كتب: ربيع السعدني
شهدت إيران في الآونة الأخيرة ارتفاعا ملموسا وتدريجيا في سعر الصرف، وفي هذا الصدد ارتفع سعر الدولار الأمريكي إلى أكثر من 840 ألف ريال، وهي قضية أثارت انتقادات واسعة، حيث اعتقد كثيرون أن إدارة سوق الصرف الأجنبي ينبغي أن تتم بطريقة مختلفة، وكان هناك نقاش حاد حول تغيير النظام النقدي في البلاد من “التعويم الموجه” الحالي إلى “الربط الزاحف”.
في هذا الإطار، كتب الباحث الاقتصادي رضا إحساني؛ مذكرة خاصة نشرتها وكالة “تسنيم” للأنباء، التابعة للحرس الثوري، يوم الاثنين 27 يناير/كانون الثاني 2025، جاء فيها: “بحثنا بالأمس في البرلمان عدم كفاءة نظام العملة (التعويم الموجه) في إيران؛ ورأينا أن نظام العملة ذا (الربط الزاحف)، يبدو أكثر ملاءمة لاقتصادنا؛ كما سجل بعض النواب في اللجنة الاقتصادية بالبرلمان خطة بالمضمون نفسه لمراجعتها، ولكن هناك سؤال رئيسي حول هذه السياسة: ألا يؤدي التثبيت النسبي لسعر الصرف إلى سحب رافعة السياسة النقدية من البنك المركزي وتعطيل السياسة النقدية؟”.
القانون الحالي
تنص الفقرة (ت) من المادة 20 من قانون الأحكام الدائمة لبرامج التنمية الوطنية على أنه “في تنفيذ السياسات العامة للاقتصاد المقاوم التي ترتكز على تفعيل الموارد المالية، وإصلاح وتقوية النظام المالي للبلاد، يُعد النظام النقدي فيه هو “(التعويم الموجّه)، ويتم تحديد نطاق سعر الصرف مع الأخذ في الاعتبار الحفاظ على القدرة التنافسية في التجارة الخارجية ومراعاة التضخم المحلي والعالمي، وكذلك ظروف الاقتصاد الكلي، بما في ذلك تحديد المستوى الأمثل للاحتياطيات الأجنبية”.
ما هو نظام “التعويم الموجه”؟
“التعويم الموجه” أو “المُدار” هو حرية تحديد سعر الصرف وفق آلية العرض والطلب وقوى السوق، وتتدخل الدولة في هذا النوع من أنواع التعويم عبر البنك المركزي عند الحاجة إلى توجيه سعر الصرف في اتجاهات محددة مقابل باقي العملات، بحيث يتم هذا الأمر كاستجابة لبعض المؤشرات التي تشمل معدل الفجوة بين العرض والطلب في سوق صرف العملات، والتطورات التي تطرأ على أسواق سعر الصرف المماثلة، والمستويات الآجلة والفورية لأسعار صرف العملات.
وتلجأ الدول في حالة الاضطرابات في الأوضاع المالية والاقتصادية المتذبذبة غير المتوازنة إلى سياسة تعويم عملتها، مما يدفع إلى شراء العملات الأجنبية، أحد العوامل المهمة في اضطرابات السوق، حيث تكثر المضاربات، ويخرج أمر سعر صرف العملة عن سيطرة البنك المركزي والجهاز المصرفي، ويكون بيد السوق الموازية، ومن هنا تجد الدولة نفسها أمام التزامات أكبر من طاقتها، في حين أن المتاح من موارد للنقد الأجنبي بالبلاد خارج سيطرتها، وفي يد غير البنك المركزي والجهاز المصرفي والمؤسسات المالية، لذلك تلجأ إلى تعويم العملة في إطار برنامج اقتصادي واضح، لمحاولة الوصول إلى حالة من الاستقرار السياسي.
ويُعد هذا النظام مزيجا بين سعر الصرف العائم وسعر الصرف الثابت، حيث يمثل سعر الصرف العائم الموجه نهجا مرنا نسبيا لإدارة سعر الصرف، وهو يحاول تحقيق التوازن بين حرية السوق والاستقرار الاقتصادي، ويتيح للحكومات تجنب تقلبات العملة بما يضر بالاقتصاد القومي مع الحفاظ على ديناميكيات السوق، ويعتمد نجاح هذا النظام على دقة التدخلات وتوقيتها الصحيح وتوافر موارد كافية من النقد الأجنبي.
النظام الموجه غير ملائم لإيران
وكما رأينا، بحسب تقرير وكالة “تسنيم” للأنباء، يرتكز المبدأ الرئيسي في هذا النظام على قاعدة “حرية السوق”، ولا يتم قبول أي تدخلات من صانعي القرار إلا في حالات محدودة، وهذا النظام النقدي مناسب للاقتصادات التي تتمتع ببنية سوق عملة صحية وتسمح بتشكيل الأسعار من توازن العرض والطلب، ولا يحدث التدخل الحكومي إلا في ظروف خاصة واستثنائية، وليس العكس! في إيران، يتم تحديد ما يعرف بسعر السوق الحر من قبل جهات فاعلة غير قانونية أو اقتصادية كـ(التجارة أو هروب رأس المال، والاحتكار، وما إلى ذلك)، واللاعبون الصغار هم الأقلية وليسوا حاسمين، هذا هو “السوق المعطل”.
ولهذا السبب اقترح بعض أعضاء البرلمان نظاما آخر بديلا ثم أعيد تقديم مشروع تعديل الفقرة (ت) من المادة 20 من النظام الأساسي الدائم إلى النظام التشريعي للبرلمان على النحو التالي: “النظام النقدي في البلاد هو (نظام الربط الزاحف)، ويتم تحديد سعر الصرف الرسمي في هذا النظام على أساس اعتبارات السيطرة على التضخم، والمساهمة في النمو الاقتصادي، واستقرار متغيرات الاقتصاد الكلي”.
ما هو نظام “الربط الزاحف”؟
دعا عالم الاقتصاد البريطاني جون ويليامسون، المحاضر السابق في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي إلى ابتكار أنظمة أسعار صرف وسيطة توفِّر قدرا أكبر من المرونة مقارنة بالأسعار الثابتة، لكنها أكثر استقرارا من الأسعار الحرة العائمة، أثبت أحد هذه الأنظمة وأطلق عليها اسم “الربط الزاحف“، وهو المصطلح الاقتصادي الشائع الذي صاغه ويليامسون، واستمد شعبيته بشكل خاص في دول أمريكا اللاتينية خلال الثمانينيات وأوائل التسعينيات، ومن خلاله تقرر البلدان التعايش مع سياسة التضخم من خلال فرض تخفيضات شهرية صغيرة لقيمة العملة تحافظ على قدرة منتجيها على المنافسة السعرية على المستوى الدولي.
الملامح الرئيسية لنظام “الربط الزاحف”
أ) يقوم البنك المركزي أو السلطة النقدية بتغيير سعر الصرف تدريجيا (يوميا أو أسبوعيا أو شهريا)، ويمكن الإعلان عن هذه التغييرات مسبقا أو تحديدها بناءً على مؤشرات اقتصادية مثل التضخم أو العجز التجاري.
ب) عكس أنظمة أسعار الصرف الثابتة الصارمة يسمح نظام “الربط الزاحف” لسعر الصرف بالتوافق تدريجيا مع قوى السوق، دون حدوث تغييرات مفاجئة أو صادمة مع بعض المرونة المسيطر عليها.
ج) من خلال إجراء تغييرات صغيرة ومتكررة يمنع النظام الهجمات المضاربية التي تحدث عادةً نتيجة لتوقع التغيرات المفاجئة في أسعار الصرف.
د) يمكن لهذا النظام أن يعمل على استقرار التضخم من خلال مزامنة سعر الصرف مع مستويات الأسعار المحلية والأجنبية، كما يعمل كحاجز ضد الصدمات الخارجية.
مزايا وعيوب نظام “الربط الزاحف”
توفر التغييرات التدريجية، مقارنة بالتقييمات المفاجئة، استقرارا أكبر وقابلية للتنبؤ بالنسبة للاقتصاد والشركات والمستثمرين، ويتم أيضا تعديل سعر الصرف تدريجيا بما يتناسب مع الحقائق الاقتصادية، مما يمنع اختلال التوازن في الأسعار، ومن بين المزايا الأخرى لهذا النظام الحد من المضاربة والسيطرة على التضخم، لكن هذا النظام له عيوبه أيضا: نتيجة طبيعته الفنية، إذ يتطلب تنفيذه إشرافا دقيقا وخبرة عالية من قبل البنك المركزي، وإذا لم يتم ضبط ذلك بشكل صحيح، فقد تصبح العملة مبالغا في قيمتها أو أقل من قيمتها الحقيقية، مما قد يؤثر على القدرة التنافسية، وإضافة إلى ذلك، إذا كان اتجاه أو حجم التغيرات في أسعار الصرف قابلا للتنبؤ، فإنه لا يزال من الممكن أن يجذب انتباه المضاربين.
ومن بين العيوب الأخرى التي قد تحدث في نظام “الربط الزاحف”، أن التدخلات المتكررة من جانب البنك المركزي تقلل من دور قوى السوق في تحديد سعر الصرف، وقد استخدمت العديد من البلدان نظام سعر الصرف العائم لتثبيت عملاتها خلال فترات التحول الاقتصادي أو التقلبات، ومن بين هذه الأمثلة تشيلي في الثمانينيات والصين في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
يحقق نظام سعر الصرف العائم التوازن بين الاستقرار والمرونة، وهو خيار مناسب للاقتصادات التي تحتاج إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال عملاتها مع تجنب الصدمات المفاجئة، ومع ذلك، فإن نجاح هذا النظام يعتمد على التنفيذ الصحيح للسياسات والقدرة على التكيف مع التغيرات في الاقتصاد العالمي، وكان نموذج ماندل فليمنج بحسب ما نشره موقع “اقتصاد أونلاین“، يتغذى على المناقشة حول الاختيار بين أسعار الصرف العائمة أو الثابتة، والذي زعم أن الحكومة لا تستطيع في الوقت ذاته الحفاظ على سعر صرف ثابت وحرية التداول، مع سياسة مالية مستقلة، بل يجب أن تختار عنصرين للتحكم وتترك العنصر الآخر لقوى السوق.
“الربط الزاحف” ملائم لإيران
وفي هذا الإطار أكدت دراسات عديدة تفوق نظام الربط “الزاحف” على نظام “التعويم الموجه” بالنسبة لدولة مثل إيران، على سبيل المثال يوضح كينيث روجوف، أستاذ الاقتصاد الدولي بجامعة هارفارد في مقاله الصادر عام 2021 “إعادة التفكير في أنظمة أسعار الصرف“، أن أنظمة أسعار الصرف الثابتة، خاصة في البلدان ذات الاقتصادات الصغيرة التي تعتمد على التجارة الخارجية، تؤدي إلى استقرار أكبر في أسعار الصرف والتضخم، ويرى أن هذا النوع من الأنظمة يناسب أكثر البلدان التي لا تملك القدرة على امتصاص الصدمات الاقتصادية الخارجية وتحتاج إلى الاستقرار (مثل إيران).