كتبت: سارة محمد علي
رغم وصف الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش (الابن) لإيران بأنها واحدة ضمن دول محور الشر وفي المقابل وصف المرشد الإيراني الأول روح الله الخميني للولايات المتحدة بأنها الشيطان الأكبر، وإعلان البلدين القطيعة مراراً، فإن المفاوضات السرية بين واشنطن وطهران لم تنقطع منذ تأسيس الجمهورية الإيرانية عام 1979.
“زاد إيران” رصد في تقرير سابق أبرز المفاوضات السرية بين البلدين في عهد الخميني، ويرصد التقرير التالي تاريخ التفاوض السري الذي ظل مستمراً في عهد خليفته علي خامنئي الذي تولى منصبه عام 1989، رغم تصريحاته بأنه لا يتفاءل بالتفاوض مع الولايات المتحدة؛ لأنه يراها دولة متلاعبة ولا تلتزم بتعهداتها، فإن تاريخ ولايته شهد الكثير من المفاوضات السرية والمعلنة بين واشنطن وطهران بموافقته.
المفاوضات النووية الأولى
أول المفاوضات السرية بين الولايات المتحدة وإيران في عهد خامنئي كانت نهاية عام 1991 وبداية 1992، وكشفت عنها وكالة أنباء تسنيم الإيرانية في تقرير لها أبريل/نيسان 2013.
وبحسب التقرير، فإنه قبل الانتخابات الرئاسية عام 1992، عقدت 3 جولات من المفاوضات السرية بين واشنطن وطهران في العاصمة العمانية مسقط، وفيها قبلت الولايات المتحدة قيام إيران بتخصيب اليورانيوم، وسلمت الرئاسة الأمريكية رسالة مكتوبة إلى إيران تحمل الموافقة الرسمية، وهو ما لم تنفِه أي جهة رسمية إيرانية أو أمريكية.
مفاوضات نجاد
شهدت فترة رئاسة أحمدي نجاد لإيران عدداً كبيراً من جولات التفاوض السري بين واشنطن وطهران، تسلّم نجاد الحكم عام 2005 ومعه ملف المفاوضات السرية التي بدأت في عهد سلفه محمد خاتمي عام 2003.
وبحسب صحيفة لوتون السويسرية في تقرير لها 7 أبريل/نيسان 2009، فقد احتضنت جنيف منذ عام 2003 تزامناً مع الحرب الأمريكية على العراق وحتى عام 2009، لقاءات دورية بين أكاديميين وخبراء من إيران والولايات المتحدة وأوروبا وبلدان عربية، لإجراء محادثات رفيعة المستوى، لكنها غير رسمية.
هذه المعلومات التي كشفت عنها الصحيفة أكّدتها بطريقة غير مباشرة وزيرة الخارجية السويسرية آنذاك ميشلين كالمي-راي، التي أشارت في لقاء مع إعلاميين جرى في نفس اليوم، إلى أنها كانت على عِـلم بالاتصالات الجارية على مدى السنوات القليلة الماضية، لكنها نفت لعِـب سويسرا لأي دور فيها، وقالت كالمي-راي: “لقد كانت المحادثات على مستوىً غيرِ رسمي تماماً، ووزارة الخارجية لم تكُـن منخرطة فيها”.
اللقاءات السرية المعروفة باسم “المسار الثاني”، شهِـدت، حسب صحيفة لوتون، حضور حوالي 30 مشاركاً في كل مرة، وقد جرت في معظم الأحيان في جنيف، إضافة إلى مُدن أوروبية أخرى، ونقلت الصحيفة عن مصادر لها، أن آخر جولة من المحادثات، دارت من 6 إلى 8 مارس/آذار 2009 .
وبلغ عدد المشاركين في هذه اللقاءات السرية على مدى الأعوام الستة، حوالي 400 شخص، لكنهم يحرِصون على عدم الكشف عن هوياتهم، خِـشية تعرُّضِـهم لردود فِـعل غاضبة من طرف الحكومة الإيرانية.
وتعتقد الصحيفة السويسرية أن هذه الاجتماعات قد جرت بموافقة شخصيات ودوائر “مؤثرة” في طهران وواشنطن، وزعمت بأن شخصية قريبة من الحكومة الإيرانية، إضافة إلى سفير لدولة أخرى، كانا حاضرين في اللقاء الذي دار في الأسبوع الأول من شهر مارس/آذار 2009.
ومن خلال المعلومات التي أوردتها لوتون، فإن المشاركين، الذين يوجد من بينهم خبراء في المجالات الاستراتيجية والنووية والعلاقات الدولية، قد تطرّقوا في النقاشات التي دارت بينهم إلى ملف التكنولوجيا النووية لإيران.
وزعمت الصحيفة السويسرية أن مكان انعقاد اللقاءات غير الرسمية قد انتقل منذ منتصف عام 2009 من جنيف إلى أماكن أخرى، بسبب تنامي الاهتمام الإعلامي بالمحادثات، وأضافت الصحيفة أن المفاوضات السرية المسماة بـ“المسار الثاني” قد نجحت في إذابة الجليد القائم بين طهران وواشنطن، وفتحت مسارات أوسع للتفاوض من القنوات الرسمية.
أما المفاوضات السرية الأبرز في عهد حكومة أحمدي نجاد، فقد كانت بعد تولي باراك أوباما رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية عام 2009، وقد كشف عنها وزير خارجية حكومة نجاد علي أكبر صالحي في حوار له عام 2014 مع مجلة الدبلوماسي الإيرانية.
وبحسب صالحي، فإن أبرز محطات تلك المفاوضات السرية في عهد حكومتي نجاد وأوباما، كانت عندما أصبح الرئيس الأمريكي باراك أوباما على مشارف ولايته الثانية وكان هو وفريقه قلقين من خسارة الانتخابات، ولذلك فكروا في حل قضية دولية كبيرة من أجل تحسين صورتهم في المجتمع الأمريكي، واختاروا الملف النووي الإيراني.
ويضيف صالحي: “خلال تلك الفترة ذهب أحد نوابي في الخارجية إلى عمان للتفاوض حول الإفراج عن بعض السجناء الأمريكيين والبريطانيين لدى إيران بوساطة عمانية، وهناك قال سالم إسماعيل، أحد مستشاري السلطان العماني الراحل قابوس، لنائب وزير الخارجية الإيراني بأن الأمريكيين يقولون إنهم مستعدون لمفاوضات ثنائية مع إيران بشأن الملف النووي.
يقول علي أكبر صالحي: “أحال نائبي الرسالة إليّ على قطعة من الورق، قرأتها ولم آخذها على محمل الجد، وفي المناسبة التالية، عندما سافر أحد مسؤولي شركة ناقلات النفط الإيرانية إلى عمان لإعادة بعض السفن العمانية التي كانت مؤجرة لإيران، قدم سالم إسماعيل هذا الاقتراح مرة أخرى، وتم إبلاغي بالأمر ثانية مرة فرأيت أنه أمر خطير على ما يبدو”.
ويتابع صالحي: “فكتبت مذكرة وأرسلتها إلى سالم إسماعيل مستشار السلطان قابوس، ذكرت فيها أنه إذا كان الأمريكيون جادين حقاً في هذا الموضوع، فسيتعين عليهم حل عدة قضايا، أولها الاعتراف بحق إيران في تخصيب اليورانيوم”.
بعد ذلك أرسل الأمريكيون رسالة مفادها: “نعم، نحن مستعدون للتفاوض حول هذا الأمر، وهنا طلب صالحي من إسماعيل أن يكتب السلطان قابوس رسالة رسمية موجهة إلى خامنئي يشرح فيها تفاصيل التفاوض المطروح”.
فكتب قابوس الرسالة وسلمتها الخارجية الإيرانية إلى خامنئي، وبحسب صالحي فقد وافق المرشد الإيراني مع توضيح منه أنه لا يثق بالأمريكيين، لكن لا مانع من المحاولة.
لكن رغم موافقة خامنئي، فإن سعيد جليلي أحد الممثلين، الاثنين، لخامنئي في المجلس الأعلى للأمن القومي الذي يعد أعلى هيئة أمنية في البلد، كان معارضاً للمفاوضات السرية بين طهران وواشنطن، وحاول تعطيل أي لقاءات بين الجانبين لمدة ثلاثة أشهر، وأنكر وجود موافقة لخامنئي على إجرائها، حتى كتب له أحمدي نجاد رسالة قال فيها: “لقد كنت حاضراً في الاجتماع مع القيادة عندما أعطى المرشد هذا الإذن للتفاوض مع أمريكا”.
واستمرت هذه المفاوضات حتى تحقيق الاتفاق النووي الإيراني المعروف بخطة العمل الشاملة المشتركة عام 2015 بينما كان يرأس إيران آنذاك حسن روحاني.
وبحسب ادعاء لعضو البرلمان الإيراني، جواد كريمي قدّوسي، في مقطع مصور نشر عبر موقعه الرسمي 21 فبراير/شباط 2017، أن فريق التفاوض الإيراني في حكومة روحاني وقع 7 اتفاقيات سرية مع الولايات المتحدة والغرب سبقت الاتفاق النووي، زاعماً بأنها شملت الاعتراف بإسرائيل ووقف دعم طهران للإرهاب والقبول بدور السعودية الإقليمي في المنطقة، وتجميد برنامج إيران النووي، ووقف برنامج تطوير الصواريخ والتجارب الباليستية، والالتزام بوقف انتهاكات حقوق الإنسان.
وهو ما نفته وزارة الخارجية الإيرانية في نفس اليوم، وأصدرت بياناً شديد اللهجة ضد النائب جواد قدوسي، قالت فيه إن “هذه مزاعم لا أساس لها من الصحة ومضحكة وجملة من الافتراءات”.
وأضافت الخارجية الإيرانية في بيانها أن هذه المزاعم تأتي في إطار “الدعاية الخيالية”، وهددت بمقاضاة النائب بتهمة ارتكاب عمل إجرامي.
وفي عام 2018 أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني، وإعادة فرض العقوبات الأمريكية على إيران، لكن ذلك لم يمنع حدوث مفاوضات سرية بين البلدين حول مصالحهما المشتركة في أفغانستان، وفق ما نشرته وكالة أنباء رويترز في 16أغسطس/آب 2019.
وبعد أربع أشهر من وصول جو بايدن لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية مطلع عام 2021، نشرت رويترز تقريرا لها في 2 أبريل/نيسان من نفس العام، يزعم عقد مفاوضات سرية بين طهران وواشنطن في فيينا.
وفي 21 سبتمبر/أيلول 2023، نشرت مزاعم عن لقاء سري آخر جرى بين البلدين في العاصمة القطرية الدوحة لمحاولة إحياء الاتفاق النووي من جديد.
مفاوضات ما بعد “الطوفان”
بعد اندلاع معركة طوفان الأقصى بين حماس وإسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، واتساع دائرة الحرب لتضم فصائل أخرى موالية لإيران مثل الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان، إضافة للمعركة بين إيران وإسرائيل وتبادل الهجمات الصاروخية بينهما، جرت العديد من المفاوضات السرية بين واشنطن وطهران.
أبرز هذه المفاوضات ما كتبت عنه صحيفة فايننشال تايمز البريطانية في تقرير لها 13 مارس/آذار 2024، حيث زعمت أن الولايات المتحدة أجرت محادثات سرية مع إيران هذا العام في محاولة لإقناع طهران باستخدام نفوذها على أنصار الله الحوثيين في اليمن لإنهاء الهجمات على السفن في البحر الأحمر.
وادعت الصحيفة أن المفاوضات جرت بين واشنطن وطهران بصورة غير مباشرة في يناير/كانون الثاني 2024 بسلطنة عمان، وكانت الأولى بين الخصمين منذ 10 أشهر.
وبحسب الصحيفة، فقد ترأس الوفد الأمريكي مستشار الشرق الأوسط في البيت الأبيض بريت ماكغورك ومبعوثه لإيران أبرام بالي، في حين ترأس الوفد الإيراني علي باقري كني نائب وزير الخارجية وكبير المفاوضين بالملف النووي، وهو ما أكدته شبكة سي إن إن الأمريكية عبر مصادر لها في تقرير نشرته بنفس اليوم.
إلا أن إيران نفت الخبر بعد ساعات من نشره، عبر تصريح نقلته وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية إيرنا عن مصدر إيراني، وبحسب مصدر الوكالة الذي لم تفصح عن اسمه، فإن المحادثات السرية تمت بالفعل لكنها لم تتجاوز الحديث حول الملف النووي الإيراني ولم تطرق إلى هجمات الحوثيين على السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر.
وهو ما كذبته صحيفة نيويورك تايمز في اليوم التالي، زاعمة صحة ما نشرته الفايننشال تايمز وسي إن إن، وادعت الصحيفة الأمريكية أن مصادر أخرى أكدت لها صحة المفاوضات السرية بين الولايات المتحدة وإيران حول هجمات الحوثيين في البحر الأحمر.
وفي يوليو/تموز 2024 قال علي باقري كيني، القائم بأعمال وزير خارجية إيران آنذاك، في لقاء تليفزيوني، إن المفاوضات “غير المباشرة والسرية” بين الحكومتين الإيرانية والأمريكية تجري عبر وساطة عمانية دون أن يوضح تفاصيل هذه المفاوضات، إلى أن أعلن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في أكتوبر/تشرين الأول 2024 توقفها بسبب الأوضاع في المنطقة.
آخر محطات التفاوض السري بين واشنطن وطهران كانت ما كشفت عنها صحيفة نيويورك تايمز في تقرير لها 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، تزعم فيه نقلاً عن مسؤولين إيرانيين لم تسمّهم، حدوث لقاء بين السفير الإيراني في الأمم المتحدة سعيد إيرواني ورجل الأعمال الأمريكي المقرب من دونالد ترامب إيلون ماسك، الاثنين 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، تناقشا فيه حول الحد من التوترات بين إيران والولايات المتحدة.
وبحسب مصادر الصحيفة، فإن ماسك هو من طلب عقد الاجتماع، والسفير هو من اختار الموقع، وتم اللقاء في مكان سري واستمر أكثر من ساعة، وقُيّمت نتائجه بأنها إيجابية.
كما أشارت إلى أن السفير الإيراني أبلغ ماسك، خلال الاجتماع، أنه يجب الحصول على إعفاءات من عقوبات وزارة الخزانة الأمريكية، وزعمت أن الاجتماع قدم حلاً بديلاً لإيران، مما سمح لها بتجنب الجلوس مباشرة مع مسؤول أمريكي.
وبينما لم يعلق أي من أطراف الاجتماع على التقرير، نفت الخارجية الإيرانية عبر ممثليها حدوث اللقاء، ووصفه وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي بالفبركة الإعلامية.
إلا أن مصادر مقربة من الحكومة الإيرانية أكدت لـ”زاد إيران” حدوث اللقاء، معللة النفي الإيراني بأنه بسبب ضغط التيار الأصولي وهجومه الشديد على الحكومة عند تسريب أنباء اللقاء؛ مما اضطر الخارجية الإيرانية للإنكار.