كتب: سيد نيما موسوي
ترجمة: علي زين العابدين برهام
إن من بين أبرز أحداث غرب آسيا في الأيام الماضية، كان تشييع جنازة السيد حسن نصر الله، الزعيم السابق لحزب الله، في بيروت، حيث شهد الحدث حضورا غير مسبوق بلغ 5 ملايين مشارك من مختلف أنحاء العالم. هذا العدد الهائل جعله واحدا من أكبر التجمعات الجماهيرية لتكريم زعيم سياسي في العالم العربي، متجاوزًا حتى أعداد المشاركين في جنازة جمال عبد الناصر.
انطلاقا من ذلك، نستعرض في هذا المقال أسباب الشعبية الواسعة لحزب الله، مع تسليط الضوء على دوره في تشكيل لبنان الحديث.
لطالما كان لبنان مهدا لإحدى أعظم الحضارات في التاريخ، وهي الحضارة الفينيقية، التي نشأت من قلب النشاط التجاري في حوض البحر الأبيض المتوسط، وأثرت في العديد من الحضارات الكبرى. بفضل موقعها الاستراتيجي بين ثلاث حضارات عظيمة المصرية، والفارسية، واليونانية، كان لفينيقيا تأثير عميق في تطور هذه الثقافات. ويشهد على ذلك انعقاد المفاوضات بين الإسكندر المقدوني وداريوش الثالث، آخر ملوك الإمبراطورية الأخمينية، على أرض لبنان الحالية، مما يؤكد دوره كجسر للتواصل بين الإمبراطوريات الكبرى.
في العصور الإسلامية، لعب لبنان دورا محوريا في تشكيل المعارضة السياسية للخلافة، مستفيدا من تضاريسه الفريدة، المحصورة بين الجبال والبحر، التي جعلته ملاذا للحركات المعارضة. كان من أوائل الأمثلة على ذلك تمرد أبو العميطر السفياني، أحد بقايا بني أمية، في بدايات العهد العباسي. كما برز جبل عامل كمركز رئيسي لنمو المذهب الشيعي، الذي أصبح أحد أبرز التيارات المعارضة للسلطة المركزية.
ولم يقتصر هذا الدور على العالم الإسلامي، بل شمل المسيحية أيضا، حيث انتشرت تعاليم القديس مارون في القرن الخامس الميلادي، وهي حركة انفصلت عن الكنيسة الكاثوليكية وانتشرت في لبنان وسوريا الحالية.
ظل لبنان عبر العصور موطنا للحركات الهامشية والثورية، وبلغ هذا الدور ذروته خلال الحرب الأهلية في سبعينيات القرن العشرين، حين شهدت البلاد نشوء مجموعات متنوعة مثل بادر ماينهوف، الجيش الأحمر الياباني، حركة فتح، مقاتلي الطوارق من مالي، الفدائيين الإيرانيين، الميليشيات المارونية، ولاحقا الجماعات الشيعية مثل حزب الله وحركة أمل، ثم في مراحل لاحقة الجماعات السلفية مثل جماعة أحمد الأسير.
يُناقش دور حزب الله في تشكيل لبنان الحديث من منظور أن البلاد في ثمانينيات القرن الماضي كانت أشبه بفريسة تتنازعها القوى الكبرى. فقد دخلت سوريا إلى لبنان منذ السبعينيات لقمع منظمة فتح، فيما اجتاحت إسرائيل بيروت عام 1982. في الوقت نفسه، أنشأت الولايات المتحدة قاعدة لقوات المارينز هناك، بينما حافظت فرنسا على نفوذها التقليدي المستمد من حقبة الانتداب في أوائل القرن العشرين، إضافةً إلى وجود ضباط الـKGB السوفييت في المشهد اللبناني.
تشبه أوضاع لبنان في تلك الفترة وضع الصين بعد “حرب الأفيون الثانية“، عندما أصبحت البلاد مسرحا لأطماع القوى الاستعمارية الغربية. من بريطانيا وفرنسا إلى روسيا القيصرية والولايات المتحدة، وحتى دول أوروبية أصغر مثل الإمبراطورية النمساوية المجرية، وإيطاليا، وبلجيكا، كان لكل منها مصالح في مناطق استراتيجية مثل ميناء تيانجين. وفي ظل هذا التنافس الدولي، اندلعت “ثورة الملاكمين”، بدعم من أنصار سلالة مينغ، لمواجهة التدخل الأجنبي والتأثير على مصالح القوى الاستعمارية.
في ثمانينيات القرن الماضي، لعب حزب الله دورا مشابها لثورة الملاكمين، حيث واجه المصالح الأجنبية في لبنان بشراسة. نفّذ هجمات على مقر قوات المارينز الأميركية، واستهدف القوات الفرنسية، واغتال ضباط الـ KGB السوفييت، كما دخل في صدامات مع حركة أمل، التي كانت محسوبة على النفوذ السوري. وعلى عكس السرديات الشائعة، لم تخلُ تلك الفترة من توترات بين حزب الله والقوات الإيرانية، خاصة بعد قضية إيران- كونترا.
ورغم نشأتهما في بيئات متشابهة، إلا أن مساري حزب الله وثورة الملاكمين قادا إلى نتائج مختلفة. فالملاكمون، رغم استهدافهم المصالح الغربية، تعرضوا للهزيمة، إلا أن حراكهم مهّد لاحقا للثورة الصينية، التي ما زالت تُخلَّد حتى اليوم في الخطاب الرسمي للحزب الشيوعي الصيني كحركة وطنية بطولية. أما حزب الله، فخلافا لذلك، لم يواجه المصير نفسه، بل شهد انتصاره بعينه، مستفيدا من تداعيات الحرب الإيرانية-العراقية، حيث لعب ملف احتجاز الرهائن الأميركيين دورا محوريا في المفاوضات بين إيران وإدارة جورج بوش الأب، ما مكّنه من تعزيز نفوذه في المشهد اللبناني وترسيخ قوته بعد اتفاق الطائف.
في ظل غياب جيش لبناني موحّد، وعجز القومية العربية، التي تبنّاها كمال جنبلاط، عن الاستمرار حتى مع دعم ياسر عرفات، برز حزب الله كالقوة الأبرز في تشكيل لبنان الحديث. خلال تسعينيات القرن الماضي، وبدعم من إيران وعدد من الدول العربية، تمكّن الحزب من تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي وإنهاء وجود جيش أنطوان لحد الموالي لإسرائيل.
في تلك المرحلة، حظي حزب الله بدعم مباشر من العائلتين الحاكمتين في سوريا ولبنان، آل الأسد وآل الحريري. ولم يقتصر تأييده على إيران، الحليف التقليدي، بل شمل أيضا معظم الدول الإسلامية. وكان الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000 نتيجة للتنسيق بين إيران ومنظمة المؤتمر الإسلامي في دعم حزب الله ومقاومته.
بلغت شعبية حزب الله ذروتها بعد حرب 2006، حين تمكّن من هزيمة إسرائيل، فقد جاءت المقاومة اللبنانية كثمرة لمزيج فكري يجمع بين التشيع الثوري بعد ثورة 1979 في إيران وتجارب حركات كفتح، وحركة أمل، والجبهة الشعبية، ما أرسى ثقافة قتالية جديدة في لبنان.
ورغم أن حرب 2024 لم تحقق لحزب الله جميع أهدافه في المواجهة مع إسرائيل، إلا أن أسلوبه القتالي بات نموذجا تحتذي به العديد من الحركات المسلحة. فقد تأثرت القاعدة في التسعينيات، وجيش المهدي في العراق خلال الألفية الجديدة، وهيئة تحرير الشام في العقد التالي، وحركة حماس في العقد الأخير، بأساليب حزب الله في القتال والمقاومة.