جديدة، فقد طُرحت مرارا في الفقه الإسلامي وفي الأوساط الحوزوية على مر العصور، بل أُثيرت عدة مرات بعد الثورة الإيرانية، حيث عبّر العديد من العلماء عن تأييدهم أو معارضتهم لهذه الفكرة.
فمؤخرا، أعاد المرشد الإيراني، علي خامنئي، هذا النقاش إلى الواجهة خلال لقاء جمعه بفئات مختلفة من النساء في 17 ديسمبر/كانون الأول 2024، حيث قال: “اليوم، ولحسن الحظ، هناك عدد غير قليل من النساء اللاتي بلغن درجة الاجتهاد الفقهي، وأنا أعتقد أن في كثير من المسائل المتعلقة بالنساء، والتي قد لا يدركها الرجال بشكل دقيق، ينبغي أن يكون للمرأة الحق في تقليد مجتهدة من النساء”.
أثار هذا التصريح موجة من ردود الفعل، كان من أبرزها ما قاله محمد علي أيازي، أحد العلماء البارزين وأستاذ في الحوزة العلمية، خلال مقابلة أجراها في 19 يناير/كانون الثاني 2025، حيث أكد أن عدد الكاتبات والداعيات والباحثات بالحوزات العلمية مرتفع، إلا أن عدد النساء اللاتي بلغن درجة الاجتهاد محدود للغاية. وأرجع ذلك إلى الطبيعة التقليدية المحافظة في الحوزات، حيث لا يزال بعض الأساتذة والعلماء يتحفظون على مشاركة النساء في المجال العلمي.
وأضاف أيازي أنه شهد بنفسه كيف قوبل اقتراح بإضافة مجتهدتين إلى إحدى الجمعيات العلمية المهمة في الحوزة بالرفض العام، رغم أن أعضاء هذه الجمعية يُعتبرون من المفكرين المنفتحين، كما أشار إلى حادثة أخرى، حيث كانت إحدى العالمات تلقي كلمة في مؤتمر علمي في قم، لكن الحضور من الرجال تعمدوا النظر إلى الأرض؛ تجنبا لرؤيتها أثناء حديثها، مؤكدا أن هذه البيئة التي تستهجن حتى صوت المرأة أو مقالاتها العلمية وتقلل من شأنها، تمثل عائقا كبيرا أمام تقدم المجتهدات.
معارضة مرجعية النساء
قوبلت مرجعية الناس في إيران بالعديد من الانتقادات والمعارضات، من ضمنها ما قاله أبو القاسم الخوئي، أحد أكبر رجال الدين الشيعي المشهورين والمتوفى في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، في هذا الصدد، حيث أفتى بأن “الحقيقة هي أن المرجع الديني يجب أن يكون رجلا، ولا يجوز بأي حال من الأحوال تقليد النساء، فقد استنتجنا ذلك من روح الشريعة، إذ إن الواجب المطلوب من النساء هو الحجاب والعفة والقيام بشؤون المنزل، وليس الانخراط في أمور أخرى، والمرجعية لا تتناسب مع هذا الواجب”، وهذا وفقا ما جاء في كتابه التنقيح في شرح العروة الوثقى”.
أما في العصر الحديث، فقد قال محمد جواد فاضل لنكراني، أحد رجال الدين الشيعة الكبار، خلال حديث صحفي في ديسمبر/كانون الأول 2017، في ما يخص هذه المسألة: “يبدو أن مسألة المرجعية تُعدّ من أبعاد الزعامة في المذهب الشيعي، وحيث إن الزعامة كانت دائما موكولة إلى كبار رجال التشيع، فإن الله، من منطلق تكريمه واحترامه للمرأة، قد رفع عنها هذه المسؤولية الثقيلة والخطيرة”.
وبشكل عام، فإن الأسباب التي يذكرها معارضو مرجعية النساء تستند إلى بعض الآيات والروايات. فعلى سبيل المثال، يستدلون بالآية 34 من سورة النساء، والآية 228 من سورة البقرة، والآية 33 من سورة الأحزاب، كما يستندون أيضا إلى بعض الأحاديث، وأحيانا إلى الإجماع بعد العلماء.
المؤيدون لمرجعية النساء
يرى المؤيدون أن عدم اشتراط الذكورة في الإفتاء كان أمرا متفقا عليه حتى عصور قريبة، وبعد ظهور المعارضة، بدأ المدافعون عن الفكرة بإثبات شرعيتها استنادا إلى القرآن والسنة.
كما استند أصحاب هذا الرأي إلى أقوال بعض العلماء، مثل مرتضى مطهري، الذي أكد أنه لا يوجد دليل فقهي قطعي على أن الإفتاء مقتصر على الرجال، بل ذهب إلى القول بأن المرأة إذا كانت أعلم من الرجال وامتلكت شروط المرجعية، فإن تقليدها يصبح واجبا.
وفي العصر الحديث، دعم آية الله عبد الله جوادي آملي الفكرة، مؤكدا أن النساء يمثلن نصف المجتمع، ومن الممكن أن تصل إحداهن إلى مرتبة علمية تُمكّنها من أن يكون طلابها من المراجع الذكور. وأشار إلى أن الإسلام لم يمنع النساء من بلوغ هذه المرتبة، مؤكدا أن الظروف الاجتماعية الحديثة تتيح للمرأة أن تكون مطلعة على كل جوانب الحياة، عكس الماضي حين كانت النساء منعزلات عن المجتمع.
كما دافعت بعض العالمات في الحوزة العلمية عن هذه الفكرة، مثل خديجة هاشمي، الأستاذة في جامعة الزهراء، التي استشهدت بحادثة تاريخية تُظهر أن هناك نساء أخذت فتواهن لما هو مشهود لديهن من تقوى ومعرفة دينية.
نساء بلغن الاجتهاد في إيران
على الرغم من الصعوبات التي تواجه المرأة في ذلك المجال، فإن هناك عدة سيدات برزن في الحوزة العلمية، كان على رأسهن بانو أمين، حيث تُعتبر هذه المرأة التي أتت من أصفهان واحدة من المجتهدات المعروفات، فقد تمكنت خلال حياتها من بلوغ درجة الاجتهاد، وحصلت على إجازة الاجتهاد من بعض العلماء البارزين، وقد توفت بانو أمين في العام 1983 وتمكنت من إخراج جيل من المجتهدات.
كذلك فيوجد زهراء صفاتي، وهي مجتهدة إيرانية وأستاذة في المستويات العليا بالحوزة العلمية النسائية في قم، وتُعد من المؤسسين للحوزة العلمية للنساء في قم، فمقارنة بغيرها من المجتهدات، فهي أكثر شهرة بين عامة الناس، حيث كانت لسنوات عضوا في المجلس الثقافي والاجتماعي للنساء في المجلس الأعلى للثورة الثقافية، كما تم تعيينها مستشارة للشؤون الفقهية في مكتب معاون شؤون المرأة خلال رئاسة حسن روحاني.
أيضا فيبرز أسم علوية همايوني من ضمن المجتهدات المشهورات، فقد كانت من تلميذات بانو أمين ومن أهل أصفهان أيضا، وعُرفت كفقيهة ومجتهدة شيعية معاصرة، بل تم تكريمها عام 2011م، وقبل خمسة سنوات من وفاتها، كشخصية بارزة ومؤثرة في المجال العلمي والديني.
هل يُكسر الحاجز بعد سنوات من الرفض؟
حول إمكانية كسر الحاجز أمام المرأة وتوليها منصب المرجعية، كتب سيد مهدى رفيع بور، المدرس بالحوزة العلمية بطهران، مقالا في صحيفة فرهيختجان في عددها الصادر 18 ديسمبر/كانون الأول، يقول: “إن مسألة التقليد ورجوع غير العالم إلى العالم كانت دائما مستندة إلى بناء العقلاء وسيرتهم عبر التاريخ. كما أن سيرة المتشرعة منذ صدر الإسلام حتى اليوم تدل على أن الناس كانوا يرجعون إلى أهل الخبرة والاختصاص في أمورهم الدينية، دون النظر إلى كونهم رجالا أو نساء”.
ويكمل رفيع بور: “وإذا كان الرجال في الماضي هم المتصدرين للإفتاء وإصدار الأحكام، وكان الناس يقلدونهم، فإن ذلك كان بسبب ظروف الزمان والمكان، حيث كانت النساء المجتهدات نادرات، بل إن بعض القرون لم تشهد أي تقارير عن وجود مجتهدات على الإطلاق. وحتى في الحالات التي ذُكر فيها وجود مجتهدات، فقد كان ذلك نادرا جدا، ومن غير الواضح ما إذا كان هناك إمكانية فعلية للوصول إليهن وطلب الفتاوى منهن، ذلك عكس الوقت الحالي الذي يوجد فيه عدد أكبر من النساء المجتهدات”.
ويوصي رفيع بور بأنه “يجب أن تتوافر الفرصة التعليمية للنساء كما هي متاحة للرجال، بحيث لا يكون اعتمادهن فقط على الأشرطة الصوتية أو الكتب، بل يجب أن يتمكنّ من حضور دروس الخارج إلى جانب أساتذة مجتهدين ذوي خبرة، مما يتيح لهن التفاعل العلمي المباشر ومعالجة الإشكالات التي تواجههن، وهذا من شأنه أن يساعدهن تدريجيا على اكتساب ملكة الاستنباط والوصول إلى مرتبة الاجتهاد العليا”.