كتب: برهان محمودي
ترجمة: علي زين العابدين برهام
أطلقت إيران خلال السنوات الأخيرة مبادرة وطنية واستراتيجية تحمل اسم “كونكت” (CONNECT)، بهدف بناء جسر يربط النخب الإيرانية المقيمة في الخارج والمتخصصين الدوليين بشبكة نشطة من المراكز العلمية، والبحثية، والصناعية داخل إيران.
تشكل هذه المنصة، التي مضى على إنشائها عدة سنوات، إحدى الركائز الأساسية في مساعي إيران لتعزيز التعاون العلمي ونقل المعرفة والخبرة والتكنولوجيا. كما تسعى “كونكت” إلى تسهيل عودة الكفاءات الإيرانية إلى الوطن وتشجيعهم على الإسهام الفعّال في تنمية البلاد.
اليوم، تتبوأ “كونكت” مكانة بارزة في دعم العلاقات العلمية والتكنولوجية بين إيران والعالم، وتُعد إحدى الدعائم الرئيسية في تحقيق التنمية المتكاملة التي تجمع بين الابتكار العلمي والتطور الصناعي.
خلال العامين الماضيين، شهد مشروع “كونكت” تحوّلات جذرية وإصلاحات أساسية. في مرحلته الأولى، ركّز المشروع على التعاون مع الجامعات والمعاهد البحثية الرائدة، حيث انضمّت أكثر من 20 جامعة كبرى في إيران، إلى جانب مراكز علمية مرموقة مثل معهد رويان للبحوث ومعهد بحوث البوليمر، لاستضافة هذا البرنامج الطموح.
تمت دعوة نخبة من المتخصصين الإيرانيين المقيمين في دول مثل اليابان، وكندا، وأستراليا، والولايات المتحدة، للمشاركة في برامج علمية متنوعة ضمن المشروع، شملت فرصا دراسية، وورشات تخصصية، وتعيينات كأعضاء هيئة تدريس، ومحاضرات علمية.
اليوم، لا تزال هذه الشراكات قائمة وتحقق نتائج ملموسة، إذ ساهمت في عودة عدد من النخب العلمية إلى البلاد، ما أثرى البيئة الأكاديمية، وعزّز الروابط الدولية للجامعات الإيرانية، كما بعث روح الحماسة والأمل في نفوس الطلاب الإيرانيين.
تحوّل في التوجّه: من الأكاديمية إلى الصناعة
يشهد عام 2025 تحوّلا استراتيجيا في مسار مشروع “كونكت”، حيث تنتقل المنصة من التركيز الحصري على التعاون الأكاديمي إلى تعزيز التفاعل المباشر مع القطاع الصناعي، وفقًا لما أعلنه أحد مسؤولي المشروع.
وفي إطار هذه المرحلة الجديدة، تم اختيار خمس مجموعات صناعية بارزة للمشاركة في المرحلة التجريبية، وهي: مجموعة مبنا، ومجموعة فنا، مجموعة کلرنک، شركتا سيناجن وآرياجن (في مجال الصناعات الدوائية)، وشركة بويندکان سعادت (في مجال المعدات الطبية). تتمتع هذه الشركات بمشاريع دولية كبرى، وقد أعربت عن رغبتها في التعاون مع خبراء مختصين في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، والاتصالات، والتقنيات الطبية والدوائية.
من خلال الشبكة الواسعة لـ “كونكت”، التي تضم اليوم أكثر من عشرة آلاف عضو، يتم التعرف على النخب الإيرانية العاملة في شركات عالمية وربطها بالصناعات الوطنية. ويمكن أن تتم هذه التعاونات على شكل استشارات تخصصية أو إدارة مشاريع ومنتجات داخل إيران.
يعكس هذا التوجّه الجديد لـ “كونكت” توظيف الكفاءات الإيرانية عالية الجودة في خدمة توطين التكنولوجيا وتحوّل المعرفة إلى تطبيقات صناعية فعلية.
آفاق عالمية: من الكفاءات الإيرانية إلى المتخصصين الدوليين
إلى جانب استقطاب الكفاءات الإيرانية المقيمة في الخارج، يتوسّع مشروع “كونكت” اليوم ليشمل المتخصصين غير الإيرانيين كذلك، في خطوة نحو تعزيز البعد العالمي للمبادرة. ومن خلال الاستفادة من شبكة الإيرانيين بالخارج، أُطلقت منصة جديدة تحت اسم “آيكونكت” (iCONNECT)، تُعنى بالتعرف على النخب الدولية الراغبة في التعاون مع إيران وجذبهم إلى بيئة الابتكار المحلية.
تم تحديد عدد من هؤلاء المتخصصين من الدول المجاورة وحتى من أوروبا، وبتنسيق مع وزارة الخارجية الإيرانية، تم تخصيص نوع خاص من التأشيرات لهم تحت اسم “تأشيرة التكنولوجيا”، لتسهيل تواصلهم مع مراكز التكنولوجيا والصناعة في البلاد.
ومن أبرز المحطات المستقبلية في هذا المسار، استضافة إيران في يونيو/حزيران 2025 لأكبر معرض للمعدات الطبية، حيث من المقرر أن يزور نخبة من المتخصصين الدوليين من مختلف الدول المعرض والمراكز التكنولوجية الإيرانية، مثل مدينة برديس التكنولوجية، وذلك على مدار أسبوعين.
يهدف هذا الحدث إلى خلق روابط مباشرة بين المتخصصين الأجانب والشركات المعرفية الإيرانية، في خطوة تعزز مكانة إيران كمركز جذب للخبرات والابتكار في المنطقة.
التعاون كبديل للخدمة العسكرية: حل مبتكر
أحد المسارات الجديدة التي تم تطويرها ضمن إطار مشروع “كونكت”، يخصّ الشباب الإيرانيين المقيمين بشكل دائم في الخارج والذين تشملهم الخدمة العسكرية الإلزامية. ونظرا لصعوبة التزامهم بالحضور في إيران لمدة عامين، فقد أُتيحت لهم إمكانية المشاركة في مشاريع معرفية داخل إيران كبديل عن أداء الخدمة العسكرية.
يمكن لهؤلاء الأفراد أن يسهموا في الشركات المحلية من خلال تقديم الاستشارات المتخصصة، أو الإسهام في إنتاج منتجات وخدمات قابلة للتصدير. العديد منهم يشغلون مناصب قيادية في كبرى شركات التكنولوجيا العالمية أو أسّسوا شركات ناجحة، وهم مستعدون لنقل منتجات وتقنيات طوّروها في الخارج إلى السوق الإيراني.
نموذج مالي جديد للتعاون مع الصناعة
يُعد التعاون مع القطاع الصناعي أكثر فاعلية من الناحية المالية مقارنة بالتعاون الأكاديمي. ففي حين تتحمّل الحكومة الجزء الأكبر من تكاليف التعاون مع الجامعات، فإن الشركات الصناعية، بفضل مواردها المالية، تتولّى غالبًا تمويل المشاريع بنفسها.
وقد قدّم مشروع “كونكت” نموذجًا فعّالًا، حيث أتاح قائمة شاملة من المتخصصين الراغبين في التعاون، مما سهّل على الشركات عملية البحث والتفاوض مع النخب.
خلال الشهرين الماضيين فقط، تم إطلاق أكثر من 180 مشروع تعاون في القطاع الصناعي، منها نحو 60 مشروعا وصل إلى مراحل التوقيع والتنفيذ. ويهدف البرنامج خلال هذا العام إلى تحقيق ما لا يقل عن 400 إلى 500 مشروع ناجح بالتعاون مع النخب الإيرانية في الخارج.
نموذج للتفاعل العلمي الدولي
لا يقتصر مشروع “كونكت” على المجال الصناعي فقط، بل يشمل كذلك دعم التفاعل الأكاديمي والعلمي الدولي. ففي أبريل/نيسان 2025، ينظّم معهد رويان للبحوث مؤتمرا دوليا حول الخلايا الجذعية وأمراض القلب في جزيرة كيش، حيث تمّت دعوة ما بين 14 إلى 15 متخصصا أجنبيا من خلال منصة “كونكت”. وتُسهم مثل هذه الفعاليات في ترسيخ علاقات علمية مستدامة بين إيران والعالم.
التحديات والأمل في المستقبل
رغم أن شبكة “كونكت” استطاعت خلال الشهرين أو الثلاثة أشهر الماضية استقطاب نحو 100 عضو جديد، إلا أن بعض العقبات ما تزال قائمة، من بينها القيود السياسية أو الإدارية التي تعيق مشاركة بعض النخب المقيمة في الخارج. ومع ذلك، تواصل منظمة التعاونات الدولية جهودها لحماية هذه العلاقات العلمية وتطويرها، بهدف إدارة البنية التحتية للتواصل العلمي بأقل قدر من المخاطر وأعلى مستويات الكفاءة.
وباختصار، فإن مشروع “كونكت” ينتقل حاليا من مرحلته التجريبية إلى مرحلة التثبيت والاستقرار. هذه المبادرة لا تُعد فقط جسرًا لربط النخب الإيرانية بوطنهم الأم، بل تُعتبر نموذجا يحتذى به في التفاعل العلمي والتكنولوجي مع العالم. وفي عصر تُعد فيه العقول ثروة وطنية، يمثل “كونكت” جهدًا نوعيًا لاستعادة رأس المال البشري ووضعه في خدمة مسار التنمية في إيران.