ترجمة: علي زين العابدين برهام
النص التالي هو تحرير لمقابلة هادي معصومي زارع، الخبير في دراسات الشرق الأوسط، مع برنامج “جدال”. تستعرض هذه السلسلة تاريخ العلاقات بين النظام السوري وإيران، والتطورات التي مرت بها منذ نشأتها حتى اليوم. وتعدّ هذه الحوارات من بين الدراسات النادرة التي تناولت الموضوع بهذا العمق والشمولية، حيث تم تحريرها تحت إشراف معصومي زارع نفسه، وستُنشر في سلسلة من المقالات.
أشرف على تحرير وإعداد هذه الحوارات علي رضا فرشجي، الباحث في الفقه والعلاقات الدولية. جدير بالذكر أن هذه المقابلة أُجريت عام 2021 خلال فترة حكم حزب البعث في سوريا. وفي ما يلي نص الحوار:
ما هو نظام البعث؟ من أين أتى؟ ما هي طبيعته؟ ما هي طبقاته؟
منذ بداية الثورة الإيرانية، لم تكن العلاقات بين سوريا وإيران نتاج موقف موحّد داخل النظام السوري، بل كانت محكومة بصراع بين تيارين رئيسيين. الأول يُعرف بـ”الحرس القديم”، وهو التيار المهيمن آنذاك، ويمثل نخبة بعثية تقليدية لم تكن دائما على وفاق مع إيران.
أما التيار الثاني فتمثّله عائلة الأسد والدائرة الضيقة المحيطة بهم، الذين كانوا في البداية أقلية داخل النظام، لكنهم أظهروا تقاربًا أكبر مع إيران، خصوصا في مرحلة ما قبل الأزمة السورية (2008-2010)
هذه الثنائية توضّح أن النظام السوري لم يكن كتلة واحدة في تعاطيه مع إيران، بل كان مليئا بالديناميكيات والتقلبات الداخلية، مثل أي دولة أخرى كالولايات المتحدة التي تحتوي على أحزاب ولوبيات مختلفة.
لفهم العلاقات السورية-الإيرانية بشكل دقيق، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار هذه الانقسامات التي أثرت على السياسات المتبعة، ما يجعل الصورة أكثر تعقيدا مما تبدو عليه في الظاهر.
من أبرز وجوه “الحرس القديم” في النظام السوري: عبدالحليم خدام، وفاروق الشرع، ومصطفى طلاس، وغازي كنعان، وحكمت الشهابي، وعبدالله الأحمر (محافظ حمص السابق)، إضافة إلى عدد كبير من الشخصيات الأمنية والسياسية والاقتصادية.
هذا التيار يتميز بتعصبه الشديد للقومية العربية وأيديولوجيا البعث، حيث يُعدّ العداء لإيران والعجمية من ركائزه الأساسية. فالقومية العربية، كما يرونها، تُعرّف نفسها جزئيا من خلال التناقض مع إيران.
الـ”حرس القديم” في النظام السوري تميز بعدّة خصائص شكلت عقبة كبيرة أمام توثيق العلاقات بين سوريا وإيران. أولا، يتبنى هذا التيار قومية عربية متعصبة تتصادم مع الهوية الإيرانية، ويميل إلى العلمانية الراديكالية لدرجة محاربة المظاهر الدينية مثل الحجاب والصلاة في الجيش.
ثانيا، ينظر إلى حركات المقاومة (مثل أمل وحزب الله) كأدوات ضغط ضد إسرائيل وأمريكا فقط، لا كحلفاء استراتيجيين. هذا التيار كان وراء تحريض أمل على حزب الله، بل تورّط في قمعه، وكان يعارض بشدة أي تقارب استراتيجي بين إيران وسوريا رغم محاولات حافظ الأسد.
ثالثًا، حاول هذا التيار تقوية علاقاته مع الغرب والدول العربية المناهضة لإيران، مثل السعودية، وسعى أحيانا إلى التفاوض مع إسرائيل، خلافًا لرؤية الأسد. كما أقام علاقات وثيقة مع شخصيات لبنانية معروفة بعدائها لمحور المقاومة، كرفيق الحريري وجنبلاط.
هذه السياسات المتقلبة التي ميزت العلاقة مع إيران، تعكس الصراع الداخلي بين “الحرس القديم” والتيار القريب من عائلة الأسد. ومع أن حافظ الأسد كان براغماتيا، إلا أنه في أواخر حياته اقتنع بأن المقاومة خيار استراتيجي، معلنا أنه “لا خيار إلا المقاومة”.
بعد وفاة حافظ الأسد عام 2000، كان عبدالحليم خدام وبعض رموز “الحرس القديم” يطمحون لتولي الرئاسة، لكن اختيار بشار الأسد خيّب آمالهم وأحدث شرخا بينهم. في عام 2001، أطلق بشار ما عُرف بـ”ربيع دمشق”، وهو مشروع إصلاح سياسي واجه مقاومة شرسة من الحرس القديم الذين شعروا بأن الإصلاحات تهدد وجودهم.
بدءا من 2004، بدأ بشار الأسد حملة تطهير داخلية ضد هذا التيار، أدت إلى تراجع كبير في نفوذه، رغم بقاء بعض الشخصيات مثل وليد المعلم (الذي توفي لاحقا) وعلي مملوك. يمكن القول اليوم إن الحرس القديم فقد معظم قوته داخل النظام، وإن كانت له بقايا محدودة في البنية السياسية السورية.
هل كان أعضاء “الحرس القديم” في سوريا كلهم من العلويين؟
لا، هذا تصور خاطئ. صحيح أن رأس النظام (مثل حافظ وبشار الأسد) من الطائفة العلوية، لكن حزب البعث حزب غير ديني، ولا يقوم على أسس طائفية.
معظم المناصب السياسية في سوريا منذ 1963 حتى 2023 كانت بيد السنّة، مثل:
- نوّاب الرئيس
- وزراء الدفاع (مثل مصطفى طلاس)
- وزراء الخارجية (مثل فاروق الشرع)
- رؤساء الحكومات
- كذلك الكثير من رموز “الحرس القديم” كانوا من السنّة، مثل عبدالحليم خدام، إلى جانب عدد من العلويين أيضا.
أما المناصب الأمنية، فقد كانت بين العلويين والسنّة، خاصة في عهد بشار الأسد.
المهم: الحرس القديم لم يكن مجرد زينة! كان يملك قوة فعلية، لدرجة أنهم كانوا قادرين حتى على تنفيذ انقلاب ضد حافظ الأسد، لكنهم لم يفعلوا ذلك لأنهم كانوا ينتظرون دورهم في تسلم السلطة من بعده.
وبعد عام 2004، بدأ بشار الأسد بتصفية هذا التيار تدريجيا حتى أضعفه بشدة وفقد تأثيره الكبير.
إذن، أنت تقول إن نظام حافظ الأسد لم يكن نظاما دكتاتوريا بالمعنى الذي يكون فيه صاحب السلطة المطلقة، ولم يكن نظاما فرديا بقدر ما كان نظاما حزبيا، حيث كان هناك توازن بين قوة حافظ الأسد – الذي كان عنصرا ثقيلا بلا شك – وبين أعضاء الحزب الآخرين الذين ربما كانت قوتهم مجتمعة تفوق قوته. وكانت قدرة حافظ الأسد على المناورة محدودة. وهذه نقطة مهمة جدا.
النظام السوري في عهد حافظ الأسد لم يكن دكتاتورية فردية مطلقة، بل كان نظاما حزبيا توزعت فيه السلطة بين أجنحة البعث المختلفة. فبالرغم من نفوذ الأسد الكبير، إلا أن قوة الأعضاء الآخرين مجتمعةً كانت تفوق قدرته على المناورة السياسية.
هذه الديناميكية تنطبق أيضا على إيران، حيث يخطئ كثير من المحللين الغربيين في تصوير المرشد الإيراني كصاحب سلطة مطلقة، بينما الواقع يعكس توزعا للقوة بين مؤسسات وأفراد متعددين. حتى في العهد البهلوي، لم يكن الشاه يمتلك صلاحيات مطلقة.
القاعدة التاريخية تؤكد أن أي حكم مستقر يحتاج إلى مراعاة توازنات القوى الداخلية. فالحكام الذين يتجاهلون هذه الديناميكيات تكون فترة حكمهم قصيرة الأجل.
هل كان نظام سوريا لديه ولاء غير مشروط لموسكو أم كما نعلم، كانت عائلة الأسد والنظام البعثي يحاولان التقرب من أمريكا ويحاولون البقاء محايدين؟ وما هي العلاقة الدقيقة بين نظام البعث السوري والأسد وبين الغرب والشرق؟ في حديثك، كان هناك تركيز على الإمبريالية. كيف يمكن أن تكون سوريا عدوة لإسرائيل وتعتبر ذلك أمرا حيويا، وفي نفس الوقت تكون علاقتها مع إيران على نفس النحو؟
بالطبع كان هناك. ما أقوله هو أن النظام السوري، مثل جميع الأنظمة اليسارية في العالم، كان يُصنف ضمن الكتلة الشرقية ولديه علاقات استراتيجية مع الكتلة الشرقية والاتحاد السوفيتي السابق. المعدات العسكرية السورية كانت في الغالب من المعدات الشرقية. في الحرب السورية ضد إسرائيل، كانت الغالبية أو جميع الأسلحة السورية توفرها الاتحاد السوفيتي.
إذا قمت بزيارة جنوب سوريا، ستجد أن الاتحاد السوفيتي قد صمم هناك مواقع تحت الأرض قوية للغاية ومنصات صواريخ، وأعطى سوريا دفاعا جويا، ودبابات تي-72 بأعداد كبيرة.
كانت سوريا هي الحليف الوحيد للاتحاد السوفيتي في المنطقة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط. كانت هذه العلاقات بين الاتحاد السوفيتي وسوريا في تلك الفترة علاقات استراتيجية، على عكس العلاقات السورية مع إيران التي كانت فقط بسبب الحاجة والضرورة المتبادلة.
في الثمانينات، بدأ الاتحاد السوفيتي أولا بالتورط في أفغانستان، وأصبحت علامات الضعف واضحة في الاتحاد السوفيتي، خاصة في السنوات الأخيرة من الثمانينات وبعد حرب إيران والعراق.
كما قلت، عندما سافر الرئيس حافظ الأسد إلى الاتحاد السوفيتي، أدرك أن الاتحاد السوفيتي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة. هناك، في مجلس الشعب السوري، أكد أنه لم يعد أمامنا خيار سوى المقاومة. بمعنى أننا نرى أن الاتحاد السوفيتي كان ينسحب تمامًا من هذه المنطقة، وبقيت سوريا مع إيران وهذه الحركة حزب الله في لبنان والمجموعات الفلسطينية.
جملة حافظ الأسد مثيرة جدا. في أي سنة هي؟ هل المقصود بالمقاومة إيران وحزب الله؟
الجملة التي ذكرها حافظ الأسد تتعلق بفترة أواخر الثمانينات أو بداية التسعينات، وتحديدًا في عام 1988 أو 1989.
المقصود من “المقاومة” في تلك الفترة كان بشكل أساسي في لبنان، حيث كانت المقاومة في فلسطين قد بدأت بشكل محدود جدًا في ذلك الوقت. المقاومة في لبنان بدأت بشكل كبير بعد حوالي 3 إلى 4 سنوات من القرار الرسمي بذلك.
حافظ الأسد، بعد رحلته إلى الاتحاد السوفيتي في تلك الفترة، أدرك أن الكتلة الشرقية التي كان يمكن أن تعتمد عليها سوريا بدأت تتلاشى. ومن هنا بدأت رؤيته في السياسة تتغير، حيث بدأ يبتعد عن النظرة المادية التقليدية التي كانت سائدة في السابق وبدأ يقترب أكثر من الرؤية الإيرانية المتعلقة بالمقاومة، مما يظهر نضجًا في تفكيره السياسي.