كتب: محمد بركات
هجرة الكفاءات، واحدة من أخطر التحديات التي تواجه إيران، فمنذ عقود وهي تعاني من نزيف مستمر في كفاءاتها العلمية والفكرية، حيث تسجل أرقام هجرة الكفاءات من إيران أحد أعلى المعدلات عالميا؛ وهو ما دفع بعض المسؤولين الإيرانيين إلى الحديث عن خطورة تلك الظاهرة، وآثار تفاقمها على المجتمع.
هجرة العقول في تصريحات المسؤولين
صرح الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، خلال لقاء جمعه مع قادة الباسيج الطلابي وطلاب الحوزات يوم الجمعة 22 نوفمبر/تشرين الثاني، حول موضوع هجرة العقول، وقال: “أنا لا أستطيع أن أصدق أنه عند سؤال الطلاب والنخب في مدارسنا، تبين أن ما بين 70% و89% منهم يرغبون في مغادرة البلاد”.
وأضاف: “يجب أن يكون هناك نظام تعليمي في الجامعات والمدارس يجعل الطالب، مهما كانت الصعوبات، يرفض مغادرة وطنه ويصر على البقاء والعمل على تطويره. ينبغي أن يقول هذا الشاب: سأبقى وسأعمل على تحسين بلادي، وسأواجه العقبات بالعلم والإدراك”.
وتابع: “نحتاج إلى إعداد جيل من الشباب يعرفون، ويريدون، ويقدرون على تطوير وطنهم. علينا أن نغرس فيهم الإيمان بالعمل الجماعي وحل المشكلات، وجعل بناء الوطن قيمة متأصلة في أنفسهم”، وذلك بحسب ما نقلته عنه وكالة أنباء مهر الإخبارية الجمعة 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2024.
كذلك، قال حسين سیمایی صراف، وزير العلوم الإيراني، خلال اجتماع مع مسؤولي الباسيج الطلابي الخميس 21 نوفمبر/تشرين الثاني، مشيرا إلى قضية هجرة العقول: “نحن نواجه مشكلة الهجرة، بل يمكن تسميتها مشكلة الهروب، فإذا غادر الطالب ولم يعد، بعد أن وصل إلى هذه المرحلة باستخدام موارد البلاد، فإن هذا مؤلم. ونحن نعمل لمعالجة هذه القضية”، وذلك بحسب جريدة دنياي اقتصاد الصادر بتاريخ 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2024.
وأضاف: “يزداد هذا الأسى عندما يمكننا القول إنه في السنوات الأخيرة، هناك نحو 25% من أعضاء هيئة التدريس قد هاجروا. وهذه نسبة مقلقة، فعندما يستمر هذا الاتجاه، سيحل محلهم أشخاص قد يكون مستواهم العلمي أو الأكاديمي أقل كفاءة، إن هذا الوضع يدعو للأسف الشديد”.
وتابع: “لقد درسنا تلك الظاهرة وتم تحديد أسبابها، وأحد العوامل الرئيسية وراءها هو العامل الاقتصادي. لذلك، أنشأنا مجموعة عمل خاصة لمعالجة هذه المخاوف الاقتصادية، وضمن ذلك توفير حلول تتعلق بالإسكان”.
هجرة العقول في إيران.. الجذور والأسباب والنتائج
ظاهرة هجرة الكفاءات ليست ظاهرة حديثة العهد على المجتمع الإيراني، لكنها ازدادت بشكل كبير في الآونة الأخيرة، فقبل انقلاب 1953، وهو الانقلاب الذي قادته أمريكا وإنجلترا ضد حكومة مصدق بسبب سياسات تأميم النفط الإيراني، كانت النخب الإيرانية تعود إلى الوطن بعد إنهاء دراستها في الغرب، ولكن مع تزايد النفوذ الأمريكي بإيران، ركزت السياسات الاقتصادية على تدريب الكفاءات في الخارج، وذلك وفق ما أفاد به تقرير صحيفة دنياي اقتصاد بتاريخ 5 يونيو/حزيران عام 2016.
ومع بداية شرارة الثورة والاحتجاجات في الستينيات والسبعينيات، تصاعدت الاضطرابات السياسية والطلابية، ونتيجة لذلك، تسارع خروج النخب الإيرانية بين عامي 1966 و1976، إذ هاجر نحو 700 ألف شخص من الكفاءات العلمية والإدارية، وبحلول العام الدراسي 1977 و1978، كان هناك نحو 100 ألف طالب إيراني يدرسون بالخارج، منهم 36.220 في الولايات المتحدة.
ومع انطلاق الثورة الإيرانية عام 1979، هاجر عدد كبير من الخبراء الذين ارتبط اسمهم بالنظام البهلوي، النظام الذي أسقطته الثورة، بينما عادت بعض النخب إلى إيران مرة أخرى؛ لإيمانهم بالأفكار التي قامت عليها، ولكن تلك الموجة من العودة لم تستمر كثيرا، حيث أغلقت العديد من الجامعات الإيرانية فيما عُرف بالثورة الثقافية في العام 1980، لتصل أعداد المهاجرين من النخب إلى 852 ألفا، بعدما كانت 45 ألفا في العام 1956.
وفي أثناء الحرب العراقية الإيرانية، التي استمرت بين عامي 1980 و1988، زادت موجة هجرة النخب نتيجة الظروف القاسية والحافز لعدم العودة. وبعد الحرب، فضّلت النخب البقاء في الخارج بسبب عدم اكتراث الحكومة لاستقطابهم أو لإعادة الحياة العلمية في إيران. وتشير الإحصائيات إلى أنه من عام 1971 وحتى 1998 سمحت الولايات المتحدة بدخول نحو 258.193 إيرانيا.
بعد انتهاء الحرب، ساهمت الظروف الاقتصادية الصعبة والتحولات السياسية وشبكات التواصل الدولية في هجرة شريحة واسعة من النخب الشبابية. فرغم جهود الحكومة في التسعينيات لاستعادة الكفاءات، فإنها لم تحقق نجاحا كبيرا. فبحلول العام 1991، كان هناك 240 ألف إيراني يحملون شهادات عليا يعملون في الولايات المتحدة، مقارنة بـ1900 عضو هيئة تدريس فقط في الجامعات الإيرانية.
وبحلول العام 2009، قُدّر معدل هجرة النخب بـ100 ألف سنويا، معظمهم إلى الولايات المتحدة وكندا.
ورغم مضاعفة حد القبول الجامعي بعد 2009، استمرت الهجرة إلى الخارج، وفي 2013، قدرت أعداد الطلاب الإيرانيين الذين يدرسون في الولايات المتحدة بين 10 و16 ألف طالب، بزيادة تقدر بـ25% عن 2010. وبحلول العام 2014، بلغ عدد الطلاب الإيرانيين بالخارج 120 ألفا، وكانت ماليزيا، وأمريكا، وكندا، وألمانيا، وتركيا من أبرز وجهاتهم.
وفي السنوات الأخيرة، فقد أشارت أحدث التقديرات إلى أن نحو 150 ألفا من الكفاءات الإيرانية يهاجرون سنويا. ووفقا لتقرير صادر عن البنك الدولي، فإن إيران تحتل مرتبة متقدمة بين الدول التي تعاني من هجرة العقول. كما يقدر أن نسبة كبيرة من الإيرانيين الحاصلين على درجات علمية عليا يعيشون في دول متقدمة مثل الولايات المتحدة وكندا.
الأسباب الرئيسية لهجرة العقول من إيران
هناك أسباب عديدة دفعت النخب والطلاب الإيرانيون إلى ترك بلادهم والسفر للخارج، من بين تلك الأسباب تأتي الأسباب الاقتصادية في المرتبة الأولى، فالتدهور الاقتصادي الناتج عن العقوبات الدولية وسوء الإدارة الاقتصادية أدى إلى تقليص فرص العمل للكفاءات داخل البلاد، ومع ارتفاع معدلات البطالة وانخفاض قيمة العملة الوطنية، بات الأطباء، والمهندسون، والأساتذة الجامعيون يجدون أنفسهم غير قادرين على تحقيق الاستقرار المادي، ما يجعل الهجرة خيارا لا مفر منه، وذلك حسبما جاء في تقرير موقع عصر إيران الصادر بتاريخ 17 يناير/كانون الثاني 2024.
كذلك، فقد شكلت القيود المفروضة على الحريات السياسية والاجتماعية أحد الأسباب الرئيسية وراء هجرة الكفاءات، حيث يشعر كثير من الشباب والمثقفين بعدم وجود مساحة للتعبير عن آرائهم أو تحقيق طموحاتهم في ظل القوانين الصارمة التي تحد من الابتكار والإبداع.
وعلى الرغم من أن إيران تمتلك جامعات عريقة وتاريخا طويلا في العلوم، فإن الاستثمار في البحث العلمي أصبح محدودا جدا في الآونة الأخيرة، إضافة إلى ذلك، يُواجه العلماء نقصا في التمويل، مما يدفعهم إلى البحث عن بيئة أكاديمية أفضل في الخارج.
ومن ضمن عوامل تلك الظاهرة أيضا، تفضيل النخب المناخ الغربي للبحث العلمي، فالدول الغربية، مثل الولايات المتحدة وكندا وألمانيا، توفر بيئة خصبة للكفاءات، سواء من حيث الرواتب أو الإمكانيات البحثية. كما تقدم العديد من هذه الدول برامج للهجرة واللجوء متخصصة في استقطاب الكفاءات من دول مثل إيران وغيرها من بقاع العالم.
التأثيرات السلبية لهجرة العقول على إيران
تؤدي هجرة العقول إلى خسارة كبرى في رأس المال البشري بالدول النامية مثل إيران، حيث يُقدّر أن إيران تفقد مليارات الدولارات سنويا بسبب هذه الظاهرة، سواء من حيث الإنفاق على تعليم الأفراد الذين يهاجرون، أو من حيث القيمة التي يمكن أن يضيفوها للاقتصاد إذا بقوا في البلاد، كذلك فإن القطاع العلمي بإيران يعاني من نقص الكفاءات المؤهلة، مما يؤدي إلى تراجع الابتكار والإبداع. كما أن القطاعات الصناعية والتكنولوجية تفقد خبراءها، ما يحدّ من قدرتها على المنافسة عالميا، كذلك تعزز هجرة الكفاءات من شعور الإحباط لدى الشباب، حيث يرون أن من يملك المهارات والمؤهلات يختار الهجرة، كما تسهم في تفاقم الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، حيث تبقى الطبقات الفقيرة في مواجهة أعباء الأزمات دون أمل واضح، وذلك وفق تقرير موقع فرا رو الإخباري بتاريخ 20 سبتمبر/أيلول 2022.
في النهاية، تظل مشكلة فرار العقول مشكلة بلا حل، فبين ظروف اقتصادية صعبة وعدم توفير المناخ ولا التكاليف الكافية لخلق بيئة عمل منتجة، يجد الطالب أو العالم الإيراني نفسه مضطرا إلى السفر للخارج؛ بحثا عن فرصة لحياة كريمة في ظل مجتمع يقدر موهبته.