كتب: هادي زماني
ترجمة: علي زين العابدين برهام
تعتبر قضية “شاي دبش” من أبرز القضايا الاقتصادية المثيرة للجدل في إيران خلال السنوات الأخيرة، حيث استحوذت على اهتمام الأجهزة القضائية والتنفيذية بسبب اتهامات تتعلق بتهريب العملات الأجنبية، ومخالفات مالية، وعدم الوفاء بالالتزامات النقدية. ومنذ الكشف عنها، لقيت القضية صدى واسعا في وسائل الإعلام والأوساط الاقتصادية، مما أدى إلى تورط بعض المسؤولين الحكوميين والفاعلين في القطاع الاقتصادي.
لكن عند التمعن في تفاصيل القضية، يبدو أنها تتجاوز الإطار الاقتصادي البحت، إذ إن توقيت طرحها، بالتزامن مع تغيير الحكومة، أثار شبهات حول وجود أبعاد سياسية ودوافع خفية وراء تحريكها. كما أن ارتباطها بتطورات سياسية ومواقف شخصيات معينة عزز التكهنات بشأن وجود حسابات سياسية تقف خلفها.
علاوة على ذلك، فإن التغطية الإعلامية المكثفة والتركيز المبالغ فيه على بعض الشخصيات يثيران تساؤلات حول ما إذا كانت القضية تهدف فقط إلى مكافحة الفساد، أم أن هناك أهدافا أخرى تتجاوز ذلك، ما يعزز الشكوك حول استخدامها كورقة في صراعات سياسية.
بين اتهامات الفساد والجدل السياسي
تدور قضية “شاي دبش” حول اتهامات تتعلق بالاستيراد غير القانوني، وعدم الوفاء بالالتزامات النقدية، وتهريب العملات الأجنبية. وتواجه الشركات التابعة لمجموعة “شاي دبش” اتهامات بالحصول على العملة الصعبة المدعومة من الدولة دون استخدامها وفقا للوائح، بالإضافة إلى إخراج الأموال من إيران بطرق غير قانونية، وتقديم طلبات استيراد وهمية لاستغلال الموارد النقدية بطرق غير مشروعة.
منذ الكشف عن القضية، قامت السلطة القضائية الإيرانية باعتقال ومحاكمة عدد من المتهمين، كما صدرت أحكام قضائية ضد بعض مسئولي مجموعة “شاي دبش” وأفراد مرتبطين بالقضية. وخلال التحقيقات، تم التدقيق في دور وزارة الصناعة والتعدين والتجارة، وكذلك البنك المركزي، في الإشراف على الالتزامات النقدية. وقد اعترض بعض المتهمين، بمن فيهم وزير الصناعة والمناجم والتجارة السابق، على الأحكام الصادرة بحقهم وقدموا طلبات استئناف.
في المقابل، أكد المسؤولون الحكوميون أن مسؤولية الإشراف على تنفيذ الالتزامات النقدية تقع على عاتق البنك المركزي، وأن وزارة الصناعة لم تكن طرفا في هذه العملية. كما أوضحوا أنهم لم يتلقوا أي تقارير رقابية حول المخالفات النقدية، مما حال دون إمكانية منع هذه التجاوزات، مشيرين إلى أن المشاكل التقنية في الأنظمة الإلكترونية الخاصة بالتجارة الخارجية كانت سببا في حدوث هذه المخالفات.
وفي ظل هذه التطورات، يرى بعض الفاعلين الاقتصاديين أن القضية تحمل أبعادا سياسية، ويعتقدون أنها تُستخدم لتصفية حسابات بين الأجنحة المختلفة داخل النظام، وليس فقط لمكافحة الفساد الاقتصادي.
تداعيات اقتصادية وإصلاحات في سياسات النقد الأجنبي
أثارت قضية “شاي دبش” جدلا واسعا في الأوساط الاقتصادية والسياسية الإيرانية، إذ امتدت تداعياتها إلى السياسات النقدية، والرقابة المالية، وثقة الرأي العام في إدارة الموارد النقدية. وقد دفعت هذه القضية الحكومة إلى تشديد إجراءات تخصيص العملات الأجنبية للمستوردين، وإجراء تعديلات جوهرية على آليات تسجيل الطلبات وتوزيع النقد الأجنبي، بهدف الحد من التجاوزات في قطاع التجارة الخارجية.
لا تزال القضية قيد التحقيقات القضائية، وسط ترقب لنتائجها وانعكاساتها على مستقبل السياسات الاقتصادية في إيران. وخلال ظهور إعلامي، أكد المتحدث باسم السلطة القضائية أن القضية تشمل اتهامات بعدم الوفاء بالالتزامات النقدية وتهريب العملات الأجنبية، وهي جرائم يعاقب عليها القانون الإيراني بموجب المادة الأولى من قانون معاقبة المخلّين بالنظام الاقتصادي.
وأشار إلى أن القانون يحمل المسؤولية أيضا لأي شخص كان على علم بهذه التجاوزات ولم يتخذ إجراءات لمنعها، موضحا أن وزير الصناعة السابق كان على دراية بالمخالفات لكنه لم يتدخل لمنعها، مما أثار جدلا واسعا حول دوره في القضية.
في مواجهة هذه الاتهامات، أصدر مكتب الوزير السابق بيانا أكد فيه أن مسؤولية الإشراف على الالتزامات النقدية وتخصيص العملات الأجنبية تقع على عاتق البنك المركزي والمصارف المعنية، وليس وزارة الصناعة. وأضاف البيان أن الوزارة لم تتلقَّ أي تقارير رسمية بشأن مخالفات “شاي دبش” إلا بعد ثلاثة أشهر من انتهاء ولاية الوزير، مما يثير تساؤلات حول توقيت تحريك القضية ودوافعها.
مع استمرار التحقيقات، تتجه الأنظار إلى القرارات النهائية وما إذا كانت ستؤدي إلى إصلاحات أعمق في إدارة الموارد النقدية، أم أنها ستبقى ورقة في الصراع السياسي بين الأجنحة المختلفة. وبينما يترقب الشارع الإيراني التطورات، لا تزال القضية محل تجاذبات قانونية وسياسية، تعكس تعقيدات المشهد الاقتصادي في إيران.
لم تقتصر قضية “شاي دبش” على الأبعاد الاقتصادية فحسب، بل امتدت لتشمل مؤسسات أمنية ورقابية عليا. فقد كانت وزارة الاستخبارات، ومنظمة استخبارات الحرس الثوري، ومنظمة التفتيش العامة، والبنك المركزي على اطلاع بتفاصيل الملف، بل إن ممثلي هذه الجهات تواجدوا داخل الإدارة العامة لوزارة الصناعة والمناجم والتجارة، ومع ذلك لم تصدر أي تقارير رسمية عن المخالفات في حينها.
اتهامات تطال جهات حكومية بارزة
كشف تقرير منظمة التفتيش العامة عن تورط عدة مؤسسات حكومية في القضية، من بينها وزارتا الزراعة والصناعة، ومنظمة الغذاء والدواء، ومنظمة المعايير، والجمارك، والبنك المركزي. وسرعان ما ردّت حكومة إبراهيم رئيسي على هذه الاتهامات، إذ أعلنت هيئة التفتيش الخاصة بالرئاسة أن الحكومة نفسها هي التي كشفت القضية وأحالتها إلى القضاء.
بحسب تصريحات غلام حسين محسني إجئي، رئيس السلطة القضائية، فإن التجاوزات المالية لمجموعة “شاي دبش” بدأت منذ عام 2019 خلال حكومة حسن روحاني، حيث حصلت الشركة على 2 مليون دولار في ذلك العام، ثم ارتفع المبلغ إلى 21 مليون دولار في 2020.
ويشير الخبراء الاقتصاديون إلى أن سياسة العملة التفضيلية، التي أطلقها إسحاق جهانجيري، نائب الرئيس الإيراني آنذاك، في عام 2018، كانت أحد الأسباب غير المباشرة لهذه التجاوزات. فقد صُممت هذه السياسة بهدف توفير السلع الأساسية بأسعار مدعومة في ظل العقوبات، لكن ضعف الرقابة وغياب الشفافية جعلاها بابا مفتوحا لاستغلال الموارد النقدية.
في قضية “شاي دبش”، استغلت الشركة العملة التفضيلية لتسجيل طلبات استيراد شاي عالي الجودة، لكنها في الواقع إما أدخلت بضائع رديئة، أو قامت ببيع العملة الصعبة في السوق السوداء. ومع إلغاء العملة التفضيلية لاحقا، استمرت المخالفات لكن عبر نظام عملة “نيما”.
يعتقد البعض أن سياسات حكومة حسن روحاني النقدية ساهمت في خلق بيئة مواتية للفساد المالي في قضية “شاي دبش”. ورغم محاولات روحاني حماية بعض الشخصيات المقربة منه، مثل شقيقه حسين فريدون، من المحاسبة، إلا أن إبراهيم رئيسي، بعد توليه الرئاسة، أعاد فتح الملف وأحاله رسميا إلى القضاء، وطالب بتنفيذ الأحكام الصادرة، وهو إجراء غير مألوف في السياسة الإيرانية، حيث جرت العادة على تجنب ملاحقة كبار المسؤولين الحكوميين السابقين قضائيا.
مع استمرار التحقيقات، تتحول قضية “شاي دبش” إلى ملف معقد يمزج بين الفساد المالي، والسياسات النقدية الفاشلة، والتجاذبات السياسية. وبينما يترقب الشارع الإيراني تطورات المحاكمة، يبقى السؤال الأبرز: هل ستكون هذه القضية بداية لإصلاحات مالية حقيقية، أم أنها ستبقى مجرد ورقة في صراعات سياسية داخلية؟
تُعد قضية “شاي دبش” مثالا واضحا على عدم التنسيق بين الأجهزة التنفيذية والرقابية في إيران، حيث توزعت المسؤوليات بين عدة جهات حكومية، إلا أن غياب التواصل الفعّال وتأخر الإبلاغ عن المخالفات أدى إلى تعقيد المسار القانوني والقضائي للقضية.
تشير السلطة القضائية إلى أن وزير الصناعة كان على علم بالمخالفات لكنه لم يتخذ أي إجراءات لمنعها، مما يجعله شريكا في الجريمة وفق القانون. في المقابل، تؤكد الدفاعات القانونية أن الوزارة لم تكن مسؤولة بشكل مباشر عن الإشراف على الالتزامات النقدية، بل إن البنك المركزي والمصارف المعنية كانا الجهتين المخولتين بالرقابة على استخدام العملة الصعبة.
نظرا إلى تعقيدات القضية، يبقى القرار النهائي مرهونا بنتائج الاستئناف على الأحكام الصادرة، وسط توقعات بحدوث مراجعات قانونية قد تؤثر على مسار المحاكمة. ومع ذلك، فقد سلطت القضية الضوء على الحاجة الملحّة لإصلاح الأنظمة الرقابية، خاصة فيما يتعلق بـ:
- تحسين آليات الرقابة على تخصيص النقد الأجنبي.
- إصلاح نظام تسجيل الطلبات وتوزيع العملات لضمان الشفافية.
- تعزيز التنسيق بين الجهات التنفيذية والرقابية لمنع تكرار مثل هذه المخالفات.
تبقى قضية “شاي دبش” اختبارا مهما لقدرة المؤسسات الإيرانية على إجراء إصلاحات جذرية في النظام المالي والرقابي، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية التي تواجهها إيران.