ترجمة: نوريهان محمد البهي
في تطور مفاجئ ومؤلم للأوضاع في سوريا، سقطت مدينة حلب التي كانت تُعدّ من أبرز معاقل النظام السوري بيد قوات المعارضة المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام، هذا التحول السريع جاء نتيجة لانهيار الجيش السوري أمام الهجوم العنيف الذي شنته فصائل المعارضة والتي تولت قيادتها هيئة تحرير الشام بقيادة أبو محمد الجولاني.
يُعتبر الجولاني الذي كان أحد أبرز قادة الجماعات الجهادية في المنطقة شخصية محورية في هذا الهجوم حيث لعب دورًا مهمًا في تعزيز قدرات الهيئة العسكرية وتنظيم صفوفها في مواجهة القوات النظامية. وتأثير هذا التغير الاستراتيجي على مجريات الحرب السورية مع تسليط الضوء على دور أبو محمد الجولاني في قيادة العملية العسكرية وتوسيع نفوذ هيئة تحرير الشام في الشمال السوري.
نشرت صحيفة هم ميهن الإيرانية الإصلاحية السبت 7 ديسمبر / كانون الأول 2024 تقريرًا حول زعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني، ذكرت فيه أنه كان يتسم بسلوك عدواني ومتشائم، ودائمًا ما كان يسعى للهيمنة على السلطة.
وأضافت أنه قد تفوق على زعيمي أكبر تنظيمين “إرهابيين” في العالم، ولم يثق به أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام والمعروفة باسم “داعش”، بشكل تام.
سقوط حلب
ذكرت الصحيفة في تقريرها أنه لم يكن يتوقع أحد سقوط حلب، فالهجوم المفاجئ الذي شنته قوتان مدعومتان من تركيا خلال الأيام الخمسة الماضية أسفر عن سقوط ثاني أكبر مدينة في سوريا وأهم مركز صناعي فيها في فترة زمنية لم تتجاوز الأسبوع، وهو ما لم يحدث من قبل عندما كانت قوات المعارضة ضد الأسد أكثر عددًا وموارد، كما استفادت هيئة تحرير الشام (HTS) والجيش الوطني السوري (SNA) من الصراعات في المناطق المجاورة، بينما تدخل حليفهم في أنقرة لدعمهم، ومن جهة أخرى كانت الانتخابات الأخيرة في الولايات المتحدة والانهيار الكبير لحكومة بشار الأسد نتيجة للفساد والعقوبات الدولية بمثابة فرصة للمتمردين، كانت هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري يتدربان لفترة طويلة على الاستيلاء على حلب، مع الأمل في توسيع مناطقهم خارج سيطرة الحكومة وحماية قواتهم من القصف الجوي السوري في إدلب.
وحيث أسدل حديثه بأنه في يوم الأربعاء الماضي بدأت معركتان متزامنتان: الأولى هي عملية “صد العدوان” التي قادتها هيئة تحرير الشام، والثانية هي عملية “فجر الحرية” التي قادها الجيش الوطني السوري. تمكن الجيش الوطني السوري من السيطرة على مواقع عسكرية استراتيجية مثل قاعدة كويرس الجوية، ومحطة توليد الكهرباء الحرارية في حلب، المصدر الرئيسي للطاقة الواقعة على بعد 15 ميلًا إلى الشرق من حلب، بالإضافة إلى المنشآت الدفاعية في مجمع صناعي-عسكري جنوب شرق حلب، وكل هذه المناطق تم السيطرة عليها بسهولة.
وفي الوقت الذي فرضت فيه هيئة تحرير الشام سيطرتها على حلب، شنت هجومًا على المناطق الشمالية من حماة التي تضم 39 قرية، وبهذا أصبحت تسيطر فعليًا على كامل محافظة إدلب ومساحات واسعة من حلب أكبر محافظات سوريا؛ وفي وقت قصير تمكن مقاتلو تحرير الشام من الاستيلاء على حماة بشكل عام، ولهذا فشل جيش النظام السوري في قيادة العمليات والسيطرة على الوضع، كما انهارت معنوياته تمامًا ولم يتمكن من الصمود أمام الهجوم المفاجئ والمدمر لهيئة تحرير الشام.
تركيا ودوافعها خلف العملية العسكرية
كما أوضحت الصحيفة أنه في ظل ظروف خاصة منحت تركيا الضوء الأخضر لتنفيذ هذه العملية. أولًا بسبب فشل المفاوضات بشأن المصالحة وتطبيع العلاقات مع دمشق، وثانيًا بسبب رغبة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تعزيز موقفه التفاوضي مع البيت الأبيض في المستقبل مع العلم أن هناك احتمالًا كبيرًا لسحب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للقوات الأمريكية من شمال شرق سوريا وهو ما أعلنه سابقًا. ثالثًا سعت تركيا إلى إضعاف الميليشيات الكردية التابعة لحزب العمال الكردستاني (PKK) التي تعمل تحت مظلة قوات سوريا الديمقراطية. رابعًا، تدهور الوضع الميداني للقوات الميدانية الموالية لبشار الأسد التي تعرضت لهجمات إسرائيلية متكررة على مدار العام الماضي. خامسًا تمركز القوات الروسية في أوكرانيا واهتمام روسيا بإجراء صفقة بشأن سوريا بهدف رفع العقوبات عنها وتحسين موقفها أمام الغرب. ومع تقدم هيئة تحرير الشام إلى ضواحي حلب، انهارت القوات الدفاعية السورية وخاصة اللواء 46، مما جعل المدينة التي تبعد 20 ميلًا عن المناطق المحررة هدفًا سهلاً.
أسرار سقوط حلب
ووفقًا لـما صرحت به مصادر من المعارضة فإن هناك عدة عوامل وراء هزيمة قوات بشار الأسد في حلب، أحد هذه العوامل كان اختراق اجتماع أمني رفيع المستوى في حلب، والذي أسفر عن مقتل عميد إيراني وعدد من الضباط السوريين، مما أدى هذا الحادث إلى فوضى في العمليات الأمنية داخل المدينة، وإثارة الذعر بين المسؤولين المحليين. بالإضافة إلى ذلك، استعانت المعارضة بعناصر سرية داخل حلب لتنسيق العمليات مع قواتها، كما اعتمد المتمردون على استراتيجيات ذكية في استهداف مواقعهم، حيث تجنبوا المواقع المحصنة بشدة مثل الأكاديمية العسكرية وكلية المدفعية، وركزوا على نقاط ضعف استراتيجية لتحقيق مكاسب سريعة.
وتابعت أنه لم يكن تفكك جيش النظام السوري ناتجًا فقط عن حملة جهادية منظمة، بل كان أيضًا نتيجة لاستنزاف دام 13 عامًا من الحرب الأهلية، مما أدى إلى تآكل قواه الداخلية وفقدان جنوده للروح المعنوي، وفي عام 2016 عندما خاض جيش النظام السوري معركة لاستعادة مدينة حلب من مجموعة من القوى المعارضة للأسد، بما في ذلك – فصيل أحرار الشام_، وجد نفسه فجأة أمام فرصة لتحقيق انتصار وطني كبير، كان هذا الانتصار المرتقب من شأنه إعادة سيادة الدولة السورية إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الحرب.
تراجع حزب الله وانشغال إيران
تابعت الصحيفة مبينة أن سوريا أصبحت كيانًا مقسمًا بسبب دعم القوى الخارجية مثل الولايات المتحدة وتركيا للفصائل المسلحة في الشمال والشرق، إلى جانب وجود إيران وروسيا في مناطق أخرى من البلاد، وخلال تلك الفترة دخلت الميليشيات الشيعية التي نظمها فيلق القدس الإيراني أو حزب الله وحلفاؤهما العراقيون إلى ساحة المعركة لإنقاذ نظام الأسد، لكن وجود هذه القوات طغى على دور الجنود السوريين النظاميين، الذين كان أغلبهم من الطائفة السنية؛ ومع مرور السنين انشغلت تلك الميليشيات الشيعية في حروب جديدة في المنطقة، مما ترك الجنود السوريين دون دعم كاف، ونتيجة لذلك وجدوا أنفسهم فجأة في مواجهة جيش مسلح من الجماعات الجهادية مما دفعهم إلى التخلي عن مواقعهم والهروب بدلًا من القتال.
کما تزامنت العمليات المدعومة من تركيا مع وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان، حيث أدى قرار حزب الله بالدخول في مواجهة عسكرية مع إسرائيل إلى تصفية عدد من قياداته العليا، بما في ذلك الأمين العام حسن نصر الله؛ كما تم القضاء على كوادره المتوسطة من خلال سلسلة من الاغتيالات المنظمة وتفجيرات استهدفت مواقعهم، بالإضافة إلى ذلك دمرت الغارات الجوية الإسرائيلية العديد من مستودعات أسلحة حزب الله، وفي ظل تراجع حزب الله نتيجة استنزافه في الحرب السورية وانشغال إيران بمعالجة خسائرها داخل سوريا، استغل المتمردون المدعومون من تركيا هذه الفرصة لشن هجوم واسع النطاق.
تداعيات الحرب الأوكرانية
أشارت الصحيفة إلى أن روسيا انشغلت بالحرب في أوكرانيا ولم تتمكن من اتخاذ أي إجراء مضاد حقيقي حتى الآن، وعليه فقد دخل فلاديمير بوتين في السنة الرابعة من الحرب الأوكرانية التي كان من المفترض أن تنتهي في غضون أسابيع لكن الحرب استمرت أربع سنوات، مما تشير التوقعات إلى أن عدد القتلى والجرحى في الجيش الروسي يتجاوز 700 ألف شخص، مما دفع روسيا إلى الاعتماد على قوات قليلة من كوريا الشمالية وكوبا والهند والحوثيين.
ومنذ بدء الهجوم الشامل على أوكرانيا في فبراير 2022 خفضت روسيا بشكل كبير وجودها في سوريا، كما ألغت دور مجموعة فاغنر بعد تمردها في روسيا العام الماضي، بالإضافة إلى سحب بعض من أحدث أنظمة الدفاع الجوي الخاصة بها من سوريا”.
كما كانت هيئة تحرير الشام تستعد لخوض معركة كبيرة في حلب، لكن بدلاً من ذلك ما واجهته كان باباً مفتوحاً. وما حصلت عليه كان مجرد تبديل لحراسها، ولم تكن هناك أي قوات سورية داخل المدينة، بل كانت هناك فقط قوات أمنية وشرطية والتي انسحبت على الفور.
رحلة الجولاني من التأسيس إلى قيادة هيئة تحرير الشام
بالنسبة إلى فترة قيادة أبو محمد الجولاني زعيم هيئة تحرير الشام فقد كانت تعتبر طويلة الأمد ومعقدة في صفوف الجهاديين، كما أن هيئة تحرير الشام التي كانت تعرف سابقاً بجبهة النصرة قد انفصلت عن تنظيم القاعدة في عام 2016، ومنذ ذلك الحين دخلت في صراع مع جماعة حراس الدين المرتبطة بالقاعدة في سوريا، وقبل ذلك في عام 2011 تم إرسال الجولاني إلى سوريا بأمر من أبو بكر البغدادي، ‘خليفة’ داعش آنذاك، وفي تلك الفترة رأى الجولاني في الانتفاضة الشعبية ضد نظام الأسد فرصة لإقامة جماعة جهادية في سوريا.
كان للجولاني سلوك قاسٍ ومتشائم، وكان دائماً يسعى للسيطرة على السلطة، كما أنه تفوق على زعيمين من أكبر التنظيمات الجهادية في العالم، فلم يثق به أبو بكر البغدادي ومعاونوه في العراق على الإطلاق، وفي الوقت بين عامي 2012 و2013 خالف الجولاني أوامر داعش وأسَّس حكما خاصا به في شمال وشرق سوريا، فاستغل أبو علي الأنباري مساعد البغدادي الكبير ما حدث وقدم تقييما سلبيا عن الجولاني بعد أسابيع من التحقيقات الميدانية في سوريا، حيث وصفه بأنه “شخص ماكر، متناقض، وأناني، لا يهتم بدين جنوده، ومستعد للتضحية بحياتهم من أجل تحقيق شهرة إعلامية له فكان يستمتع بسماع اسمه على القنوات الفضائية.”
التطورات الاستراتيجية للجولاني
في ربيع عام 2013 أعلن أبو بكر البغدادي دون التشاور مع فرع داعش في سوريا، أن داعش في العراق وسوريا أصبح تنظيما موحدا، لكن الجولاني رفض هذا الإعلان مفضلاً الحفاظ على ولاء أتباعه للقاعدة، وفي المقابل انضم معظم أتباع الجولاني خاصة غير السوريين إلى البغدادي، وبعد ثلاث سنوات نجح الجولاني في خداع أيمن الظواهري زعيم القاعدة آنذاك.
وفي مناورة جديدة لضمان مكانته نجح الجولاني في البداية بإقناع ممثلي أيمن الظواهري بأن قطع الروابط بين جبهة النصرة والقاعدة بشكل شكلي سيجعل الولايات المتحدة والغرب ينخدعون، مما سيجنب قوات جبهة النصرة في سوريا استهدافهم، ولكن مع مرور الوقت كشف الجولاني عن وجهه الحقيقي وابتعد بجبهة النصرة التي أسسها عن القاعدة، ونتيجة لذلك، تمكن الجولاني من بناء نوع من الدولة التي كانت القاعدة نفسها غير قادرة على تحقيقها.
تحليل دقيق لشبكة الجولاني
قدم آرون زلين وهو خبير بارز في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى أدق تحليل حول شبكة الجولاني، حيث أشار قائلاً: أن هذه الشبكة كانت تشمل مجموعة واسعة من الأنشطة، بدء اً من إدارة شبكات الكهرباء المحلية وصولاً إلى تنظيم حركة المرور وتنفيذ سياسات صحية لمكافحة جائحة كوفيد-19، وفيما بعد قام الجولاني بتغيير اسم شبكته إلى “هيئة تحرير الشام”.
وتابع قائلاً: أن هيئة تحرير الشام بقيادة الجولاني شهدت تحولا جوهرياً يعكس تطوراً استراتيجياً من جماعة جهادية إلى حركة سلفية تكنوقراطية، كان هذا التحول جزءاً من لعبة علاقات عامة تهدف إلى إقناع الأطراف الدولية الفاعلة بأنها ليست تهديداً لهم، بل تسعى فقط لاستهداف نظام بشار الأسد وحلفائه، فكان الجولاني يراقب الأحداث في أفغانستان عن كثب استلهم منها تجربة طالبان كما يسعى لتحويل هيئة تحرير الشام إلى كيان مماثل لطالبان في سوريا يتمتع بشرعية وقبول دولي.
وعلى سبيل المثال يرى (الجولاني) أن قيادة طالبان لا تتمتع فقط بحضور رسمي في قطر، بل إنها تتعاون مع الولايات المتحدة بموجب شروط اتفاقية الدوحة التي تمت بوساطة إدارة ترامب، كما يرى الجولاني أن طالبان على الرغم من استمرار وصفها ككيان إرهابي من وجهة نظر روسيا إلا أن قادتها يقومون بزيارات دورية إلى موسكو على أمل أن تقوم روسيا بشطبهم من قائمة الجماعات الإرهابية.
وفي يوليو الماضي صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قائلاً: “بشكل عام يجب أن نتعامل مع الواقع القائم، أن طالبان تسيطر على السلطة في أفغانستان، ومن هذا المنطلق فإن طالبان شريكة لنا بالتأكيد في مكافحة الإرهاب لأن أي حكومة حالية تهتم بشأن استقرارها”.
وأضاف أن الجولاني يحاول تطبيق نموذج طالبان في ساحة المعركة بشكل عملي مثل طالبان وحاول أن يجذب زعماء القبائل والشعب العاديين ويمنحهم الأمان، وفي أفغانستان تقاتل طالبان ضد داعش بينما في سوريا جولاني يخوض معركة مماثلة ضد نفس التنظيم بشكل عام، ويتبع جولاني نفس النهج الذي تتبعه طالبان تجاه الغرب والدول العربية، كما أنه يسعى ليؤكد أنه يقاتل ضد الجهاديين “الإرهابيين” الذين يسعون لإراقة دماء الأبرياء، ليبرز نفسه كطرف محق في هذا الصراع حيث يُظهر أنه في حرب ضد نفس التيار “الإرهابيين” الذين يشكلون تهديداً للسلام والاستقرار.
وأكمل متابعاً أنه بعد احتلال حلب من قبل هيئة تحرير الشام، قام الجولاني بخطوة ذكية على عكس داعش التي كانت قد أعلنت أن الشيعة في العراق مرتدون، فقد أعلن الجولاني في رسالة أنه لن يتعامل مع الشيعة في العراق ما لم يتدخلوا في الشؤون السورية، ورغم أن الغرب لا يصدق أيّ من هذه الرسائل إلا أن الوضع في سوريا أصبح أكثر تعقيداً بكثير.
كما كان يعاني سكان حلب بشكل طبيعي من الخوف تجاه الأفكار المتطرفة التي تروج لها هيئة تحرير الشام، وهم على دراية كاملة بالانتهاكات التي ارتكبتها الهيئة ضد الناشطين العلمانيين والمعارضين السياسيين، ومع ذلك في ظل التوقعات المتشائمة والمعلومات المغلوطة التي يتم تداولها بكثرة على الإنترنت، تشير الأحداث حتى الآن إلى أن هيئة تحرير الشام قد تصرفت بشكل عملي.
وفي البداية انتشرت قوات هيئة تحرير الشام لحماية البنوك من النهب، وفي الليلة الأولى من احتلال حلب قامت هيئة تحرير الشام بقطع الكهرباء عن المصانع مما وفر 16 ساعة من الكهرباء المستمرة للمناطق المدنية، فلم تشهد حلب هذه الفترة من الإضاءة المستمرة منذ عام 2012، كما أولى الجولاني اهتماما خاصا لطمأنة المدنيين المسيحيين والأكراد، حيث عرض على المقاتلين الأكراد مغادرة حلب مع أسلحتهم.
وبالطبع لا تزال أيام الجولاني و “هيئة تحرير الشام” في مراحلها الأولى، لكن إذا كانت هيئة تحرير الشام تسعى لإدارة مدينة ذات تنوع سكاني، فإنه يتعين عليها تعديل أيديولوجيتها بما يتماشى مع الثقافة الأكثر عالمية، هذا ما تدركه كل من تركيا وسوريا، وعندما وصلت الأخبار إلى دمشق حول طريقة تعامل “تحرير الشام” في حلب، انتشرت شائعات تفيد بأن تقديم الأمان للمدنيين في حلب هو مجرد خدعة وتظاهر والهدف الحقيقي لـ “تحرير الشام” بحسب هذه الشائعات هو استغلال هذه الجماهير المدنية كدروع بشرية عندما تبدأ المعركة الحقيقية مع قوات مؤيدي الأسد.
تحرير الشام
عندما شنَّ النظام السوري هجماته على حلب كان بشار الأسد في موسكو، وبالتالي فقد سلم المدينة التي شاركت الطائرات الحربية الروسية في استعادتها في أواخر عام 2016 إلى العدو في غضون 72 ساعة، وهذا الإنجاز لـ “هيئة تحرير الشام” يحمل في طياته أيضا إهانة لروسيا، فمن المفترض أن تسقط كييف في غضون ثلاثة أيام ولكن الآن حلب هي من سقطت في ثلاثة أيام فقط، ولم تقتصر عمليات “تحرير الشام” وقوات الجيش الوطني السوري على نهب المنشآت العسكرية السورية فحسب، بل شملت أيضا المنشآت الروسية حيث قُتل أو أُسر الجنود الروس، وتم الاستيلاء على قاعدة “كويرس” الجوية في حلب.
ورغم أن روسيا قد تكون متوافقة استراتيجيا مع إيران في سوريا وأوكرانيا واليمن، إلا أن ذلك لا يعني أنها ستقبل أن يكون لها دور أقل في هذه الشراكة، وطبقا للمناقشات بين الخبراء العسكريين الروس فإنها تركز بشكل كبير على انتقاد الأسد بسبب الفوضى التي أحدثها، كما أنهم يعتقدون أنه يجب عليه تحمل المسؤولية لوحده في حل هذه الأزمة؛ وقد أكد ديميتري بيسكوف المتحدث باسم بوتين أن مسؤولية استعادة الأمن في حلب تقع على “حكومة سوريا.
كما أن الطائرات الروسية شنت فقط هجمات على أهداف في حلب معظمها كانت أهدافاً مدنية، وعليه استمرت إدلب في التعرض للقصف الروسي المستمر على مدار سنوات دون أي تغيير في وضعها، ولم تظهر أية تحركات من القوات الروسية البرية حينها، ومن ثم أعلنت إدارة الاستخبارات العسكرية الأوكرانية أن الضباط العسكريين والدبلوماسيين الروس يغادرون دمشق بشكل عاجل.
وتشير التقارير إلى أن روسيا تخطط للتخلي عن بعض ممتلكاتها وانتقالها إلى القاعدة الجوية الروسية في اللاذقية، وقد استولى المتمردون على بعض المعدات الروسية التي لم يتم تحديدها بعد من خان شيخون في شمال حماة.
ووفقا لجهاز الاستخبارات العسكرية الأوكراني فإن عدداً من الدبلوماسيين والعسكريين الروس سيتركون دمشق على الفور.
وطبقا لما تشير إليه التقارير أيضاً أنه تم إقالة الجنرال سيرجي كيسيل قائد القوات الروسية في سوريا مؤخراً من قبل الكرملين، وتم استدعاء العقيد فاديم بايكولوف قائد وحدة القوات الخاصة الروسية في سوريا إلى موسكو ليكون مسؤولا عن الخسائر في الأرواح والمعدات العسكرية في حلب.
كما تشير إحدى النظريات التي تشرح سبب التدخل المحدود لروسيا إلى أن موسكو قد تكون استخدمت هجوماً محدوداً من قبل المتمردين كوسيلة للضغط على الأسد للقبول بتسوية جدية مع تركيا وتقديم تنازلات وتنفيذ الإصلاحات المطلوبة كشرط لخفض العقوبات الغربية، وعلى الرغم من أن بوتين وأردوغان يعتبران منافسين إلا أن علاقتهما قد تشكلت حول الازدراء المشترك للولايات المتحدة والغرب.
وقد تفوقت القوات المدرعة والجوية التركية على حلفاء روسيا في ليبيا وكاراباخ الجبلية، كما أن المسيرات التركية دمرت الأنظمة الصاروخية التابعة للكتائب الروسية في أوكرانيا وفي عام 2020 قتلت الطائرات الروسية والسورية 36 جندياً تركياً في إدلب خلال غارات جوية استهدفت مواقع تحرير الشام في قرية بيلون، وبناء عليه قام أردوغان بالرد على ذلك بإلقائه اللوم على الأسد وأنه سبباً في تدمير البنية التحتية العسكرية السورية وقتل مئات الجنود السوريين في عملية “درع الربيع”، على الرغم من كل خلافاتهما فإن أردوغان وبوتين لديهما مصالح مشتركة في إذلال الأسد.
وفي ظل هذه الأحداث قامت معظم الدول العربية بتطبيع علاقاتها مع الأسد ولم تقم تركيا بذلك، مع أن المصالحة مع الحليف الوحيد للناتو في المنطقة من شأنها أن تساهم إلى حد كبير في إنقاذ سوريا من وضعها المتدهور ورفع العقوبات، وهو أمر يمكن لبوتين الاستفادة منه لصالحه في علاقاته مع دول الخليج والغرب، ومع ذلك تواصل دمشق مقاومتها في قبول شروط أنقرة بشأن وضع الحدود التركية السورية وعودة أكثر من 3 ملايين لاجئ سوري من تركيا.
ومن ثم فإن الموضوع الرئيسي في الخلاف بينهما هو الأولوية المستمرة للأمن القومي التركي والمتعلقة بشكل أساسي بحزب العمال الكردستاني (P.K.K)، حيث يشكل جناحه السوري الشريك الرئيس للولايات المتحدة في محاربة بقايا تنظيم “داعش”، كما اضطر أردوغان إلى إنهاء مشاركته في قمة “بريكس” في قازان في أواخر أكتوبر بسبب الهجوم الإرهابي الذي استهدف صناعة الفضاء التركية خارج أنقرة.
كما صرح اردوغان أن مسؤولية الهجوم تقع كاملة على عاتق القوات التابعة لحزب العمال الكردستاني (P.K.K)، وفي الوقت ذاته صرح هاكان فيدان وزير الخارجية التركي الذي كان في السابق رئيس جهاز المخابرات الوطني التركي بأن الأسد ليس لديه رغبة في تطبيع العلاقات مع تركيا، ومع شعور أنقرة بالإرهاق من الحديث المستمر قررت في النهاية اتخاذ خطوات أخرى.
تنازلات الأسد
وفي 30 نوفمبر/ تشرين الثاني أي بعد ثلاثة أيام من هجوم هيئة تحرير الشام على حلب أقلعت طائرة عسكرية روسية من قاعدة حميميم في سوريا باتجاه أنطاليا، كان ركاب الطائرة وفداً أمنياً سورياً كان من المقرر أن يلتقي بممثلين عن أردوغان.
وفي المحادثات السابقة كان السوريون قد رفضوا التفاوض على الأراضي التركية مصرين على أن تتم المفاوضات في روسيا أو في أرض محايدة، ولكن هذه المرة قدم الأسد أول تنازل لتركيا ووافق على إجراء المفاوضات في الأراضي التركية.
المفاوضات بين تركيا وسوريا
في الوضع الحالي تجري المفاوضات بهدف الوصول إلى اتفاقية تعد مهمة لتركيا يتضمن هذا الاتفاق إلغاء وجود الأكراد على الحدود السورية، وعودة اللاجئين السوريين من تركيا دون التعرض للمضايقة أو الاعتقال من قبل السلطات السورية، وإنشاء ممر أمني دائم للترك في طول الشريط الحدودي بعمق 35 كيلومتراً، وهي شروط تركيا الأساسية، فتركيا الآن في موقع قوي للحصول على هذه الشروط الثلاثة، وليس أمام الأسد خيار سوى الموافقة على الشروط والضوابط الجديدة لأردوغان واللقاء معه، كما أن الولايات المتحدة تراقب الوضع للتأكد من عدم تهديد هيئة تحرير الشام لقوات سوريا الديمقراطية على الضفة الشرقية لنهر الفرات.
السياسة الأمريكية تجاه سوريا
وفي أول وأحدث بيان له أعرب مجلس الأمن القومي الأمريكي تحت قيادة بايدن عن سروره من إهانة الأسد بسبب اعتماده المفرط على روسيا وإيران، لكنه كان حريصًا على عدم إقامة أي صلة مع هيئة تحرير الشام، حيث إن هذه المجموعة مدرجة على قائمة المنظمات الجهادية في الولايات المتحدة، وأنها تعكس سياسة مكافحة التنظيم الجهادي التي يتبعها بايدن في سوريا والتي هي امتداد لسياسة إدارة باراك أوباما، تركيزاً على ضمان عدم عودة تنظيم “داعش”.
تطورات السياسة الأمريكية في سوريا
في الوضع الحالي فإن الاستراتيجية الإيرانية المعروفة بـ”حلقة النار” في الشام وحول إسرائيل في طريقها إلى التراجع، مما يجعل الولايات المتحدة راضية عن ذلك.
كما صرح عاموس هاكستين المبعوث الخاص للولايات المتحدة في المنطقة قائلاً: يبدو أن هناك مفاوضات مع الإماراتيين بشأن رفع العقوبات عن حكومة الأسد مقابل قطع جميع علاقاته مع طهران، وفي بيان مجلس الأمن القومي الأمريكي لم يُذكر أي إشارة صريحة إلى تركيا.