كتب: مصطفى أفضل زادة، مراسل “زاد إيران” في طهران
ترجمة: علي زين العابدين برهام
يعيش الشعب الإيراني خلال شهر رمضان المبارك أجواء روحانية خاصة، تملأ أيامهم ولياليهم بنفحات إيمانية مميزة.
ومن أبرز العوامل التي تسهم في تعزيز هذا الشعور، ما تقدمه القنوات التلفزيونية من برامج ومسلسلات رمضانية تُعرض خصوصا لهذا الشهر الفضيل، خاصةً في أوقات السحر وما قبل الإفطار وبعده.
من بين هذه البرامج يبرز برنامج «محفل»، وهو برنامج لاكتشاف المواهب القرآنية، يُعرض يوميا قبيل الإفطار ويستمر حتى أذان المغرب على شاشة التلفزيون الإيراني.
يُعتبر «محفل» من أبرز وأثرى البرامج القرآنية، وقد نجح- بشهادة العديد من المتابعين- في أن يكون أنجح برنامج قرآني بعد الثورة الإسلامية في إيران، حيث استطاع جذب جمهور واسع ومتنوع.
يمتاز البرنامج بطابعه القصصي، إذ يشارك كل ضيف من ضيوفه قصة شخصية ترتبط بالقرآن الكريم، مما يضفي على حلقاته عمقا إنسانيا وروحانيا يُلامس قلوب المشاهدين، ويجعل من القرآن محورا جامعا يوحّد المسلمين من مختلف أنحاء العالم.
حتى اليوم، عُرض موسمان من برنامج «محفل» خلال السنوات الماضية، ونجح في أن يحظى بإقبال واسع ليس فقط بين المشاهدين الإيرانيين، بل حصد أيضا تفاعلا إيجابيا ملحوظا من الجمهور خارج إيران.
ووفقا للإحصاءات الصادرة عن مركز الرصد التابع لإدارة الفضاء الرقمي في هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية، فقد سجلت بعض مقاطع البرنامج، خاصةً تلك التي شارك فيها القارئ الطفل «صالح مهدي زادة» البالغ من العمر 11 عاما، نحو 100 مليون مشاهدة على منصات التواصل الاجتماعي حتى الآن.
أما الموسم الثالث من برنامج «محفل»، والذي يُعرض حاليا، فقد شهد تغييرات جوهرية، أبرزها تجديد تشكيلة لجنة التحكيم الدولية. ومن أبرز هذه التغييرات انضمام وجوه جديدة إلى جانب الأعضاء المعروفين، حيث يواصل البرنامج استضافته أسماء بارزة مثل القارئ الدولي وحافظ القرآن «حامد شاكر نجاد»، والخبير القرآني القدير «أحمد أبو القاسمي»، وأستاذ الحوزة والجامعة «غلام رضا قاسميان»، والقارئ العراقي «حسنين الحلو»، وقد انضم إليهم هذا الموسم «سيد جلال معصومي»، الخبير القرآني الأفغاني المقيم في لندن، ليضيف بعدا دوليا جديدا للبرنامج.
يحرص برنامج «محفل» على تقديم رؤية مبتكرة ومغايرة للبرامج القرآنية التقليدية، حيث يسعى إلى إدخال آيات القرآن الكريم في تفاصيل الحياة اليومية وكسر القوالب الذهنية النمطية المتعلقة بالقرآن.
كما يعكس تصميم ديكور البرنامج، المستوحى من صورة مسجد الأقصى، اهتماما كبيرا بالقضايا الراهنة والتطورات الإقليمية، لا سيما قضية فلسطين.
وفي تصريح له لإحدى الوكالات الإخبارية الإيرانية، وصف القارئ العراقي وعضو لجنة التحكيم «حسنين الحلو»، برنامج «محفل» بأنه “أول ثورة قرآنية عالمية منذ نزول الوحي”، مؤكدا أن العالم الإسلامي لم يشهد، منذ نزول القرآن، مبادرة بهذا العمق والتأثير لتجديد الخطاب القرآني.
استضاف برنامج «محفل» نخبة من القرّاء والضيوف من مختلف أنحاء العالم، ما أضفى عليه طابعا عالميا وإنسانيا مميزا. من بين أبرز هؤلاء الضيوف، القارئ ولاعب نادي أرسنال الإنجليزي «محمد أيوب عاصف»، والمغني الكوري المسلم حديثا «داود كيم»، اللذان شاركا تجربتهما الفريدة مع القرآن الكريم وأثره العميق في حياتهما.
كما حلّ ضيفا على البرنامج «هادي نبيل»، أحد جرحى حادثة انفجار صهاريج الوقود في لبنان، برفقة زوجته «مهيا عباس»، حيث تحدثا عن رحلتهما مع الألم والصبر، وكيف كان الإيمان ملاذهما في مواجهة المحنة.
ومن الضيوف المؤثرين أيضا «كوثر نقي آوا» من أذربيجان، التي روت قصتها المؤلمة، حيث تعرضت للتعذيب على يد عائلتها بسبب اعتناقها الإسلام وتمسكها بالحجاب. وقد وجدت في «محفل» منبرا لتوثيق معاناتها ومشاركة تجربتها مع الجمهور.
أما من أبرز اللحظات التي لامست قلوب المشاهدين، فكانت مشاركة الطفل «أمير علي موسى زادة»، المصاب بالتوحد. فعلى الرغم من أنه لا يجيد القراءة ولا النطق بسبب حالته الصحية، فإنه أبهر الجميع بموهبته الاستثنائية؛ إذ كان بمجرد سماع أي آية من القرآن الكريم، يفتح المصحف فورا على الصفحة التي تحتوي تلك الآية بدقة مدهشة.
وقد أوضح والداه أنهما اكتشفا هذا الأمر حين كان في الثامنة من عمره، عندما لاحظا تفاعله اللافت مع القرآن، حيث كان يُمسك بالمصحف ويبحث عن الآية التي تُتلى أمامه بسرعة مذهلة.
يُبرز «محفل» من خلال استضافة هذه الشخصيات المتنوعة كيف أن القرآن الكريم يوحّد القلوب من مختلف الجنسيات والثقافات، ليؤكد أن رسالة القرآن عالمية، تتجاوز الحدود والأعراق، وتصل إلى أعماق النفس البشرية.
برنامج «محفل» بتركيزه على القرآن الكريم ونشر تعاليمه السامية، استطاع أن يحجز لنفسه مكانة خاصة في قلوب ملايين المشاهدين، ليصبح ظاهرة ثقافية لافتة خلال شهر رمضان المبارك.
لم يعد البرنامج مجرد مصدر إلهام ديني للمسلمين، بل تحوّل إلى جسر تواصل حي يربط بين مختلف الثقافات والمجتمعات، ويعكس روح الإسلام الجامعة.
الابتكار والعناية في إعداد وتقديم «محفل» كانا واضحين في كل تفاصيله، حيث نجح القائمون عليه في تقديم تجربة إعلامية تُقرّب مختلف شرائح المجتمع من القرآن الكريم. وكما يؤكد المنتج «هاشمي كلبايكاني»، فقد كان الهدف منذ اللحظة الأولى هو البحث عن الطرق التي تجعل الناس أكثر قربا من القرآن، مع الحرص على أن يترك البرنامج أثرا إيجابيا ملموسا في نفوسهم، خاصة في شهر رمضان، الذي يُعتبر فرصة ذهبية لتعميق هذا الارتباط الروحي.
ما يميز «محفل» أيضا هو قصص الضيوف الذين يعرضون تجاربهم المتنوعة مع القرآن، مما يعكس عمق التجربة الإنسانية واتساعها. هذه الروايات، التي تُقدَّم ببساطة وصدق، ساهمت في تعزيز التضامن والتقارب بين المسلمين حول العالم. ويبدو جليا أن الجمهور لم يكن معتادا قبل «محفل» على رؤية هذا الجانب الإنساني القريب من حياة القراء وحفّاظ القرآن. كما أن الجمع بين المسلمين من مختلف المذاهب، من الشيعة والسنة، وتقديم صورة واقعية عن علاقتهم الأخوية، يحمل رسالة واضحة، مفادها أن القرآن هو الرابط الذي يوحدهم.
ويشير كلبايكاني إلى أن البرنامج حقق صدى واسعا ليس فقط في الداخل الإيراني، بل أيضا بين فئات لم تكن بالضرورة من جمهور البرامج القرآنية. حتى إن بعض القنوات التلفزيونية في مصر بثّت أجزاءً من «محفل»، وهو ما يعكس نجاح البرنامج في إيصال رسالة أن القرآن الكريم هو اللغة المشتركة بين المسلمين، وأنه يمكن أن يكون وسيلة فعالة لتعزيز الدبلوماسية القرآنية بين الشعوب.
ولا يقتصر دور «محفل» على تقديم التلاوات القرآنية فحسب، بل يسعى أيضا إلى غرس قناعة راسخة لدى جمهوره بأن الثقة بالله هي السبيل لتجاوز الأزمات والتحديات. ومن خلال رؤيته المتجددة ومحتواه العميق، بات البرنامج نموذجا إعلاميا رائدا في المشهد الديني، يقدم مزيجا من الإيمان، والأمل، والوحدة الإسلامية في آن واحد.