كتب: مصطفى أفضل زادة، مراسل “زاد إيران” في طهران
ترجمة: علي زين العابدين برهام
يحمل شهر رمضان المبارك في إيران، إلى جانب طابعه الديني، طقوسا وتقاليد خاصة تعكس عمق ارتباط الناس بهذا الشهر الروحي، إذ يضفي هذا الشهر نكهة خاصة على الحياة اليومية للإيرانيين. كما يُعدُّ فرصة للتوبة ووضع خطط جديدة للتقرب من الله في العام المقبل. في هذا التقرير، نسلط الضوء على أبرز مظاهر هذه العادات والتقاليد بين أبناء الشعب الإيراني.
تبدأ الاستعدادات لاستقبال شهر رمضان المبارك لدى كثير من الإيرانيين قبل حلوله بوقت طويل. إذ يحرص العديد من المؤمنين على البدء بالصيام منذ شهري رجب وشعبان، تهيئة لأجسادهم وأرواحهم لاستقبال نفحات هذا الشهر الفضيل. كما تسعى الكثير من الأسر إلى تنظيف منازلها وترتيبها، وتجهيز ما يلزم من مستلزمات، إيذانا بقدوم رمضان.
ولا تقتصر هذه الاستعدادات على الجانب الفردي فحسب، بل تمتد إلى المساجد التي تستعد بدورها لاستقبال الشهر المبارك. ومن أبرز التقاليد التي تُمارس في مختلف المدن والقرى الإيرانية، تنظيف المساجد وتطييبها. إذ يتطوع الأهالي والهيئات الدينية لغسل السجاد، وإزالة الغبار، وتعقيم الأروقة، ليكون المكان مهيأ لاستقبال المصلين في أجواء من الطهر والنقاء.
ومع بداية الشهر الفضيل، يبرز مشهد آخر يعكس الأجواء الروحانية لهذا الشهر، يتمثل في حضور العلماء والمربين الدينيين في الأماكن العامة كالمترو، والساحات الكبرى، ومحطات النقل. حيث ينظم هؤلاء جلسات حوارية للرد على استفسارات الناس، وتوضيح الأحكام الشرعية، وتقديم النصائح الأخلاقية، مما يضفي على هذه الأماكن نفحات إيمانية تساند الصائمين على اغتنام الشهر. وغالبا ما تحظى هذه المبادرات بتفاعل واسع، فتغدو فرصة لتعزيز الوعي الديني ونشر قيم الإسلام.
يُعد شهر رمضان فرصة ذهبية لترسيخ المعارف الدينية والقيم الأخلاقية في نفوس الناس. ففي جميع أنحاء إيران، تنشط المساجد والهيئات الدينية بتنظيم برامج غنية ومتنوعة طيلة هذا الشهر المبارك. ويتولى الوعّاظ وأساتذة الأخلاق إلقاء محاضرات يومية أو ليلية، يعرّفون خلالها الناس بمفاهيم القرآن الكريم، وأسس الحياة الإسلامية، والمبادئ الأخلاقية السامية.
وغالبا ما تُقام هذه المجالس عقب صلاتي المغرب والعشاء، وتتنوع فقراتها بين تلاوة القرآن، وتفسير الآيات، ودروس الأخلاق، إلى جانب الأدعية الخاصة بشهر رمضان. وتُبثّ العديد من هذه الفعاليات مباشرة عبر وسائل الإعلام، حيث تحظى بمتابعة واسعة وتفاعل كبير من الجمهور.
ومن المشاهد الروحانية المميزة في رمضان، لحظات السحر، حين تجتمع الأسر قبل أذان الفجر حول مائدة السحور استعدادا ليوم جديد من الصيام. وتساهم البرامج التلفزيونية والإذاعية الخاصة بالسحر في إضفاء أجواء إيمانية دافئة داخل المنازل.
وتولي وسائل الإعلام الإيرانية اهتماما خاصا بهذه اللحظات، فتخصص برامج متنوعة تشمل الأدعية، التلاوات القرآنية، والمحاضرات الدينية المباشرة بمشاركة نخبة من العلماء والخبراء الدينيين. وتلعب هذه البرامج دورا بارزا في رفع مستوى الوعي الديني، وتعميق الأجواء الروحية التي تميز الشهر الفضيل.
مع اقتراب لحظات الإفطار، تخفت حركة الشوارع ويعمّها هدوء نسبي. فبعد يوم مليء بالعبادة والعمل، يفضل الناس قضاء اللحظات الأخيرة من النهار في منازلهم أو داخل المساجد، استعدادًا للإفطار مع رفع أذان المغرب. وتحرص العديد من الأسر على إعداد موائد إفطار عامرة، يدعون إليها الأهل والأصدقاء، حيث تُعد عادة تقديم الإفطار من التقاليد المتأصلة في المجتمع الإيراني، حتى أنها تمتد إلى أماكن العمل.
وفي كثير من الشركات والمؤسسات، تُوزع بمناسبة شهر رمضان سلال غذائية تحتوي على مواد أساسية كالأرز والزيت واللحم لموظفيها، تعبيرا عن التضامن وتعزيزا لروحهم المعنوية، إلى جانب انسجام هذه المبادرة مع الأجواء الروحانية التي تعم المجتمع خلال الشهر الفضيل.
كما تحرص بعض الإدارات والشركات على تخصيص أماكن منفصلة لأولئك الذين لا يتمكنون من الصيام، تُفتح خلال ساعات الغداء للراحة أو تناول الطعام، بما يحفظ حرمة الشهر ويُراعي في الوقت ذاته ظروف غير الصائمين.
أما الإعلام الإيراني، فيولي شهر رمضان اهتماما خاصا عبر برامج تلفزيونية مميزة. وتُعد المسلسلات الرمضانية ذات الطابع الروحي والاجتماعي من أبرز معالم هذا الاهتمام، إذ تحظى بمتابعة واسعة لما تتضمنه من قصص إنسانية عميقة ورسائل أخلاقية هادفة، تجعلها محطّ أنظار المشاهدين طوال الشهر الكريم.
إلى جانب المسلسلات الرمضانية، تحتل البرامج التي تُعرض قبل الإفطار وبعده مكانة خاصة وتحظى بمتابعة واسعة من الجمهور. وتتنوع هذه البرامج بين المحاضرات الدينية، والأدعية المأثورة، فضلا عن الحوارات التي تستضيف نخبة من العلماء والمفكرين الدينيين، لتضفي على هذه الأوقات روحانية عميقة وتفتح المجال أمام المتابعين لتعزيز معرفتهم الدينية.
ويُختتم شهر رمضان المبارك بعيد الفطر السعيد، أحد أكبر الأعياد في العالم الإسلامي. ففي صباح العيد، يتوجه الناس بأعداد غفيرة إلى المساجد والمصليات لأداء صلاة العيد، حيث تُقام هذه الصلاة في أجواء إيمانية مميزة. ويُعد مصلى الإمام الخميني الكبير في طهران من أبرز الساحات التي تشهد حضورا جماهيريا كثيفا لأداء صلاة العيد، بمشاركة فئات مختلفة من أبناء المجتمع.
ويمثل عيد الفطر أيضا مناسبة للتواصل الاجتماعي وتوثيق صلة الرحم، إذ يحرص الناس على زيارة الأقارب وكبار العائلة، ويتبادلون التهاني في أجواء مليئة بالفرح والود. كما يُعد إخراج زكاة الفطرة من أبرز الشعائر التي يحرص الناس على أدائها في هذا اليوم، التزاما بالواجب الشرعي ودعمًا للفقراء والمحتاجين.
ولا يقتصر تأثير شهر رمضان في إيران على الجوانب الروحية والعبادية فحسب، بل ينعكس كذلك على الواقع الاجتماعي بشكل ملموس. إذ تشير الإحصائيات إلى انخفاض واضح في معدلات الجريمة خلال هذا الشهر المبارك، حيث تسجّل نسب جرائم مثل سرقة المنازل انخفاضا يصل إلى ٢٥٪، والنشل بنسبة ١٩٪، والسرقات الصغيرة بنسبة ٢٣٪، والاختطاف بنسبة ٣٣٪، ما يعكس الأثر الإيجابي العميق للشهر الفضيل في تهذيب النفوس وتعزيز الالتزام الأخلاقي والسلوك المجتمعي القويم.
أظهرت الإحصاءات في محافظة أصفهان أن معدلات الجريمة والمخاطر الاجتماعية خلال شهر رمضان في السنوات الماضية شهدت انخفاضا ملحوظا يتراوح بين ۲۰ إلى 25% مقارنة ببقية أشهر السنة. ويُعزى هذا التراجع إلى تنامي الأجواء الروحية في المجتمع، وتعزيز القيم الدينية، وممارسة التقوى وضبط النفس، وهو ما يسهم في كبح العوامل المؤدية إلى الجريمة لدى عامة الناس.
وبوجه عام، يلعب شهر رمضان دورا محوريا في ترسيخ القيم الأخلاقية وخلق بيئة معنوية تُسهم بفاعلية في الحد من الجريمة والانحرافات الاجتماعية في إيران.
كما كشفت أحدث الإحصائيات الصادرة عن العلاقات العامة للسلطة القضائية في محافظة طهران عن انخفاض بنسبة 25% في عدد دعاوى الطلاق المقدمة إلى محكمة الأسرة خلال شهر رمضان مقارنة بالأشهر السابقة، ما يعكس الأثر الإيجابي لهذا الشهر المبارك على استقرار الأسرة والمجتمع.
إن شهر رمضان في إيران ليس مجرد شعيرة دينية فحسب، بل يُجسد منظومة ثقافية واجتماعية متكاملة. فمن الاستعدادات المبكرة التي تبدأ قبل حلوله، إلى تنظيف المساجد، وتنظيم موائد الإفطار العائلية، ومتابعة البرامج التلفزيونية الخاصة، وانتهاءً بصلاة عيد الفطر، تتجلى مظاهر ارتباط الإيرانيين العميق بهذا الشهر الفضيل. فشهر رمضان هو بحق موسم لتعزيز الإيمان، وبث روح التراحم، وإعلاء قيم السخاء والتكافل، وترسيخ وحدة المجتمع الإيراني.