كتبت: ميرنا محمود
أصبح من الممكن اليوم التفوق في سباق الابتكار بتكلفة منخفضة نسبياً باستخدام أجهزة الكمبيوتر والبرامج. لكن ما زالت هناك حاجة واحدة مُلحة: إطار مؤسسي شامل لتمكيننا من احتلال مكانة مرموقة في عصر الذكاء الاصطناعي. وهنا تبرز أهمية الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي والرؤية التركية للذكاء الاصطناعي في السياسة الخارجية.
نقلاً عن التقرير المنشور في المجلة الشهرية للسياسة والمجتمع والاقتصاد كريتار (KRİTER) التركية بتاريخ 1 سبتمبر/أيلول 2024، والذي جاء فيه:
كان الخطاب الذي أدلى به وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في سان فرانسيسكو في مايو/أيار 2024، مؤشراً على معدل تصاعد المنافسة التكنو-سياسية على الصعيد العالمي.
يسعى بعض منافسينا الاستراتيجيين لتحقيق هدف مختلف تماماً. إنهم يستخدمون التكنولوجيا الرقمية والبيانات الجينية للتجسس على شعوبهم وقمع حقوق الإنسان. كما يستغلون هيمنتهم على سلاسل التوريد الحيوية للضغط على الحكومات الأخرى. ويستخدمون أدوات الذكاء الاصطناعي لتعميق الانقسامات وتقويض الديمقراطيات. (…) مهمتنا هي استخدام الدبلوماسية لتدويل وإضفاء الطابع المؤسسي على رؤيتنا لـ “التكنولوجيا من أجل الخير”. ولا شك أن الذكاء الاصطناعي يحمل إمكانات واعدة لدعم العديد من أهداف سياستنا الخارجية.
تتوسع المنافسة التكنو-سياسية بين الولايات المتحدة والصين لتشمل جميع جوانب الثورة الصناعية الرابعة، بدءاً من مجال الذكاء الاصطناعي. وهذه المنافسة غير المعلنة تشمل سباق تطوير الذكاء الاصطناعي التوليدي وصولاً إلى هيمنة سلاسل التوريد المدعومة بإنترنت الأشياء، وغيرها من المجالات.
الذكاء الاصطناعي والدبلوماسية في السباق التقني السياسي
في سياق التنافس التكنو-سياسي الشديد، تتخذ العديد من الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين، خطوات استراتيجية تلتقي فيها الدبلوماسية بالذكاء الاصطناعي. ففي عام 2022، عينت الولايات المتحدة ناثانيال فيك، وهو ضابط سابق والرئيس التنفيذي لشركة أمن سبراني، سفيراً للأمم المتحدة للشؤون السيبرانية والسياسات الرقمية. وفي نوفمبر 2023، أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية أول استراتيجية مؤسسية للذكاء الاصطناعي، تحمل توقيع أنتوني بلينكن، وزير الخارجية. وتحدد هذه الاستراتيجية أربعة أهداف رئيسية للولايات المتحدة في المجال الدبلوماسي، وهي: “الاستفادة من البنية التحتية الآمنة للذكاء الاصطناعي”، و”بناء ثقافة تعتمد على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي”، و”ضمان الاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي”، و”الانفتاح على الابتكار”.
من جهة أخرى، تتخذ الصين خطوات على المستوى الوطني لتصبح مركزاً عالمياً للذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030 من خلال “خطة تطوير الجيل القادم للذكاء الاصطناعي” التي تم إعدادها عام 2017. وفي نطاق هذه الخطة، يعتبر الذكاء الاصطناعي استراتيجية رئيسية لتعزيز تنافسية الصين على الساحة العالمية وحماية أمنها القومي، مما يبرز الصلة الوثيقة بين الذكاء الاصطناعي والأمن القومي في استراتيجيتها. كما قامت الصين بتوسيع نطاق مبادرة “الحزام والطريق” لتشمل مفهوم “الحرير الرقمي” منذ عام 2015، والذي يهدف إلى نشر التكنولوجيا الرقمية في الدول النامية وتقديم بدائل منخفضة التكلفة لأنظمة البيانات الغربية. وتستخدم الصين الذكاء الاصطناعي والدبلوماسية كوسيلة لدعم هذه الجهود وتعزيز نفوذها على الساحة الدولية.
لا تقتصر هذه المنافسة على الولايات المتحدة والصين فقط، بل تشمل دولاً أخرى أيضاً. فظهور شركات وطنية متخصصة في الذكاء الاصطناعي مثل AI71 في الإمارات العربية المتحدة، وميسترال في فرنسا، وكروتريم وساروام في الهند، يعكس توجهاً عالمياً نحو تطوير قادة في مجال الذكاء الاصطناعي لتعزيز القدرة التنافسية على المستوى الدولي. تسعى هذه الخطوات الاستراتيجية إلى منح الدول سيادة تكنولوجية وتكييف التكنولوجيا مع ثقافاتها. وتسعى الحكومات إلى تقليل الاعتماد على التكنولوجيا الأجنبية من خلال الاستثمار بكثافة في مجال الذكاء الاصطناعي، وذلك من خلال مبادرات حكومية، وتوفير التمويل للشركات الناشئة، وتطوير البنية التحتية مثل مصانع معالجة وحدات المعالجة الرسومية (GPU) ومصانع تصنيع الرقائق.
تشهد ساحة الذكاء الاصطناعي تبلور حوار عالمي. ومن أبرز المبادرات التي انطلقت في هذا الصدد “عملية هيروشيما للذكاء الاصطناعي” التي أطلقتها مجموعة الدول السبع في اليابان في مايو 2023، و”إعلان بلتشلي” الذي صَدَرَ في نوفمبر 2023 بمشاركة 29 دولة من بينها الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي وتركيا. كما أن قمة مجموعة السبع التي استضافتها إيطاليا في يونيو الماضي، وضعت مسألة التوصل إلى تفاهم دولي بشأن الذكاء الاصطناعي على رأس أجندتها. ورغم أن هذه المبادرات تعكس رغبة في التوصل إلى توافق حول الاستخدام الآمن للذكاء الاصطناعي، إلا أن المنافسة بين الدول لا تزال قائمة على أرض الواقع.
في الوقت الذي تُدار فيه الصراعات الجيوسياسية العالمية على الساحة التكنو-سياسية، فإن التطورات التكنولوجية الجديدة تتيح فرصاً عديدة لتقليص الفجوة بين الدول المتقدمة والنامية. فمن الممكن اليوم أن نحتل الصدارة في سباق الابتكار باستخدام أجهزة كمبيوتر وبرامج حاسوبية ذات تكلفة منخفضة. لكن يبقى هناك حاجة مُلحَّة إلى إطار مؤسسي شامل لضمان حصول الدول على مكانة مرموقة في عصر الذكاء الاصطناعي. وهنا تبرز أهمية الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي ورؤية واضحة لدور الذكاء الاصطناعي في السياسة الخارجية لتركيا.
ما هي الدبلوماسية المدعومة بالذكاء الاصطناعي؟
أصبحت الدبلوماسية المدعومة بالذكاء الاصطناعي أحد أبرز مؤشرات الصراع الجيوسياسي، خاصة مع ظهور مفاهيم جديدة مثل السيادة السيبرانية إلى جانب الفهم التقليدي للحدود. ويُقصد بالدبلوماسية المدعومة بالذكاء الاصطناعي الإطار الذي يدمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في ممارسات العلاقات الدولية والأنشطة الدبلوماسية. هذا المجال الناشئ يعزز قدرات الدبلوماسيين وصناع القرار من خلال الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لتحليل كميات هائلة من البيانات، والتنبؤ بالنتائج، ودعم عمليات صنع القرار.
السمات الأساسية للدبلوماسية المدعومة بالذكاء الاصطناعي
تتميز الدبلوماسية المدعومة بالذكاء الاصطناعي بمجموعة من السمات الأساسية التي تشمل: تحليل البيانات، والتحليلات التنبؤية، والاتصالات المتقدمة، وتحسين عملية صنع القرار، وتقييم المخاطر وإدارة الأزمات، وأتمتة المهام الروتينية.
يساعد الذكاء الاصطناعي الدبلوماسيين على استخلاص رؤى قابلة للتنفيذ من خلال تحليل كميات هائلة من البيانات، مما يسهل عملية صياغة الاستراتيجيات وتوقُع النتائج المحتملة. كما يدعم عملية صنع القرار من خلال تقديم تحليلات شاملة وتوقعات دقيقة، مما يسمح باتخاذ قرارات مدعومة بالبيانات. بالإضافة إلى ذلك، يساهم الذكاء الاصطناعي في تطوير استراتيجيات إدارة الأزمات من خلال تقييم المخاطر بشكل فعال. وأخيراً، يعمل الذكاء الاصطناعي على أتمتة المهام الإدارية الروتينية، مما يتيح للدبلوماسيين التركيز على المهام الاستراتيجية.
رؤية تركيا للدبلوماسية المدعومة بالذكاء الاصطناعي
أعلنت تركيا عن عزمها على المشاركة الفعالة في السباق التكنولوجي من خلال “الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي 2021-2025” التي أطلقها مكتب التحول الرقمي في الرئاسة التركية عام 2021. تهدف هذه الاستراتيجية إلى تحقيق مجموعة من الأهداف، من بينها: تطوير كوادر متخصصة في مجال الذكاء الاصطناعي، ودعم البحث والتطوير والابتكار، وتوسيع نطاق الوصول إلى البيانات عالية الجودة والبنية التحتية التقنية، وإجراء تعديلات لتعزيز التكامل الاجتماعي والاقتصادي، وتعزيز التعاون الدولي، وتسريع التحول الهيكلي والقوى العاملة. باختصار، تركز الاستراتيجية على بناء رأس مال بشري مؤهل للتعامل مع عصر الذكاء الاصطناعي. وفي الأسابيع الأخيرة، أعلن مكتب التحول الرقمي أيضاً عن “خطة عمل الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي 2024-2025”.
النقاط المتعلقة بالسياسة الخارجية والدبلوماسية في الاستراتيجية وخطة العمل
تعتبر خطة العمل التي تربط الأولويات الاستراتيجية بالمؤسسات التركية ذات أهمية كبيرة لفهم كيفية ترجمة الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي إلى واقع ملموس. وتتولَّى وزارة الخارجية التركية مسؤولية ثمانية نقاط في هذه الخطة. وتم تعيين الوزارة كجهة مسؤولة بشكل مباشر عن تنفيذ الإجراءات في نقطة واحدة فقط، بينما تم إدراجها كجهة داعمة في النقاط السبع الأخرى. وبالنظر إلى هدف “تعزيز التعاون الدولي”، تظهر وزارة الخارجية كواحدة من أهم الجهات المسؤولة. كما تم تكليف رئاسة الشؤون الأوروبية، بصفتها جهة مسؤولة عن العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، بمهمة في هذا الصدد.
وتشمل المهام الأخرى التي تتعلق بوزارة الخارجية ما يلي:
– جذب الكفاءات: تنفيذ آليات لجذب الكفاءات في مجال الذكاء الاصطناعي إلى تركيا ضمن برنامج “تأشيرة التكنولوجيا”.
– جذب الاستثمارات: وضع آلية خاصة لجذب شركات التكنولوجيا العالمية للقيام بأنشطة البحث والتطوير في مجال الذكاء الاصطناعي في تركيا.
– التعاون مع الجمهوريات التركية: الحصول على بيانات من الجمهوريات التركية لتطوير نماذج لغوية كبيرة باللغة التركية، وبناء آليات للتعاون لاستخدام هذه النماذج في الجمهوريات التركية.
– التعاون الدولي: بناء شراكات لتبادل المعرفة والخبرات مع الدول التي طورت نماذج لغوية كبيرة خاصة بها أو الشركات العالمية العاملة في هذا المجال.
– حماية البيانات: متابعة الجهود المبذولة لضمان حرية تدفق البيانات بشكل آمن.
– التبادل الأكاديمي: دعم برامج تبادل الطلاب والموظفين في مجال الذكاء الاصطناعي في مؤسسات التعليم العالي.
أهمية الخطة الاستراتيجية لوزارة الخارجية لفهم رؤية تركيا في الدبلوماسية المدعومة بالذكاء الاصطناعي
لفهم رؤية تركيا في الدبلوماسية المدعومة بالذكاء الاصطناعي بشكل كامل، يجب علينا أيضاً الاطلاع على “الخطة الاستراتيجية لوزارة الخارجية 2024-2028”. في هذه الخطة التي تم وضعها خلال فترة وزير الخارجية هاكان فدان، تم التأكيد على أهمية “متابعة التطورات العالمية والابتكار، بما في ذلك التحول الرقمي” كأحد القيم الأساسية.
كما حددت الخطة ستة أهداف رئيسية، أحدها هو “تعزيز القدرات المؤسسية وفقاً للتطورات العالمية وبروح مبتكرة”. وضمن هذا الهدف، تم تحديد هدفين فرعيين هما: “التكيف مع التحول الرقمي” و”تطوير استراتيجيات ديناميكية وفعالة لمواجهة التهديدات السيبرانية”.
كما تجدر الإشارة إلى أن خطة العمل قد أسندت إلى مؤسسة الشؤون التركية في الخارج مهمة جذب الكفاءات في مجال الذكاء الاصطناعي من العالم التركي وبناء القدرات البشرية في هذا المجال.
تحليل البنية التحتية التكنولوجية والمعلوماتية في الخطة الاستراتيجية
يشمل قسم تحليل البنية التحتية التكنولوجية والمعلوماتية في الخطة الاستراتيجية هدفاً يتمثل في استكمال التصنيف الرقمي لأرشيف المؤسسة. ومن المتوقع أن يساهم تحقيق هذا الهدف في تمكين المؤسسة من تطوير استراتيجيات صنع قرارات مدعومة بالذكاء الاصطناعي. كما تعهدت الوزارة بالمشاركة الفعالة في مبادرات إدارة البيانات العالمية والعمل على ضمان أن تكون أنشطتها في مجال الذكاء الاصطناعي موثوقة ومسؤولة.
وبالإضافة إلى ذلك، ظهر مصطلح “الذكاء الاصطناعي” في الجزء الخاص بالتكنولوجيا في تحليل البيئة الخارجية ((PESTLE. وأكدت الوزارة على أهمية الاستفادة من التقنيات المتطورة في مجال السياسة الخارجية والدبلوماسية. وتم تصنيف الذكاء الاصطناعي كفرصة وتهديد في نفس الوقت من حيث تأثيره على الإدارة. فمن ناحية، تعتبر البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي فرصة لتحسين عملية صنع القرار في السياسة الخارجية. ومن ناحية أخرى، تم تحديد المخاطر المتعلقة بالأمن والخصوصية المرتبطة باستخدام برامج الذكاء الاصطناعي كتهديد.
الحاجة إلى استراتيجية مستقلة للذكاء الاصطناعي في وزارة الخارجية التركية
يتضح من خلال الخطوات التي اتخذتها تركيا أن هناك إرادة حقيقية للاستعداد لعصر الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، من الضروري أن تضع وزارة الخارجية التركية استراتيجية مستقلة خاصة بها للذكاء الاصطناعي لتعزيز نهجها الاستراتيجي وفعاليتها. من شأن وجود مثل هذه الاستراتيجية أن يساهم في تعزيز الجهود الدبلوماسية التركية والتكيُّف مع التطورات العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي.