كتب- زاد إيران
شهدت العلاقات العراقية الإيرانية اضطرابات وتجاذبات مستمرة في العهد الملكي العراقي، والعهد البهلوي بايران، وهي في جوهرها خلافات تتماشى مع طبيعة ما يحدث دائماً بين الدول المتجاورة والمتشاركة في حدود طويلة، ومناطق ثروات ظاهرة أو دفينة.
في كتابه “دليل المملكة العراقية لسنة 1935-1936″، يقول محمود فهمي درويش إن إيران اعترفت نهائياً بالعراق في العام 1929 بعد أن أرسل الملك فيصل، ملك العراق، وفداً في عام 1929 لحضور احتفالات إيران بعيد التتويج لـ(الشاه البهلوي)، قبل أن يعود بنفسه لزيارة طهران بدعوة رسمية بعدها بـ3 سنوات، في العام 1932″، لـ”يسود الود والصفاء بين البلدين”، بنص تعبير المؤلف.
الثورة الإيرانية والجمهورية العراقية
صفحة جديدةٌ عنوانها الصراع والصدام بدأت بين العراق وإيران، بعد أن تصادف تفجير الثورة الإيرانية والإطاحة بالنظام الشاهنشاهي في إيران، وتولي أنصار الثورة مقاليد الحكم وإرساء قواعد حكم الجمهورية الإيرانية، تصادف مع وصول الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين للحكم، بعد إطاحته بالرئيس أحمد حسن البكر.
الصعود المتزامن في العراق لصدام المنتمي إلى حزب البعث، والثورة الإيرانية، خلق مساحة من التوتر بين الجارين اللدودين، حيث نظر نظام حزب البعث بتوجس إلى الثورة الإيرانية ومحاولات تصديرها لدول الجوار، خصوصاً أن العراق يضم عدداً معتبراً من “العتبات المقدسة” لدى الجمهور الشيعي، ويضم وجوداً سكانياً للمنتمين إلى المذهب الشيعي، فيما نظرت إيران بريبة وتخوف إلى انضمام العراق إلى اتفاقية الدفاع العربي المشترك 1980، واعتبرت ذلك اتفاقاً موجهاً ضدها بالأساس، لتندلع حرب كلامية بين الطرفين.
تبادل الاتهامات والقصف المدفعي
بحسب تقرير للباحث محمد عبد العاطي، نشره موقع الجزيرة، فإنَّ تراشق الطرفين بالاتهامات، واتهام إيران العراق بإعدام الرموز الشيعية المعارضة، واتهام العراق إيران باستغلال المذهب الشيعي لإحداث قلاقل في الدول المجاورة ومحاولة تصدير الثورة إلى الدول التي يوجد فيها منتمون إلى المذهب الشيعي، تسبب في ارتفاع وتيرة الحرب الكلامية بينهما.
التراشق الكلامي واللفظي وتبادل الاتهامات بين العراق وإيران، صحبه على خط متوازٍ تأزُّم في العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين، وهي فترة شهدت العديد من المعارك الكلامية التي تُرجمت في قرارات دبلوماسية، أبرزها سحب السفراء، وخفض التمثيل الدبلوماسي 1986، قبل أن يتحول التراشق بالألفاظ إلى تبادل قصف بالمدافع، لتندلع الحرب بسبب “الأحقية في مياه شط العرب”، لتستمر 8 سنوات (1980-1988).
حرب الخليج الأولى
استمرت الحرب العراقية الإيرانية نحو عقد من الزمان (1980-1988)، وتبادل الطرفان الاستيلاء على الأراضي وصد الهجمات وابتداء الهجمات المتبادلة، وسط دعم إقليمي- بعضه معلن وبعضه سري- لطرفي الصراع، قبل أن تنتهي الحرب بقبول آية الله الخميني وقف إطلاق النار.
الحرب التي انتهت، لم تسفر عن منتصر ومهزوم، بل أسفرت عن طرفين مُنيا بخسائر فادحة في الأرواح والاقتصاد وتدمير البنية التحتية، وبحسب تقريرٍ نشره موقع قناة الحرة نقلاً عن “ناشيونال إنترست”، فإن “الجانبين لم يستطيعا تحقيق أهداف الحرب، فالحدود لم تتغير، والجيشان انتهى بهما الحال بعد الحرب دون تغيير باستثناء الخسائر التي تعرضا لها”.
ورغم اختلاف التقديرات وغياب الإحصائيات الدقيقة عن عدد المصابين والقتلى والمفقودين، وكذلك تكلفة الخسائر الاقتصادية للحرب، فإن التقديرات المنشورة في المنصات الإعلامية تتحدث عن نحو 1-1.5 مليون قتيل، وخسائر تصل في جملتها إلى نحو 350-400 مليار دولار، غير ملايين المشردين الذين أصبحوا بلا مأوى، نتيجة الحرب.
الاحتلال الأمريكي للعراق
شكَّل احتلال العراق من قِبل القوات الأمريكية، وتعيين حاكم أمريكي (بول بريمر) حاكماً للعراق 2003، دويّاً هائلاً في المنطقة العربية بشكل عام، والخليج العربي بشكل خاص، فلأول مرة تجد إيران، نفسها على تماسٍ مباشر مع القوات الأمريكية الموجودة في العراق.
بحسب حسام بوتاني، رئيس مركز صنع السياسات للدراسات الدولية والاستراتيجية، في تصريحات لموقع الجزيرة، فإنه قسم العلاقات الإيرانية مع العراق عقب الإطاحة إلى 3 مراحل أساسية، نتيجة شعور إيران بالتفوق والصعود في المنطقة بعد التخلص من الخصم اللدود لها.
ويقسم بوتاني التعاطي الإيراني مع العراق بعد إسقاط نظام صدام حسين واحتلال العراق، إلى 3 فترات زمنية (2003-2011)، وهي الفترة التي شهدت تدعيم إيران للفصائل الشيعية الموالية لها بتقديم الدعم الكبير وصولاً إلى “تأطير الحكم الشيعي” الموالي لإيران.
ومن (2011-2014)، وهي المرحلة التي شهدت انسحاب الاحتلال الأمريكي من العراق، وثورات الربيع العربي، التي طالت سوريا، أحد أبرز الحلفاء لإيران في الإقليم، فقط تعاملت إيران في هذه المرحلة بمحاولة تشكيل خطوط موازية لملء الفراغ في العراق.
ومن 2014 وما بعدها تعتبر هي “مرحلة الكمال الاستراتيجي” الإيراني في العراق، بعد تدشين الفصائل المسلحة المرتبطة عقائدياً وولائياً بالمرشد الإيراني “الحشد الشعبي” الذي تشكل في الأساس لمحاربة تنظيم الدولة “داعش” قبل أن يتحول إلى قوة مهيمنة اقتصادياً وسياسياً على العراق.
صراع صامت بين النجف وقُم
يضم العراق العديد من المزارات الدينية المهمة لدى الشيعة، ويستقبل العديد من الزوار “الحجاج” الإيرانيين، وصل عددهم وفق تقارير إعلامية، إلى نحو 4 ملايين زائر خلال 2023، فيما تطمح إيران إلى زيادتهم ووصولهم إلى 10 ملايين زائر سنوياً، خلال العقد المقبل.
ورغم اتفاق العراق وإيران في المذهب، فإن وجود حوزتين عراقية في النجف، وإيرانية في قُم، ولَّد صراعاً مستتراً بين الطرفين تلبَّس بالسياسة أحياناً، وشهد شداً وتجاذباً كبيراً بين مختلف الأطراف السياسية، وصل الصدام لذروته بإعلان المرجع الشيعي كاظم الحائري، المقيم بإيران ويمثل مرجعية لمقتدى الصدر، اعتزاله المرجعية، ودعا مؤيديه إلى اتباع المرجع الإيراني، علي خامنئي، إثر تجاذب سياسي كبير خلفته نتائج الانتخابات العراقية البرلمانية 2022، أعقبه إعلان الصدر اعتزاله العمل السياسي.
في مقاله المنشور بجريدة الشرق الأوسط، بعنوان “الصراع الصامت بين مرجعية النجف وقم”، يقول الكاتب العراقي علاء حميد: “الصراع السياسي الصامت بين المرجعيتين (أكد) أن الاختلاف عميق، تأتي في مقدمة أسبابه أطروحة ولاية الفقيه (….)، إذ عملت مرجعية النجف الدينية (العراق) على خلق مسافة تبعدها عن السلطة لكي تحافظ على دورها الروحي، وتمارس استقلاليتها في ما يخص الأمور التي تتصرف فيها، عكس المرجعية (الإيرانية) التي تعتقد بولاية الفقيه، فإنها تريد الحضور في السلطة حتى تتولى إدارتها، ويكون لها التصرف بالشؤون العامة والخاصة”.
غضب شعبي عراقي من إيران
ملمح آخر للعلاقات بين العراق وإيران دخل على الخط في 2019، وعبَّر لأول مرة عن غضب وتململ شعبي عراقي، من النفوذ الإيراني المتزايد في العراق، وعن انضواء كثير من السياسيين العراقيين تحت العباءة الإيرانية، وهو غضب تُرجم في ذروته إلى حرق القنصلية الإيرانية في النجف، في ذروة احتجاجات بدأت ضد الفساد الحكومي ومطالبة بالتعيينات، وانتهت إلى حرق القنصلية الإيرانية عدة مرات في أوقات متقاربة، وكذلك هتافات مناهضة لإيران وحرق صور لمسؤولين وشخصيات دينية عراقية وإيرانية.
الصورة التي اتخذتها الاحتجاجات والتي قوبلت بتصدٍّ عنيف من قوات الأمن العراقية، خلَّف عدداً من القتلى والجرحى، أرجعها الكاتب العراقي أزهر الربيعي، في دراسة له نشرها معهد واشنطن، إلى رفض الشعب العراقي النفوذ الإيراني وسيطرة الميليشيات المدعومة إيرانياً على مقدرات البلاد.