کتب: سيد نيما موسوي
ترجمة: علي زين العابدين برهام
يعتبر حفر القنوات والأنفاق تحت الأرض من أعظم ابتكارات الإنسان، حيث استخدمها للوصول إلى ثروات باطن الأرض. ومع دخول عصر صهر المعادن، استطاع الإنسان بفضل الأدوات الحادة التي صنعها أن يحفر أنفاقا وآبارا عميقة، مستخدما إياها لحماية نفسه وتخزين المواد الغذائية. ومع مرور الزمن، توسع استخدام الأنفاق والآبار ليشمل الاستفادة من المياه الجوفية واستغلال الثروات المعدنية.
وفي هذا المقال، نستعرض لمحة تاريخية عن دور حفر الأنفاق في أبرز الحروب عبر العصور، لننتقل في الختام إلى الحديث عن استخدامها خلال مرحلة من «الحرب العراقية الإيرانية»، وكذلك في الحرب الأخيرة على غزة في العصر الحديث.
كان الإغريق أول من لجأ إلى حفر باطن الأرض للوصول إلى المناجم، وقد بدأوا تدريجيا في توظيف هذا الأسلوب لأهداف عسكرية. ويُعدّ منجم “لورِيُون” في جنوب أثينا من أوائل الأمثلة على استخراج المعادن عبر حفر الأرض، حتى إن بعض المؤرخين يرجعون تاريخ التعدين في اليونان إلى القرن السادس قبل الميلاد.
وفي المقابل، كان في إيران أيضا استخدام لحفر الأنفاق بهدف الوصول إلى مصادر المياه الجوفية. فقد كانت الآبار الأفقية التي تصل إلى ينابيع الجبال وسيلة آمنة ومهمة، خاصة في ظل طبيعة المناخ الصحراوي، لتوفير المياه العذبة اللازمة للزراعة والشرب.
ومع مرور الزمن، دخل فن حفر الأنفاق أيضا في المجال العسكري، حيث استخدم ملوك الأخمينيين في إيران القديمة تقنية حفر القنوات، ليس فقط لتطوير مصادر المياه والزراعة، بل لتحقيق أهداف عسكرية كذلك.
وقد أشار المؤرخ اليوناني بوليبيوس، الذي عاش في القرن الثاني قبل الميلاد، إلى إتقان الإيرانيين لفن حفر القنوات المائية في عصر الأخمينيين.
من جهة أخرى، كان من أبرز ابتكارات المقدونيين، ومن بعدهم الرومان، خلال الحروب القديمة استخدامهم لحفر الأنفاق. إذ تعلموا هذه التقنية من عمال المناجم اليونانيين وطبقوها ضمن عقيدتهم العسكرية. فعلى سبيل المثال، خلال الحروب التي اندلعت في القرن الثاني قبل الميلاد بين فيليب الخامس المقدوني وأهل مدينة “برناسوس”، نجح فيليب في كسر حصار المدينة واحتلالها بفضل استخدامه لفن حفر الأنفاق.
كما استُخدمت هذه التقنية لاحقا في الحروب بين الفرثيين (البارثيين) والسلوقيين (ورثة الإسكندر المقدوني) في إيران. ومن ذلك، الحرب التي وقعت في مدينة “سرينكس” (مدينة ساري الحالية في شمال إيران)، حيث تمكن أنطيوخوس من طرد الفرثيين من المدينة عبر حفر الأنفاق.
وفي واحدة من أهم الحروب بين إيران وروما خلال القرن الثالث الميلادي، استطاع الملك الإيراني شابور الأول في معركة عام 256 ميلادي أن يسيطر على قلعة “دورا يوروبوس”، التي تقع اليوم قرب مدينة “الصالحية” في دير الزور بسوريا، باستخدام تقنيات حفر الأنفاق.
وبالمقابل، وُضعت خطط وتكتيكات لمواجهة تلك الأنفاق، كان من أبرزها إحراق الكبريت والفحم، في صورة بدائية لما يمكن اعتباره شكلا من أشكال الهجمات الكيميائية لمواجهة الحفر تحت الأرض.
وفي العصور اللاحقة، ومع دمج صناعة البارود الصيني بالتجارب الإيرانية والرومانية في مجال حفر الأنفاق، ظهرت أولى عمليات التفجير تحت الأرض. ثم انتقل هذا الأسلوب ليُستخدم على نطاق واسع في الحروب الأهلية الأمريكية في القرن التاسع عشر، واستُخدم كذلك بشكل كبير خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية.
في الماضي، كان حفر الأنفاق يتطلب تجهيزات هندسية معقدة، وهو ما جعل هذه التقنية حكرا على الجيوش النظامية التي كانت قادرة على توظيفها لخدمة أهدافها العسكرية. غير أن تطور التكنولوجيا وانتشار حركات التحرر والمجموعات غير الحكومية خلال فترة الحرب الباردة، ساهم في انتقال هذه التقنية إلى يد الجماعات غير النظامية أيضا.
وقد كان أبرز ميدان لاستخدام الأنفاق العسكرية هو حرب فيتنام، حيث تم تطبيقها باقتدار على يد الجنرال “جياب”، وزير دفاع فيتنام وأحد الشخصيات البارزة التي ألهمت الشباب حول العالم آنذاك. لقد أدى دمج استراتيجية التمويه في الغابات مع حفر الأنفاق في المناطق الوعرة إلى إطالة أمد الحرب لسنوات، وانتهى الأمر بإجبار الولايات المتحدة على الانسحاب من فيتنام. وهي التقنية ذاتها التي استُخدمت لاحقا خلال الحرب الأهلية اللبنانية، حيث أسهمت الأنفاق التي شُيدت منذ تلك الحقبة وحتى اليوم في إنشاء شبكة اتصالات تحت الأرض لصالح الجماعات المسلحة في لبنان.
أما خلال الحرب الإيرانية العراقية، فقد كان لإيران إرثٌ طويل في حفر القنوات المائية، وهو ما انعكس على تكتيكاتها العسكرية. لعب مهندسو القنوات دورا حاسما في بعض العمليات العسكرية. فبعد انهيار جيش الشاه الإيراني إثر الثورة الإسلامية، وظهور دور الجماعات التابعة للحرس الثوري، أُعيد توظيف مهارات حفر القنوات لأغراض عسكرية، وهو ما لقي استحسانا من قادة الحرس الثوري. حتى قادة الجيش النظامي تبنوا بعضا من هذه الابتكارات، كما حدث في الفرقة 21 حمزة بقيادة حسين حسني سعدي خلال عملية “الفتح المبين”، حيث استُخدم هذا الأسلوب بفعالية.
وقد ألّفت حول هذا الموضوع مؤلفات مهمة، منها كتابا “بيت العم حسين“ و”معبد تحت الأرض” اللذان يسردان دور مهندسي القنوات خلال الحرب.
ومن أبرز هؤلاء المهندسين كان غلام حسين رعيت ركن آبادي، الذي خُلِّدت قصته في هذين الكتابين. وُلد ركن آبادي في إحدى القرى القريبة من مدينة “ميبد” وسط صحراء إيران. وبالتزامن مع عملية “الفتح المبين” عام 1982، تم استدعاؤه مع فريق من ثلاثين شخصا لحفر نفق استراتيجي قرب نهر الكرخة، مما ساهم بشكل كبير في استعادة أجزاء من محافظة خوزستان لصالح القوات الإيرانية.
تميّزت حياة ركن آبادي بالبساطة والتفاني؛ إذ لم يتقاضَ أي أجر خلال فترة خدمته، وفي مايو/آيار 1983 أصيب في إحدى المعارك واستشهد لاحقا.
وفي عصر الذكاء الاصطناعي، لا تزال تقنية حفر الأنفاق تمثل أسلوبا فعالا في الحروب. فقد أثبتت معركة حركة حماس ضد إسرائيل خلال عامي 2024 و2025 أن الجغرافيا لا تزال تتفوق على التكنولوجيا. فبفضل طبيعة تربة غزة الساحلية، التي تُعدّ ملائمة لحفر الأنفاق، شُيّدت أولى هذه الأنفاق بإشراف كل من قاسم سليماني وعماد مغنية في قطاع غزة. ومع مرور الوقت، تشكلت شبكة معقدة من الأنفاق التي كوّنت مدينة تحت الأرض، موازية لما هو موجود فوق الأرض.
ورغم القصف الإسرائيلي العنيف وسقوط نحو 50 ألف شهيد من سكان غزة، إلا أن هذه الأنفاق كانت العامل الحاسم في بقاء بنية حماس العسكرية صامدة. وقد تجلى ذلك بوضوح فور إعلان وقف إطلاق النار، حيث نُظّم عرض عسكري في غزة، في دلالة واضحة على أن التنظيم العسكري لحماس استطاع الحفاظ على نفسه عبر هذه الشبكة تحت الأرض، رغم الضربات الإسرائيلية.
ولم تنجح جميع التكتيكات التي استخدمتها إسرائيل في تقويض هذا الأسلوب، سواء عبر تقنيات مكافحة الأنفاق، أو الرصد بالأقمار الصناعية، أو شبكات التجسس، أو استخدام الكلاب المدربة، أو ضخ المياه داخل الأنفاق. فقد بقيت الغالبية العظمى من هذه الأنفاق سليمة حتى نهاية الحرب التي استمرت أربعة عشر شهرا، مؤكدة مرة أخرى أن الأنفاق كانت الورقة الرابحة في هذه المواجهة.