مثلت عودة محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني الأسبق (2013-2021)، ومفاوضها الأبرز في الاتفاق النووي عام 2015، إلى الخطوط الأمامية للسياسة الإيرانية، دعمًا لـ “الإصلاحي” مسعود بزشكيان، قفزة مفاجئة رأى فيها كثير من المراقبين للشأن الإيراني ترجيحًا لكفة بزشكيان، لكنهم لم يتوقعوا فوزه؛ ليصبح بزشكيان الرئيس التاسع للجمهورية الإيرانية، ويصبح ظريف أيضًا في نظر الكثيرين الشخصية صانعة الملوك.
لكن تلك القفزة سبقها عودة في مارس 2024 من جديد إلى انتقاد ما وصفه في مقابلات صحفية بضعف وزارة الخارجية الإيرانية، وعجزها عن صنع السياسات، نتيجة الافتقار للصلاحيات، وكونها مجرد منفذ لسياسات المرشد الأعلى في النظام الإيراني علي خامنئي، واصفًا السياسة الخارجية الإيرانية بـ “الفوضى”، وفقًا لحواره مع صحيفة “بيام ما” الإيرانية في الرابع من مارس الماضي.
كان ظريف قد قضى نحو عامين مبتعدًا نسبيًا داخل الوسط الأكاديمي عن الأضواء السياسية، بعدما ترك منصبه في أغسطس عام 2021، بعد أشهر من الجدل صاحب تسريبًا صوتيًا له امتد لنحو 3 ساعات، وبحسب موقع دويتشه فيله الألماني، فقد تحدث ظريف في التسريب بلغة نادرة في أروقة السياسة الإيرانية، منتقدًا نفوذ قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، في السياسة الخارجية لإيران، مؤكدًا انعدام نفوذه كوزير للخارجية، وملمحًا إلى أن سليماني حاول إفساد اتفاق إيران النووي لعام 2015 بالتواطؤ مع روسيا.
وقد أوردت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، مقتطفات من التسجيل الذي تم تسريب نسخة منه إلى القناة الإخبارية الفارسية “إيران إنترناشيونال”، جاء فيه على لسان ظريف “في الجمهورية الإسلامية الميدان العسكري هو الذي يحكم … لقد ضحيت بالدبلوماسية من أجل الميدان العسكري، بدل أن يخدم الميدان الدبلوماسية”، وأن “هيكلية وزارة الخارجية ذات توجه أمني غالبًا”.
تصريحات ظريف في التسجيل تبعها تحذير من المرشد الأعلى الإيراني خامنئي، فقد علق في 2 مايو 2021، عبر خطاب متلفز بمناسبة يوم المعلم والعمال، على ما جاء في التسريب، – وإن لم يذكر ظريف صراحة – بكونه تكرارًا لما تردده الولايات المتحدة.. متابعًا “لا يجب إبداء ملاحظات تستحضر كلمات العدو”، كما أكد فيه حينه أيضًا عبر حسابه على موقع تويتر أن السياسة الخارجية في إيران يحددها “المجلس الأعلى للأمن القومي”، أما وزارة الخارجية، فهي مُنفّذة.
اعتذار وطلب الصفح
تحذير تبعه اعتذار من ظريف “للجميع” عبر حسابه على موقع انستجرام، مضيفًا بحسب “دويتشه فيله”، أن التسريب “جرح المشاعر الصادقة لمحبي الشهيد البارز اللواء قاسم سليماني وعائلته … خصوصًا ابنته زينب التي تعزّ عليّ كأولادي”، وتابع: “لقد سامحتُ كل من أعتقد أنه اتهمني … وآمل أن يسامحني أيضًا شعب إيران العظيم، وكل محبي السردار، وخصوصًا عائلة سليماني النبيلة”.
وتابع مؤكدًا أن “الملاحظات التي أدليت بها … لا تقلل من المقام والدور الذي لا غنى عنه للشهيد سليماني”، مضيفًا: “لكن لو كنت أعلم أن كلمة منها سيتم نشرها علنًا، بالتأكيد لما كنت قلتها”.
وبالنظر إلى مضمون اعتذار ظريف لا يبدو أنه يعتذر عما قاله بقدر اعتذاره عما تسبب به تسريب التسجيل، وفي حينه فسر بعض السياسيين الإيرانيين من المعسكر المحافظ خطاب خامنئي على أنه نهاية وصفعة قاسية على وجه ظريف، وألمح بعضهم إلى افتعال الإصلاحيين لحادثة التسريب وأنهم لم يعتقدوا أنها ستؤدي إلى نهاية مسيرة ظريف السياسية.
ووفقًا لموقع بي بي سي عربي، فإن التعليقات التي صدرت عن باحثين وسياسيين إيرانيين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أبرزت أهمية الدور الذي يقوم به وزير الخارجية وأظهرت انقسامًا حادًا بين معسكرين، من يتهمونه بخيانة الأسرار القومية ومن يعتبرونه ضحية لعملية تسريب بسبب قصور أمني.
وبحسب بي بي سي، يقول المعارض الإيراني المقيم في لندن علي نوري زاده، إن أهمية هذه التسريبات هو كشفها لعدم وجود مركز واحد في مؤسسة الحكم الإيراني، وأن المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي ليس الحاكم المطلق. “يمكنك أن تتحدث عن “ملوك طوائف” داخل النظام، هناك قادة في الأمن والمخابرات والحرس الثوري لكن بالأساس، العسكريون هم من يحكمون”.
فيما تشير بي بي سي أيضًا إلى أنه وبالرغم من احتفاء المعارضة الإيرانية بالتسجيل إلا أنها هونت من قيمته فيما يتعلق بوجود صراع داخل النظام، فما ورد في المقابلة يشير إلى “ولاء ظريف للنظام وليس خروجه عليه، وأنه يريد للنظام أن يعمل بكفاءة أفضل”. وذهب نوري زاده للقول إن “ظريف ليس رجلًا انقلابيًا، ولم يطعن في عقيدة ولاية الفقيه مثلًا، فهو ابن لنظام الثورة الإسلامية”.
ما هو مستقبل ظريف السياسي إذن؟
في معرض التسريبات نقلت بي بي سي عن الباحث محمد صالح صدقيان، مدير المركز العربي للدراسات الإيرانية في طهران أن “من يقف وراء التسريب هو جهة تريد إلحاق الضرر بأي نجاح قد يحققه ظريف وفريق المفاوضات النووية، وبفرص ظريف “الكبيرة جدًا” في الترشح والفوز في الانتخابات الرئاسية” عن التيار الإصلاحي في ظل ما يصفه بالفوضى التي يتعرض لها الجناح الأصولي أو المحافظ، وأن جهات كثيرة، يمكنها تضييق الخناق على ترشح ظريف ليس من بينها المرشد الأعلى، مشيرًا إلى مجلس صيانة الدستور ومجلس تشخيص مصلحة النظام ومجلس الشورى، التي تقع كلها تحت سيطرة المحافظين. كما يشير إلى أن مرشحًا محافظًا قويًا مثل رئيس السلطة القضائية إبراهيم رئيسي يمكن أن يمثل تهديدًا لترشح ظريف وفوزه.
ولكن هل يريد جواد ظريف فعلًا الوصول إلى الرئاسة؟ «قطعا لا» كانت تلك إجابته، عندما سأله في ديسمبر 2020، صحفي في قناة “تولو” الأفغانية: “هل ستترشح للرئاسة؟” استتبعها الصحفي بسؤال عما إذا كان متعبًا، ليرد ظريف قائلًا: «لا، أعرف قدراتي ولا أرى نفسي قادرًا على القيام بهذه المهمة».
في مقاله عن الانتخابات الإيرانية 2021 على موقع مؤسسة المجلس الأطلسي، بعنوان لماذا يريد أي شخص – بما في ذلك محمد جواد ظريف – أن يصبح رئيسًا لإيران؟ يسرد أستاذ دراسات الشرق الأوسط، جون ليمبرت، تلك الواقعة مناقشا ما قد يعتمل في صدر ظريف من تطلعات، وما إذا كان منصب الرئاسة في إيران يمكن أن يكون براقًا بالنسبة له بالنظر لكل التحديات التي تحيط به، واصفًا سلطة أي رئيس إيراني بسلطة ملك فرنسا في العصور الوسطى، الذي تحكمت به الكنيسة والنبلاء.
بحسب ليمبرت، فعندما قال ظريف “قطعا لا” لسؤال المحاور، ربما كان بذلك يرفض بشكل مباشر الترشح. أو ربما كان يمارس “التعارف”، وهو شكل إيراني من الاستنكار الذاتي المهذب الذي يهدف إلى إثارة دعوات أقوى ليكون مرشحا.
ويعرض ليمبرت لمسيرة ظريف المهنية الطويلة في الأوساط الأكاديمية والخدمة العامة، منذ كان لا يزال طالبًا في الحادية والعشرين من عمره في جامعة ولاية سان فرانسيسكو، وعمله كعضو في وفد إيران إلى الأمم المتحدة وعرض قضية إيران خلال الحرب الإيرانية العراقية.
وصولا إلى منصب وزير الخارجية منذ انتخاب حسن روحاني رئيسًا سابعًا لإيران في عام 2013. لكنه يقول إن تلك المسيرة الدبلوماسية ابتعدت عن سياسة الانتخابات والتنافسية، بالرغم من تعامل ظريف مع بعض المشكلات الأكثر حساسية في إيران، لا سيما خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015 (الاتفاق النووي)، والذي تركت المعارك حوله ندوبًا مع انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية في ظل إدارة ترامب، ليصف المعارضون للاتفاق ظريف بأنه “خائن” داعين إلى محاكمته ومعاقبته. وفي فبراير 2019، استقال ظريف من منصبه، بعد استبعاده من زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى طهران، إذ رفض روحاني الاستقالة – على الأرجح بسبب موقفه من المرشد الأعلى.
تلك النكسات بحسب ليمبرت قد شوهت جاذبية ظريف، إلا أن المعسكر الإصلاحي البراجماتي قد يلجأ إلى ظريف لتشجيع الناخبين على التصويت في الانتخابات الرئاسية الإيرانية (التي فاز بها إبراهيم رئيسي) – ولو لمجرد منع فوز إيديولوجي آخر.
وبنظر ليمبرت فبعد أربعين عامًا من الخبرة في الدبلوماسية والأوساط الأكاديمية، فإن ظريف ليس غريبًا على الازدواجية والخداع والوعود الكاذبة. ومع مثل هذا الإعداد، قد يبدو مؤهلًا بدرجة عالية ليكون رئيسًا لإيران. ومع ذلك، يظل من غير المؤكد ما إذا كان يتمتع بالمزاج والموهبة والجرأة اللازمة للتعامل مع السياسة الانتخابية.
وبخروجه من الوسط الأكاديمي لدعم بزشكيان، عائدًا إلى الخطوط الأمامية في السياسة الإيرانية، واجه ظريف مضايقات في التجمعات العامة، وحظرًا صريحًا تامًا من إحدى الجامعات، وادعاءات بأنه يسعى لتصفية حسابات مع أولئك الذين أحبطوا سياسته الخارجية عندما كان في منصبه بين عامي 2013 و2021. بحسب ما كتبه المحرر الدبلوماسي لصحيفة الجارديان البريطانية باتريك وينتور في مقالة عن دعم ظريف لبزشكيان.
وفقًا لموقع الجزيرة، فقد ساهم جواد ظريف وسفره إلى مقاطعة خوزستان، وهي مقاطعة بها عدد كبير من السكان العرب، في حسم تعبئة الأقليات العربية، وتعزيز التزام بزشكيان بالشمولية والمساواة، وشددت خطاباته على أهمية المشاركة العربية في السياسة الوطنية وحددت الإصلاحات الاقتصادية المصممة لتحسين نوعية الحياة في المحافظة ذات الثروات النفطية والغازية والمائية، إضافة أيضا إلى جولات الدعم التي أجراها الإصلاحيون في المراكز الحضرية الكبرى بقيادته.
الدور الهام الذي لعبه جواد ظريف في حملة بزشكيان الانتخابية، وصولا به إلى سدة الرئاسة، يجعل من المنطقي أن يتبوأ ظريف منصبا في حكومة بزشكيان، لكن وبحسب العربية نت فقد أعلن ظريف في وقت سابق أنه لن يتبوأ أي منصب وذكرت مصادر إعلامية أن قرار ظريف ناتج عن معرفته بمعارضة البرلمان له، لكنه الآن يترأس المجلس الذي سيلعب دورًا رئيسيا في رسم صورة حكومة الرئيس الإيراني المنتخب، فهل يكون ذلك أمرا مؤقتا أم سيفتح الباب ويحيي لاحقًا تطلعًا ربما راوده لمنصب آخر؟