كتب: محمد بركات
شهد الريال الإيراني تدهورا حادا ومستمرا على مدار السنوات الخمسين الماضية، فقد عكست قيمة العملة المتراجعة تحديات اقتصادية وسياسية متعاقبة عصفت بالاقتصاد الإيراني. فمنذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979 وحتى اليوم، واجه الاقتصاد الإيراني ضغوطا هائلة بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة من الدول الغربية، خاصةً الولايات المتحدة، والتي استهدفت قطاعات حيوية مثل النفط والغاز، تلك العقوبات قلصت من القدرة الإيرانية على التصدير وتحصيل العوائد بالعملة الأجنبية، مما زاد من الاعتماد على الاحتياطات المحلية ورفع معدل التضخم.
إضافة إلى ذلك، تسببت السياسات الاقتصادية غير المستقرة، والتي شملت الإنفاق الحكومي المفرط ودعم العملة عبر التدخلات المباشرة من البنك المركزي، في زيادة العبء على الريال الإيراني. ومع نمو تعداد السكان وتزايد احتياجات المجتمع الاقتصادية، زاد الضغط على البنية التحتية الاقتصادية المتقادمة، ما أدى إلى تفاقم الأزمة. وزادت الأوضاع الجيوسياسية التي تمر بها المنطقة الأوضاع سواء، أبرزها كانت العمليات المتبادلة مع إسرائيل.
ما العوامل التي تؤثر على سعر زيادة أو خفض سعر عملة ما؟
قبل البدء بعرض مراحل سقوط الريال الإيراني أمام الدولار، فيجب القول إن هناك عوامل أساسية مسؤولة عن زيادة أو خفض سعر عملة ما، ووفقا لتقرير موقع آموزش ساده بورس المختص بشؤون البورصة وسوق الأعمال المنشور في الأول من مايو/أيار من العام الجاري، فتلك العوامل تتلخص في:
التضخم: التضخم (inflation) هو معدل ارتفاع أسعار السلع والخدمات بمرور الوقت. إذا شهدت دولة ما، معدلات تضخم مرتفعة، فقد تنخفض قيمة عملتها مقارنة بالعملات الأخرى، إذ قد يفضل المستهلكون الاحتفاظ بعملات ذات قيمة أكثر استقرارا.
معدل الفائدة: ترتبط معدلات الفائدة (Interest rate)، بالتضخم وسعر الصرف بعلاقة وثيقة. فمن خلال تعديل معدلات الفائدة، تؤثر البنوك المركزية على التضخم وسعر الصرف، وغالبا ما تجذب معدلات الفائدة المرتفعة المستثمرين الأجانب، مما يزيد الطلب على عملة الدولة ويعزز قيمتها.
عجز الحساب الجاري: يعد الحساب الجاري (Current Account Deficits) مقياسا للتوازن التجاري لدولة من الدول، ويشمل الواردات والصادرات ودخل الاستثمارات، ووجود فائض في الحساب الجاري، أي عندما تصدر دولةٌ أكثر مما تستورد، يمكن أن يزيد الطلب على عملتها ويرفع قيمتها، بينما يؤدي العجز إلى انخفاض قيمة عملتها، فيشير العجز في الحساب الجاري، إلى أن الدولة تنفق على التجارة الخارجية أكثر من دخلها، وتعتمد على رأس المال الأجنبي لتغطية هذا العجز.
الأداء الاقتصادي القوي: يسعى المستثمرون الأجانب إلى الدول المستقرة ذات الأداء الاقتصادي القوي للاستثمار فيها، فالدول ذات الحكومات المستقرة والسياسات المتوقعة تجذب عادةً المستثمرين الأجانب، مما يزيد الطلب على عملتها ويعزز من قيمتها.
النمو الاقتصادي: يشير مصطلح النمو الاقتصادي (Economic growth) إلى زيادة إنتاج السلع والخدمات في دولة ما بمرور الوقت، ويُقاس غالبا بالناتج المحلي الإجمالي (GDP)، والذي يمثل القيمة الإجمالية للسلع والخدمات المنتجة داخل حدود دولة معينة خلال فترة زمنية محددة، عادةً عام واحد. يمكن أن يؤثر النمو الاقتصادي على سعر الصرف؛ فالاقتصاد القوي ذو معدلات النمو المرتفعة قد يزيد الطلب على عملة الدولة، في حين أن الاقتصاد الضعيف بمعدلات نمو منخفضة قد يؤدي إلى تقليل الطلب على العملة وخفض قيمتها.
الأحداث الجيوسياسية: يمكن أن تؤثر الأحداث الجيوسياسية (Geopolitical events) مثل الحروب، الكوارث الطبيعية، والاضطرابات السياسية بشكل كبير على أسعار الصرف. هذه الأحداث قد تخلق حالة من عدم اليقين وعدم الاستقرار، مما يؤدي إلى تقليل الطلب على عملة دولة معينة وخفض قيمتها. فعلى سبيل المثال، إذا واجهت دولة أزمة سياسية حادة، قد يصبح المستثمرون غير واثقين بشأن آفاقها الاقتصادية، وقد يسحبون استثماراتهم، مما يؤدي إلى تراجع قيمة العملة. وبالمثل، إذا أثرت كارثة طبيعية أو حدث آخر على سلسلة الإنتاج أو التوريد في دولة ما، فقد يؤثر ذلك على توازنها التجاري وسعر صرفها.
الريال قبل ثورة الإيرانية:
في بداية عهد الدولة البهلوية وتولي رضا شاه الحكم وذلك في العام 1925م، تأثرت التجارة الخارجية الإيرانية بالكساد العالمي، مما أدى إلى عجز تجاري بلغ 612 مليون ريال بعد أربع سنوات من حكمه، وبسبب تخصيص إيرادات صادرات النفط للأغراض العسكرية واستيراد السلع الرأسمالية، واجهت إيران أول أزمة عملة في القرن الجديد، حيث انخفض سعر صرف مقابل العملات الأجنبية بنحو 50%. في عام 1931م، تم تثبيت سعر الصرف عند 15 ريالا، لكن الأمر لم ينجح تماما، إذ وصل الدولار إلى نحو 16 ريالا في عام 1934م، وذلك وفقا لتقرير موقع خبر أونلاين المنشور في 23 مارس/آذر من العام 2024.
وفي عهد محمد رضا شاه، الذي تولى خلفا لوالده، تسبب احتلال إيران والأزمات السياسية في ارتفاع معدل التضخم إلى 96% في عام 1942م، مما أثر بشدة على سعر الصرف. وبعد استقرار نسبي، بقي سعر الدولار عند 32 ريالا. أدى تأميم صناعة النفط الإيرانية، والذي كان على يد رئيس الوزراء محمد مصدق في 1950م، إلى فرض عقوبات نفطية وانخفاض الإيرادات، مما رفع الدولار إلى ما بين 60 و70 ريالا، وذلك وفقا لتقرير وكالة ساعت 24 بتاريخ 5 أغسطس/آب 2018.
ووفقا للتقرير ففي أعقاب انقلاب 1953م، وهو إزاحة حكومة مصدق بواسطة تحالف أمريكي بريطاني، وعودة الاستقرار، تم تثبيت سعر الدولار عند 90-100 ريال. ورغم أن الاقتصاد الإيراني حقق ازدهار لاحقا، وسجلت إيران نموا اقتصاديا وماليا قويا في فترة الستينيات والسبعينيات، فإن معدلات التضخم عادت للارتفاع بعد 1973م نتيجة ارتفاع أسعار النفط، وعند لحظة قيام الثورة الإيرانية بلغ سعر صرف الدولار 70 ريالا.
الفترة من عام 1978 إلى 1988:
في عام 1978 وبعد وقوع الثورة، وبالنظر إلى الأحداث السياسية المتوترة وتغير إدارة السياسات الاقتصادية، أصبح هناك غموض حول الإيرادات الأجنبية للبلاد. كما أن الهجوم الأجنبي الذي وقع بعد وقت قصير من الثورة في عام 78 زاد من تأزم هذه الظروف. وقد أدت هذه العوامل مجتمعة إلى حدوث قفزة في سعر الصرف، حيث تُظهر بيانات البنك المركزي المتعلقة بسعر الصرف في السوق غير الرسمية أن سعر الصرف شهد قفزة في السنوات الأولى بعد الثورة، حيث ارتفع من 70 ريالا إلى 100 ريال. وهكذا، شهد الاقتصاد أول صدمة في سعر الصرف بزيادة نسبتها 40%. ومن الجدير بالذكر أن السلع الأساسية كانت تُستورد بسعر صرف 70 ريالا حتى منتصف عام 1989، وذلك وفقا لتقرير وكالة جماران بتاريخ 9 يوليو/تموز للعام 2020.
الفترة من عام 1988 إلى 1994:
ووفقا للتقرير السابق، ففي عام 88 انخفض سعر الصرف بنسبة 30% مسجلا 60 ريالا. ويرجع هذا الانخفاض إلى تحسن الإيرادات النفطية قرب انتهاء الحرب الإيرانية العراقية وانخفاض الطلب على العملات الأجنبية.
وباستثناء السنوات الأولى من التسعينيات، كانت التغيرات في سعر الصرف خلال هذه الفترة تحت السيطرة نسبيا. وعلى الرغم من نقص عائدات النفط خلال سنوات الحرب، أدت السياسات القائمة على ترشيد استهلاك العملات الأجنبية وإدارة الطلب إلى منع ارتفاع سعر الدولار رغم نقص الإيرادات الشديد.
في النصف الثاني من عام 89، ارتفع التضخم في الاقتصاد الإيراني، حيث بدأت أول حكومة بعد الحرب بنسبة تضخم بلغت 9%، لكنه سرعان ارتفع إلى 49% في عام 95 وبقي بنسبة 20% حتى عام 97. خلال عامي 1989 و1990، ارتفع سعر الصرف مع التضخم، لكن في عام 1991، حدثت زيادة مفاجئة في السعر غير الرسمي ليصل الدولار من 680 ريالا إلى 1420 ريالا.
وفي عامي 1991 و1992، حاول صناع السياسات النقدية الحفاظ على سعر الصرف من خلال ضخ العملة في السوق، مما أدى إلى انخفاض حقيقي بنسبة 20% في سعر الصرف على مدى عامين متتاليين. ويعود ذلك إلى القلق من تأثيرات ارتفاع سعر الصرف على التضخم.
ووفقَا للتقرير وتعليقا على حالة الصرف في تلك الفترة، يقول الدكتور محمد هاشم بيسران، الاقتصادي الإيراني، إنه عند تحليل معطيات السوق وتقلبات الأسعار، يمكن ملاحظة أن سعر الدولار في السوق السوداء كان يمثل مؤشرا لتوجهات التضخم بسبب اعتماد البلاد الكبير على الواردات. فمن وجهة نظره، فإن الإصلاحات الاقتصادية خلال حقبة “الإعمار” تحت رئاسة الرئيس أكبر هاشمي رفسنجاني في التسعينيات، أدت إلى إنعاش الاقتصاد، لكنها أدت بشكل غير مقصود أيضا إلى ظهور مستويات جديدة من الفساد. استفاد بعض الأفراد المرتبطين بالسلطة من جهود الخصخصة، غالبا على حساب المواطنين العاديين.
الفترة من عام 1994 إلى 2002:
مع تزايد الأسعار والتضخم، شهد سعر الصرف قفزة غير مسبوقة في عامي 1994 و1995، حيث ارتفع بنسبة 46% إلى 2630 ريالا في عام 1994، وبنسبة 53% إلى 4030 ريالا في عام 95، وهو ما لم يحدث قبل هذا الوقت أو بعده حتى عام 2010. وفي هذه الفترة، استأنفت الحكومة سياسة “تثبيت سعر الصرف الرسمي”، حيث ارتفع من 1750 ريالا في عام 94 إلى 1755 ريالا في عام 2001، بينما وصل السعر في السوق الحرة إلى نحو 7920 ريالا، مما دفع البنك المركزي إلى زيادة السعر الرسمي في عام 2000 إلى 7950 ريالا، وذلك وفقا لتقرير موقع دنياي اقتصاد بتاريخ 30 يونيو/حزيران 2018.
ووفقا للتقرير، يشير الدكتور محسن بهمني-أسكويي، وهو اقتصادي إيراني بارز، إلى أن سعر الدولار في السوق السوداء خلال تلك الفترة كان يعكس بدقةٍ أكبر، الضغوط الاقتصادية على إيران مقارنة بالأسعار الرسمية المحددة من قبل الحكومة. وقد ركز على تأثير النظام المزدوج لأسعار الصرف على التضخم والتجارة، مؤكدا أن الفجوة في أسعار السوق السوداء غالبا ما أدت إلى ارتفاع الأسعار محليا، مما زاد من الضغط الاقتصادي على المواطنين.
الفترة من عام 2002 إلى 2013:
ووفقا للتقرير، فمنذ عام 2000 حتى عام 2010، ارتفع سعر الصرف من 8130 ريالا إلى 11000 ريال، بنسبة تقارب 28%. وفي عام 2011 ومع تصاعد الحديث عن قيود على الإيرادات النفطية، زادت سرعة ارتفاع سعر الصرف، حيث وصل في نهاية العام إلى 18920 ريالا، بزيادة 83%. وفي صيف عام 2012، وصل الدولار إلى نحو 23000 ريال، ومع تذبذبات كبيرة وصل إلى 40000 ريال قبل أن ينخفض إلى ما بين 30000 و31000 ريال في العام نفسه.
ويعتبر الاقتصادي الإيراني سعيد ليلاز أن العقوبات الأمريكية التي بدأت في التسعينيات وأعقبتها موجات جديدة من العقوبات، لعبت دورا رئيسيا في تفاقم الأزمة. ويشير إلى أن التضخم المرتفع وانخفاض قيمة العملة هما نتيجة مباشرة لانخفاض عائدات النفط الذي أدى إلى تقلص الاحتياطي النقدي الأجنبي، خاصة مع فرض حظر على صادرات النفط منذ عام 2012. ويرى ليلاز أن العقوبات الدولية شلت قدرة إيران على التحكم في قيمة عملتها، مما أدى إلى ارتفاع مستمر في سعر الدولار مقابل الريال.
الفترة من عام 2013 إلى 2020:
وفقا لمتوسط التغيرات من للأعوام من 2014 إلى 2017، فإن سعر الصرف يزداد بشكل ملحوظ، ثم ينخفض قليلا، لكنه لا يعود إلى مستواه السابق. فعلى سبيل المثال، ارتفع سعر الصرف في بداية العام 2014 إلى 30990 ريالا ووصل إلى 35000 ريال، ثم انخفض إلى 33930 ريالا.
وبخصوص تلك الفترة، يشير الاقتصادي حسين راغفر إلى أن اعتماد إيران على دخل النفط وتحركاتها الإقليمية مثل برنامجها النووي قد جعلا الاقتصاد الإيراني أكثر عرضة للتقلبات الدولية والضغوط الخارجية، ويضيف أن تزايد العداء بين إيران والدول الغربية، مثل انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في 2018، أدى إلى انهيار الريال إلى مستويات غير مسبوقة.
السنوات الأخيرة:
خلال الفترة الماضية، شهد سعر الصرف تذبذبات كبيرة بسبب عدة عوامل اقتصادية وسياسية، كان من أهمها الحرب الدائرة في المنطقة بين إيران ومجموعاتها المسلحة من جهة وأمريكا وإسرائيل من جهة أخرى، والتي بدأت بإعلان الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، مقتل قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، خلال هجوم جوي على مطار بغداد وذلك في يناير/كانون الثاني للعام 2020، والتي كانت آخر حلقاتها شن إسرائيل هجوما على بعض المناطق العسكرية الإيرانية في أكتوبر/تشرين الأول.
ففي عام 2021 ترواح سعر الصرف بين 220.000 إلى 250.000 ريال للدولار الواحد، وفي عام 2022، مع استمرار التضخم وتأثيرات جائحة كورونا، ارتفع سعر الصرف ليصل إلى نحو 330.000 ريال لكل دولار. وبحلول 2023، استمرت الضغوط، ليتجاوز السعر 420.000 ريال، ليصل لأعلى مستوياته في أواخر أكتوبر/تشرين الأول بعد الهجوم الإسرائيلي على إيران ويسجل 705.000 ريال، وذلك وفقا لتقرير صحيفة هم ميهن الصادر في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2024.