كتب: محمد بركات
أزمة جديدة تشهدها الساحة السياسية الإيرانية بشأن الملف النووي، إلا أن الأزمة تلك المرة أتت من الداخل لا من الخارج، فقد أثير جدل واسع بعد ظهور تقارير حكومية تنسب مسؤولية الملف النووي إلى إحدى الشخصيات العسكرية البارزة.
بدأ الموضوع عندما نشر الموقع الرسمي للحكومة صورا وتقريرا عن زيارة على شمخاني، مستشار قائد الثورة للشئون السياسية والأمين السابق للمجلس الأعلى للأمن القومي، الاثنين 3 فبراير/شباط 2025، للمعرض الخاص بأحدث المنجزات النووية الإيرانية، والتي جاءت بدعوة من محمد إسلامي، رئيس منظمة الطاقة الذرية.
وخلال التقرير، وصف الموقع الرسمي للحكومة شمخاني بأنه مسؤول الملف النووي الإيراني، ولم يقتصر هذا الوصف بهذا الموقع فقط، بل ذكر شمخاني بالوصف نفسه في تقرير موقع منظمة الطاقة النووية الإيرانية ووكالة الأنباء الرسمية “إيرنا”، مما أثار موجة من التساؤلات حول موقع شمخاني ووظيفته في الملف النووي الإيراني، وجدير بالذكر أن هذه هي المرة الأولى التي تشير فيها المصادر الرسمية إلى شمخاني بصفته مسؤول الملف النووي.
بعدها، أصدرت دائرة العلاقات العامة بوزارة الخارجية، الثلاثاء 4 فبراير/شباط 2025، بيانا تنفي فيه مسؤولية شمخاني في هذا الملف، وتؤكد عدم حدوث أي تغيير في إدارة ملف الطاقة النووية، وقد جاء في بيانها: “إن مسؤولية إجراء المحادثات والمفاوضات النووية لا تزال تقع على عاتق وزارة الخارجية، وتتم تحت إشراف الوزير عبر معاونيه للشؤون السياسية والقانونية الدولية، كذلك فتحديد الاستراتيجية التفاوضية والتنسيق بين الجهات المعنية لا يزال من مهام المجلس الأعلى للأمن القومي”، الأمر الذي أثار مزيدا من الجدل.
كذلك فقد سارعت الشخصيات الرسمية في إيران لتوضيح المسؤول الأول عن الملف النووي الإيراني، فتعليقا على هذا الأمر، صرح محمد جواد ظريف، نائب الرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية والمفاوض النووي السابق، على هامش اجتماع مجلس الوزراء اليوم الأربعاء 5 فبراير/شباط 2025، ردا على سؤال، مفاده: “في عهدنا، كان السيد شمخاني، بصفته أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، مسؤولا عن التنسيق العملياتي، بينما كانت المفاوضات بيد وزارة الخارجية. أعتقد أن ملف المفاوضات النووية لا يزال في عهدة الدكتور عراقجي، الذي يتمتع بخبرة كبيرة ويحظى بثقة قائد الثورة”.
كذلك، فقد صرح محمد رضا عارف، النائب الأول لرئيس الجمهورية الإيراني، الأربعاء 5 فبراير/شباط 2025، بخصوص مسؤولية شمخاني في الملف النووي بأن “القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية والنووية تكون مع المجلس الأعلى للأمن القومي، ويجب أن يتم التصديق على قراراته من قبل القائد، والمسؤول عن المفاوضات حاليا هي وزارة الخارجية، ويتم تشكيل لجان في المجلس الأعلى للأمن القومي والحكومة أيضا، وبناء على ذلك فأنا أنفي الشائعات بخصوص تولي السيد شمخاني مسؤولية الملف النووي بكل احترام لشخصه”.
مشكلة هيكلية أم منافسة سياسية؟
لم تكن تلك المرة الأولى التي يثار الجدل فيها حول دور شمخاني في الملف النووي، فقد صرح شمخاني نفسه صراحة خلال احتفالية خاصة بعيد الطالب في إيران في ديسمبر/كانون الأول 2024، قائلا: “أنا المسؤول عن الملف النووي”.
أيضا ففي مايو/أيار من العام 2024، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي أخبار تفيد بأن شمخاني قد تولى مسؤولية ملف القضية النووية منذ ثلاثة أشهر، أي من شهر فبراير/شباط، ولكن تنفيذ العمل لا يزال تحت مسؤولية وزارة الخارجية، حينها لم يتم تأكيد أو نفي هذا الخبر من قبل المسؤولين المعنيين، بل وعند سؤال الصحفيين لناصر كنعاني المتحدث باسم وزارة الخارجية في ذلك الوقت، عن صحة الخبر خلال مؤتمر صحفي، لم يعط إجابة واضحة.
وبعد تلك الأزمة الأخيرة أثير عدد من علامات الاستفهام حول الملف النووي ومن يتولى المسؤولية، ما دفع صحيفة خراسان الأصولية إلى أن تتسأل في عددها الأربعاء 5 فبراير/شباط 2025 عن مسبباتها، حيث ذكرت: “هل هذه الحالة ناتجة عن خلل مؤسسي وغياب الشفافية في تقسيم المهام، أم أن المنافسات داخل الحكومة والخلافات بين الأجهزة المختلفة هي التي تسببت في هذه الفوضى؟”.
وتجيب الصحيفة: “تظهر التجربة التاريخية لإيران أن التحديات الداخلية قد تكون مؤثرة في بعض الأحيان بقدر التحديات الخارجية في القضايا الحساسة في السياسة الخارجية. وفي هذه الحالة الخاصة، يبدو أن هناك نوعا من الصراع بين المجلس الأعلى للأمن القومي ووزارة الخارجية وبعض الأجهزة الأمنية والسياسية الأخرى حول من يسيطر على هذا الملف”.
كذلك، فقد نوهت صحيفة توسعه إيران الأصولية في عددها الأربعاء 5 فبراير/شباط 2025، إلى عواقب التخبط في إدارة الملف النووي، حيث ذكرت أن “التعددية في إدارة هذا الملف لها عواقب جدية، أولها أن هذا سيتسبب في إيجاد حالة من عدم الشفافية في السياسات وخلل في سير المفاوضات، فعندما يواجه الأطراف الخارجية عدة مراكز اتخاذ قرارات، تقل قدرتهم على دفع المفاوضات قدما، وهذا قد يؤدي إلى إطالة الأزمة الدولية”.
وتكمل: “الأمر الثاني هو انخفاض مصداقية إيران على الساحة الدبلوماسية، ففي الأنظمة السياسية الفعّالة، تكون مسؤولية الملفات الاستراتيجية واضحة ويتبع المفاوضون سياسة واحدة، ولكن في إيران، أدى وجود العديد من مراكز اتخاذ القرار إلى إرسال إشارات متناقضة إلى اللاعبين الدوليين، مما يمكن أن يعزز حالة عدم اليقين في التفاعلات الدولية”.
وتكمل: “وأخيرا، فإن لهذه الأزمة الإدارية تأثيراتها الاقتصادية كذلك، حيث ترتبط السياسات النووية لإيران بشكل مباشر بحالة العقوبات والقيود الاقتصادية، في وقت يعاني فيه الاقتصاد الإيراني من ضغوط شديدة بسبب العقوبات، يمكن أن تجعل إدارة الملف النووي المتعددة الأوجه من الصعب الوصول إلى حلول فعّالة لتخفيف الضغوط الدولية”.
من تولى الملف النووي من قبل؟
على مر تاريخ الملف النووي الإيراني، شغل العديدين منصب المسؤول عن المفاوضات النووية، فمع تصاعد التوترات بين إيران والغرب حول الملف النووي في بداية الألفية، وبسبب عدم التنسيق بين المؤسسات المعنية بالملف النووي، مثل وزارة الخارجية ومنظمة الطاقة الذرية، قررت السلطة في إيران، وبناء على اقتراح كمال خرازي، وزير الخارجية آنذاك، وموافقة الرئيس الإيراني وقتها محمد خاتمي، وأعضاء المجلس الأعلى للقيادة، تشكيل فريق سياسي وفني وقانوني قوي لإدارة هذا الملف.
كان أول من تولى هذا المنصب هو حسن روحاني، الرئيس الإيراني الأسبق، في الـ6 من أكتوبر/تشرين الأول 2003 والذي كان يتمتع بثقة هاشمي رفنسجاني وخاتمي، وخلال فترة توليه، كانت مفاوضات سعد آباد بين الفريق الإيراني ووزراء خارجية بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وإصدار بيان سعد آباد من أبرز الأحداث النووية في تلك الفترة.
ومع تولي محمود أحمدي نجاد رئاسة الجمهورية في 2005، تم تعيين علي لاريجاني، الذي كان قد ترشح للرئاسة دون نجاح، خلفا لروحاني في أمانة المجلس الأعلى للأمن القومي. حينها لم يتمكن روحاني من العمل مع أحمدي نجاد، وهو ما تكرر لاحقا مع لاريجاني، الذي كان ناقدا لنهج الفريق التفاوضي السابق، الذي اضطر إلى الاستقالة بعد عامين فقط.
وبعد استقالة لاريجاني، تم تعيين سعيد جليلي، الذي كان يشغل منصب نائب وزير الخارجية، أمينا للمجلس الأعلى للأمن القومي، وقد تزامنت فترة توليه مع تصعيد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ضد إيران، حيث صدر 6 قرارات ضدها، منها 3 قرارات بين 2008 و2010 خلال مفاوضاته، مما أدى إلى إدراج إيران تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، باعتبارها مهددة للأمن والسلم الدوليين.
وخلال فترته، وجهت انتقادات كبيرة لجليلي بسبب طريقته في إدارة المفاوضات، فوفقا لتصريحات بعض المسؤولين الأوروبيين وقتها، فقد كان جليلي يركز على إلقاء دروس في التاريخ الإسلامي بدلا من تقديم حلول دبلوماسية فعالة، ما وصف بأنه متشدد وغير مرن.
ومع تولي روحاني الرئاسة في 2013، برز اسم محمد جواد ظريف كأحد أبرز الشخصيات في الحكومة الجديدة، ذلك بسبب خبرته الدبلوماسية واتصالاته الواسعة مع كبار دبلوماسي الدول الكبرى، والتي اكتسبها في أثناء عمله مندوبا لإيران لدى الأمم المتحدة.
تم تسليم الملف النووي إلى ظريف ليصبح أهم مشروع سياسي لحكومة روحاني، حيث كان الاتفاق بشأنه مفتاحا لرفع بعض العقوبات الاقتصادية وتحسين الوضع الاقتصادي المتدهور، فبعد 21 شهرا من مفاوضات ظريف ووزراء خارجية مجموعة 5+1، والتي شهدت تحولا كبيرا بجلوس وزير الخارجية الأمريكي على الطاولة نفسها مع نظيره الإيراني لأول مرة منذ الثورة الإيرانية، تم التوصل إلى الاتفاق النووي بين إيران والغرب في العام 2015 والذي اعتبرته إيران إنجازا تاريخيا وقتها.
ومع تولي الرئيس إبراهيم رئيسي منصب الرئاسة عام 2021، عيّن على باقري كني نائبا لوزير الخارجية ومسؤولا عن الملف النووي، خلفا لعباس عراقجي الذي كان نائبا لظريف والذي صدر قرار بتنحيته عن منصبه من وزير الخارجية آنذاك أمير حسين عبد اللهيان في 15 سبتمبر/أيلول عام 2021.
وكان باقر كني أحد المعارضين السابقين للاتفاق النووي، وقد تبنى نهجا أكثر صرامة في المفاوضات، وركز على ضرورة رفع جميع العقوبات قبل تنفيذ أي التزام نووي من قبل إيران.
كذلك فقد قاد جولات جديدة من المفاوضات غير المباشرة مع الولايات المتحدة عبر وسطاء مثل الاتحاد الأوروبي وقطر، ولكنها لم تؤدِ حتى الآن إلى اتفاق نهائي.
وفي الأخير، ومع تولي مسعود بزشكيان منصب رئاسة الجمهورية في يوليو/تموز 2024، وموافقة البرلمان على تولي عباس عراقجي منصب وزير الخارجية في أغسطس/آب من العام نفسه، عاد عراقجي ليكون المسؤول الأول عن الملف النووي.