كتبت: سارا حسني زادة
ترجمة: علي زين العابدين برهام
لا يزال اسم مرتضى آويني حاضرا في الذاكرة الثقافية لإيران والعالم الإسلامي؛ اسم لم يُقترن بالفن والفكر فحسب، بل تحوّل إلى رمز من رموز المقاومة الثقافية الإسلامية.
لم يكن آويني مجرد كاتب أو صانع أفلام وثائقية، بل كان صوتا نابضا يخرج من عمق جبهات الحرب العراقية الإيرانية، ليجسّد أعمق المفاهيم الإنسانية، والفلسفية، والثورية في صورة فنية نابضة بالحياة.
الثورة الإسلامية وبداية التحوّل
وُلد مرتضى آويني في شهر أيلول/سبتمبر من عام 1947 بمدينة الري، في أسرة متديّنة ومثقّفة. تلقّى تعليمه الابتدائي والثانوي في طهران، ثم التحق بكلية الفنون الجميلة بجامعة طهران، ودرس الهندسة المعمارية. وقد تزامنت سنوات دراسته الجامعية مع تنامي التيارات الفكرية اليسارية والمتغرّبة في إيران، ما جعله – كحال كثير من شباب تلك المرحلة – متأثرا لبعض الوقت بالأفكار الحداثية.
غير أن انتصار الثورة الإسلامية عام 1979 شكّل له منعطفا حاسما، فتحوّل تحوّلا جذريا أخرج منه فنانا ملتزما، ومجاهدا، وعارفا. وقد عبّر عن هذا التحوّل بقوله: “الثورة الإسلامية قطعتني عن ماضيّ. من الفن لأجل الفن، وصلت إلى الفن لأجل الحقيقة”.
رواية الفتح.. صوت الجبهة من عمق التراب
مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية عام 1980، انطلق آويني برفقة مجموعة من الشباب صنّاع الأفلام الوثائقية إلى جبهات الجنوب والغرب، لتوثيق صوت المقاتلين ونقله إلى الشعب. وكانت ثمرة جهوده سلسلة وثائقيات “رواية الفتح”، التي لم تكن مجرّد تقارير عن الحرب، بل تجلّت فيها رؤى روحية ومعنوية عميقة.
في “رواية الفتح”، لم يكن آويني يسعى وراء توثيق مظاهر الحرب المادية، بل كان بعدسته يسبر أغوارها بروح ميتافيزيقية، باحثا عن حقيقة تتجاوز الرصاص والدماء. وقد كتب في إحدى مذكراته: “حربنا حرب عقيدة، لا حرب أرض. ومن لا يدرك هذه الحقيقة، فهو غائب، حتى وإن كان بين المقاتلين”.
وكان زملاؤه يؤكدون مرارا أن وجوده في الجبهات لم يكن من أجل التصوير فحسب، بل كان يعتبر نفسه جزءا من الجبهة. يقول مازيار برتو، أحد مصوري “رواية الفتح”: “عندما كنّا نُضيف صوت آويني إلى المشاهد، كانت الصور وكأنها تنبض بالحياة. لقد كان يمنحها الروح بكلماته”.
الفلسفة والعرفان والحضارة.. رؤية آويني الكونية
لم يكن مرتضى آويني مجرد صانع أفلام وثائقية، بل كان مفكرا متعمقا في مجالات الثقافة، والحضارة، وفلسفة الفن والإعلام. كان يرى أن الحداثة الغربية، نتيجة لانفصال الإنسان عن الحقيقة المطلقة (الله)، قد وقعت في مأزق وجودي، وأن على العالم الإسلامي أن ينهض من جديد عبر العودة إلى الحكمة الإسلامية وبناء حضارة جديدة.
في إحدى أشهر مقالاته، “حضارة الغرب والإنسانية المعاصرة”، كتب آويني: “حضارة الغرب قطعت الإنسان عن السماء وألقته في سجن الوحدة والخوف… طريق النجاة هو العودة إلى الولاية الإلهية والإيمان المحمدي”.
وقد استند فكره إلى تعاليم العرفان الإسلامي، وخصوصا إلى مؤلفات ملا صدرا الشيرازي والعلامة الطباطبائي. حتى في نقده للسينما، كان ينظر إلى “الصورة” من زاوية معرفية، قائلا: “إذا صارت الصورة حجابا عن الحقيقة، فهي فتنة؛ وإن كشفت عنها، فهي نور”.
أسلوب الكتابة وفن التعبير
أسلوب آويني في الكتابة كان مزيجا من العرفان والعقلانية والشاعرية. استطاع أن يعبّر عن أعقد المفاهيم الفلسفية بلغة بسيطة، جذابة وشعرية. لغته كانت من جهة تعبّر عن سلوك العارفين، ومن جهة أخرى تقدّم تحليلا اجتماعيا وتاريخيا عميقا.
ويرى كثير من الكتّاب وصانعي الأفلام الوثائقية من الجيل الجديد في إيران أن لغة آويني تمثل نموذجا لما يُعرف بـ”نثر المقاومة”؛ نثرٌ يجمع بين الرسالة، والإيمان، والتفكّر، والجمال.
الشهادة.. العودة إلى منبع الحقيقة
في التاسع من أبريل/نيسان عام 1993، استُشهد آويني أثناء تصويره حلقة جديدة من برنامج “رواية الفتح” في منطقة فکة، إحدى مناطق العمليات في الحرب. في ذلك اليوم، وبينما كان يهمّ بتصوير موقع يُعرف بـ”مقتلة”، ارتقى هو نفسه إلى لقاء الحق، إثر انفجار لغم من مخلفات الحرب.
وقد نعى المرشد الإيراني علي خامنئي، الشهيد آويني بكلمات مؤثرة قائلا: “آويني هو سيد شهداء أهل القلم”. وهو لقب تحوّل لاحقا إلى رمز لجيل اتخذ من القلم سلاحا في الدفاع عن الحقيقة.
الإرث الفكري والتأثير الإقليمي
تُعد أفكار آويني اليوم نموذجا لـ”الفن الإسلامي الملتزم” في إيران، كما تحظى بتقدير واسع في العديد من الدول العربية مثل لبنان، والعراق، وسوريا واليمن. تُدرّس مؤلفاته في جامعات مرموقة مثل طهران، وبغداد وبيروت، وتشكل جزءا من الخطاب الثقافي المرتبط بالمقاومة والهوية الإسلامية.
وقد تناولت قنوات مثل “المنار” و”العالم” مرارا شخصية آويني وبرنامجه الشهير “رواية الفتح”، حيث شكّلت كلماته عن المقاومة، الشهادة، الانتظار، والحضارة الإسلامية مصدر إلهام عميق لجيل الشباب العربي المنتمي لمحور المقاومة.
وفي أحد الندوات الثقافية بمدينة النجف، قال أحد الأساتذة العراقيين: “إذا كان السيّد حسن نصرالله هو صوت المقاومة، فإن مرتضى آويني هو روحها”.
ذكريات من المقرّبين
تروي مرضيّة حديدجي، أول امرأة تولّت قيادة في الحرس الثوري الإيراني، عن لقائها الأول مع آويني بقولها: “كانت في عينيه لمعة، لكنها لمعة عرفانية… حين كان يتحدث، لم يكن يقنع القلب بالعقل والمنطق، بل كان يلامسه بالعشق”.
أما وحيد جليلي، الناشط الثقافي، فيقول: “إذا رأينا اليوم شباب لبنان واليمن في ساحات القتال يحملون الكاميرات، فذلك امتداد للطريق الذي بدأه آويني في فکة، ومضى وتركه لنا دربا نواصل المسير فيه”.
إن مرتضى آويني لم يكن مجرد فرد، بل كان روح تيار ثقافي متجدد. فتح بجسده وقلمه طريقا لا يزال نابضا بالحياة؛ طريقا جعل الفن خادما للإيمان، والإعلام منبرا للعدالة، والرواية مرآة للحقيقة.
لم يكن آويني شهيدا إيرانيا فحسب، بل كان أنموذجا عالميا لـ”الفنان المجاهد”؛ ذاك الذي لم يرضَ الصمت في وجه الظلم، بل حمل الكاميرا وثبّت الحقيقة بعدسته، ذاك الذي لم يلجأ إلى أبراج التنظير المعزولة، بل نزل إلى ميادين الخطر، وهناك خطّ اسمه في سجل الخلود.