كتب: سيد نيما موسوي
ترجمة: علي زين العابدين برهام
شهدت الأسابيع الماضية رحيل السيد محمد مداحي، الدرويش الإيراني وزعيم طريقة “خاکسار معصوم علي شاه”. لم يكن مداحي مجرد شخصية صوفية بارزة، بل كان أيضا رياضيا معروفا، حيث أدار لسنوات طويلة ناديا للمصارعة في جنوب طهران.
أقام الصوفيون الإيرانيون مراسم تأبين له في مختلف المدن تخليدا لذكراه. وبهذه المناسبة، نسلط الضوء في هذا التقرير على تاريخ التصوف في إيران، مع التركيز على فرقة “خاکسار معصوم علي شاه” ودورها في المشهد الصوفي المعاصر.
التصوف في الحضارة الإسلامية هو مزيج من الميثرائية، والفلسفة الإيرانية ما قبل الإسلام، وآراء الأفلاطونية المحدثة، حيث دخلت هذه الأفكار إلى العالم الإسلامي مع ازدهار حركة الترجمة في عهد الخليفة المأمون، ومع مرور الزمن، قام العديد من الصوفيين المسلمين بتفسير هذه الفلسفات في ضوء النصوص الدينية الإسلامية.
كان التصوف الإسلامي والفلسفة الإسلامية ثمرة التفاعل بين حركة الترجمة في العصر العباسي والتعاليم الدينية، وتنسب العديد من الطرق الصوفية، سواء في العالم الشيعي أو السني، جذورها الروحية إلى معروف الكرخي، أحد أصحاب الإمام علي بن موسى الرضا، الإمام الثامن عند الشيعة.
ورغم المكانة الروحية العميقة للصوفية، كانت هناك خلافات مستمرة بين الفقهاء والمتصوفة، خاصة حول مفاهيم مثل وحدة الوجود. إلا أن هذه التوترات خفّت مع ظهور “الحكمة المتعالية” على يد ملا صدرا الشيرازي في العصر الصفوي، حيث سعى إلى التوفيق بين الفقه والتصوف.
في العصور الحديثة، واصل علماء كبار مثل العلامة الطباطبائي والإمام الخميني هذا النهج التوفيقي. وعلى الرغم من أن الإمام الخميني كان فقيها بارزا، فإنه امتلك معرفة واسعة بأسس التصوف، وكان من أبرز شراح فكر ابن عربي في العصر الحديث.
وكما تُعد اليونان مهد الفلسفة، فإن إيران مهد التصوف، فقد كانت إيران ملتقى الهندوسية، والبوذية، والميثرائية، وتعاليم ماني، والحكمة الخسروانية (الفلسفة الإيرانية قبل الإسلام)، والإسلام، والأفلاطونية المحدثة، والفلسفة اليونانية، وأفكار زرادشت، وحتى التصوف اليهودي. هذا المزيج الفريد جعل إيران منبعا للعديد من الطرق الصوفية.
تأثرت خراسان، الواقعة على تقاطع التحولات الفكرية في آسيا الوسطى وشرق آسيا، بهذه التأثيرات الفلسفية والروحية، كما كان إقليم أذربيجان متأثرا بالمعارف الزرادشتية والفلسفة اليونانية. لكن الذروة كانت في المناطق الشمالية من إيران، مثل جيلان ومازندران، حيث انتشرت الطرق الصوفية المختلفة من العهد الصفوي حتى ظهور الحروفية، والنقطوية، والقادرية وغيرها.
كان أول ظهور جاد للصوفية في السياسة من خلال حكم السربداريين في القرن الرابع عشر، حيث لعب شيوخ الصوفية، مثل الشيخ خليفة، والشيخ حسن جوري، والدرويش الهندي المشهدي، دورا محوريا في انتصار السربداريين على حكم الإيلخانيين المغول.
في العصر التيموري، ورغم التوترات بين الدولة والصوفيين، عاد أهل التصوف إلى السلطة في العهد الصفوي، حيث أصبحوا أحد أركان الحكم، إلا أن العلاقات بين الدولة والطرق الصوفية بدأت تتراجع في النصف الثاني من العهد الصفوي، وكان أبرز مظاهر ذلك تمرد “درويش رضا” في قزوين.
أما في العهد القاجاري، فقد شهد التصوف علاقات جيدة مع السلطة، حتى إن بعض رؤساء الوزراء، مثل حاج ميرزا آغاسي، كانوا ينتمون إلى الطرق الصوفية.
حاليا، تُعد طريقة “الخاکسارية” أهم وأكبر الطرق الصوفية في إيران، حيث تمتلك عددا كبيرا من الخانقاوات في مختلف المدن الإيرانية. ويصف المؤرخ الإيراني عبد الحسین زرین كوب هذه الطريقة بأنها امتداد لطريقتي “الجلالية” و”القلندرية” في شبه القارة الهندية.
نشأت الطريقة الجلالية بعد غزو نادر شاه الهند، حيث اعتنق أتباعها المذهب الشيعي، ثم انتقلت إلى إيران في القرن التاسع عشر خلال العهد القاجاري. ومن المثير للاهتمام أن عثمان المروندي المعروف بـ”لعل شهباز قلندر”، الذي انتقل في القرن الثالث عشر من إيران إلى شبه القارة، كان الشخصية التي تشكلت حولها الطريقة القلندرية، والتي تطورت لاحقا إلى الطريقة الجلالية، قبل أن تعود مرة أخرى إلى إيران في العصر القاجاري.
كانت الجلالية تتبع بعض التقاليد الهندوسية، مثل رشّ الرماد على رؤوسهم، وهو ما جعلهم يُعرفون لاحقا باسم “الخاکسارية”، أي “الذين يغطون رؤوسهم بالتراب”. في بداياتها، لم تكن الخاکسارية مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية بسبب تأثرها بالتقاليد الهندية، لكنها تدريجيا تكيّفت مع البيئة الدينية في إيران، وأصبحت اليوم من أكثر الطرق الصوفية التزاما بالشريعة الإسلامية.
تنقسم الخاکسارية إلى ثلاثة فروع رئيسية: معصوم علي شاهية، والخاکسارية الجلالية، والنورائية.
تكمن أهمية هذه الطريقة في أنها حافظت على علاقات جيدة مع النظام الحاكم بعد الثورة الإسلامية، كما أن لديها انسجاما مع الطقوس الدينية الإيرانية وبعض علماء الحوزة، وقد ساهم أتباعها في الحرب الإيرانية – العراقية، كما يشاركون في المناسبات الدينية الكبرى مثل عاشوراء، ومولد الإمام علي بن أبي طالب، ومسيرة الأربعين، مما سمح لهم بمواصلة أنشطتهم بحرية.
إضافة إلى ذلك، فإن التزام أتباع الطريقة بالشريعة الإسلامية قلل من التوتر بينهم وبين المؤسسة الفقهية ورجال الدين، الأمر الذي ساعدهم في الحفاظ على موقعهم داخل المشهد الديني في إيران.
أما السيد محمد مداحي، المعروف بـ”مير أفضل علي شاه”، القطب الروحي لطريقة معصوم علي شاه، كان رياضيا بارعا في شبابه، حيث مارس رياضات مثل الفروسية والتزلج، لكن شهرته الكبرى جاءت من ارتباطه برياضة المصارعة. نظرا إلى أن المصارعة جزء من الثقافة الإيرانية التقليدية، فقد كان مداحي شخصية بارزة في هذا المجال، حيث أدار “ناديا للمصارعة” في جنوب طهران لمدة أربعين عامًا، وكان لهذا النادي مكانة متميزة حتى أن بعض مسؤولي الاتحاد الإيراني للمصارعة كانوا يترددون عليه.
في التصوف، كان مداحي من أتباع مير طاهر مشايخي، أحد الصوفيين البارزين في مدينة كرمانشاه، ولاحقا أصبح القطب الروحي لطريقة معصوم علي شاه. كتب العديد من المؤلفات حول المصارعة التقليدية الإيرانية، كما نشر ديوان شعر.
إلى جانب ذلك، اشتهر مداحي بإنشاد وكتابة الأشعار في مدح أئمة الشيعة، كما كان من الرواد في فن “شاهنامه خواني”، وهو تقليد يتولى فيه شخص يُدعى “الراوي” تلاوة قصص كتاب الشاهنامه للفردوسي بأسلوب ملحمي أمام الجمهور.
رغم أن أتباع طريقة معصوم علي شاه لم يصلوا إلى مكانة وتأثير أتباع طريقة “الخاکسار الجلالية”، فإن الكاريزما الشخصية لمحمد مداحي، واهتمامه بالمصارعة التقليدية، والشعر، و”شاهنامه خواني”، جعلا هذه الطريقة تحظى باهتمام واسع.
بعد الثورة الإسلامية عام 1979، حرص مداحي على النأي بنفسه عن السياسة، وسعى إلى إبقاء حركته الصوفية في حالة من التعايش مع النظام الحاكم، ومع وفاته في أواخر عام 2024، تولى ابنه جواد مداحي ” شهاب علي شاه” قيادة الطريقة.
تكمن أهمية هذه الطريقة بالنسبة للعالم العربي في أن أصلها يعود إلى العراق، حيث كانت لها خانقاوات في كربلاء منذ القدم، وقد أسسها هناك الشيخ عبد الكريم مدرس العالم، الذي كان عالما دينيا في العراق، واليوم، تمتد خانقاوات الخاکسارية إلى إيران، والعراق، والهند، وسوريا.
عكس الطريقة النعمة اللهية، التي واجهت صدامات مع السلطات الإيرانية في أعوام مثل 2006 و2017، فإن دراويش الخاکسارية حافظوا على أقل قدر من الاحتكاك مع الدولة بعد الثورة الإسلامية.
ورغم أن الخاکسارية لم تكن تُعرف بالتزامها بالشريعة الإسلامية في القرون الماضية، فإنها بعد الثورة الإسلامية عام 1979، ونتيجة لتقاربها مع النظام الحاكم، أصبحت أكثر تمسكا بالتعاليم الشرعية. كما أن العديد من أتباع هذه الطريقة شاركوا في الحرب العراقية الإيرانية، واليوم يشاركون بانتظام في المناسبات الدينية مثل مسيرة الأربعين.
حاليا، يتمتع الخاکسارية بعلاقات جيدة مع بعض علماء الحوزة، حيث كان عبد الكريم مدرس العالم، مؤسس طريقة معصوم علي شاه، فقيها في الأصل. وفي الوقت الحالي، يُعرف ناصر نقويان والسيد أحمد نجفي المعروف بـ”آقاجون” بعلاقتهما الوثيقة بهذه الطريقة. كما أن بعض قادة الحرس الثوري لهم ارتباطات بالخانقاوات التابعة للخاکسارية، ومن بينهم حسين الله كرم وسعيد قاسمي، وهما من القادة البارزين في الحرس الثوري، وكانا من المشاركين في حرب البوسنة خلال التسعينيات.
من الملاحظ أن الاهتمام بالتصوف يزداد في فترات الأزمات الاجتماعية، وعلى الرغم من أن التحديث في المجتمع الإيراني أدى إلى تراجع عام في الاهتمام بالتصوف خلال العقود الأخيرة، فإن الأزمات الاقتصادية، مثل التضخم الحاد، أدت إلى تجدد الاهتمام بالطرق الصوفية، حيث يسعى الناس إلى الروحانيات كوسيلة للطمأنينة النفسية، ويبدو أن هذا التوجه امتد حتى إلى بعض الأوساط الدينية التقليدية في إيران.