كتب: مصطفى أفضل زادة، مراسل “زاد إيران” في طهران
ترجمة: علي زين العابدين برهام
يعتبر الذكاء الاصطناعي من أبرز التقنيات في عالمنا المعاصر، حيث أحدث تأثيرات عميقة في الصناعة والاقتصاد والحياة اليومية. وقد تمكنت الدول التي استثمرت بشكل كبير في هذا المجال من تحقيق قفزات نوعية في التنمية الاقتصادية والصناعية. وفي السنوات الأخيرة، انتهجت إيران سياسات علمية وتقنية واعية، لتسلك بجدية مسار تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، مما جعلها من الدول الرائدة في هذا الميدان على مستوى المنطقة.
تمكنت إيران خلال السنوات الأخيرة من إحراز موقع متقدم على مستوى العالم في إنتاج المعرفة العلمية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي. ووفقًا للإحصاءات الصادرة عن قاعدة بيانات “سيماجو”، التي تُعد مركزا دوليا معتمدا لقياس وتقييم المستوى العلمي للدول، احتلت إيران المرتبة الخامسة عشرة عالميا والأولى إقليميا (على مستوى الشرق الأوسط) في مجال نشر المقالات العلمية المتخصصة بالذكاء الاصطناعي. ويعكس هذا الإنجاز حجم الطاقات العلمية والبحثية الكبيرة التي تتمتع بها البلاد في هذا المجال الحيوي.
كما تكشف الدراسات المتخصصة في فروع الذكاء الاصطناعي المختلفة عن تفوق إيران في عدد من هذه المجالات. فبحسب بيانات موقع “ويب أوف ساينس”، احتلت إيران المرتبة السادسة عالميا في مجال الشبكات العصبية، والمرتبة السابعة عشرة في مجال التعلم الآلي. وفي مجالات أخرى كالحوسبة البصرية، ومعالجة اللغة الطبيعية، وتكنولوجيا الروبوتات، والأنظمة متعددة الوكلاء، استطاعت إيران أن تدرج نفسها ضمن قائمة أفضل 30 دولة في العالم.
يُعد وجود جامعات مرموقة ونشاط مكثف للباحثين من أبرز عوامل نجاح إيران في مجال الذكاء الاصطناعي. فقد لعبت الجامعات الكبرى دورا محوريا في دفع عجلة الأبحاث العلمية بهذا القطاع. وتتصدر جامعة طهران المشهد الأكاديمي بتقديمها 327 وثيقة علمية متخصصة، تليها جامعة تبريز وجامعة أمير كبير الصناعية، اللتان تحظيان بنصيب وافر في نشر الأبحاث المتعلقة بالذكاء الاصطناعي.
تبرز هذه الأرقام مدى تركيز المؤسسات الأكاديمية الإيرانية على هذا المجال الحيوي، كما تعكس الإمكانات الكبيرة التي تمتلكها البلاد لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي.
وفي موازاة النشاط البحثي، حققت إيران خطوات عملية رائدة في توظيف الذكاء الاصطناعي. ومن أبرز هذه المشاريع الوطنية، تطوير الروبوت الإنساني الشهير “سورنا”، الذي صممه فريق من الباحثين الإيرانيين. وقد تم الكشف عن الجيل الرابع منه في عام 2018، ليحجز مكانه ضمن قائمة أفضل عشرة روبوتات إنسانية على مستوى العالم، في إنجاز يعكس القدرات العلمية والتقنية المتقدمة لإيران في مجالي الروبوتات والتعلم الآلي.
وفي خطوة استراتيجية أخرى، أطلقت إيران في سبتمبر 2024 مشروع “المنصة الوطنية للذكاء الاصطناعي”، بدعم من إدارة العلوم والتكنولوجيا التابعة لرئاسة الجمهورية. وتُعد هذه المنصة من البنى التحتية الأساسية لتطوير الذكاء الاصطناعي في البلاد، حيث تهدف إلى تقليص الاعتماد على النماذج الأجنبية، وتطوير نماذج محلية، إلى جانب تقديم خدمات معالجة متطورة للشركات والباحثين المحليين. وقد تم الكشف عن النسخة الأولية من المنصة، على أن يكتمل تطوير نسختها النهائية بحلول فبراير 2026.
تُعد الشركات المعرفية من المحرّكات الأساسية لتقدم الذكاء الاصطناعي في إيران، حيث تنشط في مجالات متنوعة مثل تحليل البيانات، ومعالجة اللغة الطبيعية، وقد أسهمت هذه الشركات في تطوير التطبيقات العملية لهذه التكنولوجيا داخل مختلف القطاعات الصناعية. وتمكنت بعض هذه الشركات من إنتاج أنظمة ذكاء اصطناعي متقدمة لتقنيات مثل التعرف على الوجوه، ومعالجة الصور، وتحليل البيانات الضخمة، والتي تُستخدم في مجالات الأمن، وإدارة المدن، وترشيد استهلاك الطاقة.
ويعتبر دعم هذه الشركات عبر توفير التسهيلات المالية وخلق فرص للتعاون مع القطاعات الصناعية من العوامل التي يمكن أن تُسرّع وتيرة تطوير الذكاء الاصطناعي في إيران.
رغم هذه الإنجازات العلمية، لا تزال الاستثمارات المالية في قطاع الذكاء الاصطناعي بإيران عند مستويات متواضعة. ووفقا للتقارير المنشورة، لم تتجاوز الاستثمارات في هذا المجال حتى الآن عتبة 10 ملايين دولار، وهو مبلغ ضئيل مقارنة بالدول الرائدة مثل الولايات المتحدة والصين، التي تضخ مليارات الدولارات سنويًا في هذا القطاع. ويُعدّ تعزيز الاستثمارات، لا سيما في مجالات البحث والتطوير، والبنية التحتية للمعالجة، ونماذج التعلم العميق، من المتطلبات الأساسية لتحقيق قفزة نوعية لإيران في هذا المضمار.
بفضل ما تمتلكه من طاقات علمية وخبرات بشرية متخصصة، تملك إيران المقومات اللازمة لتعزيز مكانتها في مجال الذكاء الاصطناعي. ويكمن مفتاح هذا التقدم في تبني سياسات شاملة، إلى جانب ضخ استثمارات مدروسة تسهم في دفع عجلة الابتكار والتطوير.
ومن بين أبرز الخطوات الضرورية في هذا الإطار، زيادة الدعم الحكومي الموجّه للشركات المعرفية والأبحاث الجامعية. فتقديم التسهيلات المالية، وإنشاء مراكز للابتكار، وتوسيع آفاق التعاون الدولي، كلها عوامل من شأنها تسريع نمو قطاع الذكاء الاصطناعي في البلاد.
إلى جانب ذلك، يُعدّ تطوير التعاون العلمي والتقني مع الدول المتقدمة ركيزة أساسية لتحقيق طفرة نوعية في هذا المجال. ورغم التحديات الناتجة عن العقوبات المفروضة، والتي حدّت من الانفتاح على كبرى الشركات التكنولوجية، إلا أن تعميق الشراكات مع دول صديقة مثل الصين وروسيا يمكن أن يفتح آفاقا واسعة أمام إيران للاستفادة من التجارب والخبرات العالمية.
وفي سياق مواز، تبرز الحاجة الماسّة إلى وضع إطار قانوني واضح ومنظم يواكب تطور الذكاء الاصطناعي. إذ بادرت العديد من الدول المتقدمة إلى سنّ تشريعات تُنظّم استخدام هذه التكنولوجيا في مجالات الأمن السيبراني، حماية الخصوصية، وسوق العمل. وفي هذا الصدد، ينبغي لإيران أن تتبنى قوانين واضحة تضمن تنمية مستدامة ومسؤولة للذكاء الاصطناعي، تحمي حقوق الفاعلين في هذا القطاع وتتصدى لأي سوء استخدام محتمل.
يُعد الذكاء الاصطناعي من أهم التقنيات الحديثة القادرة على لعب دور حاسم في مستقبل الاقتصاد والصناعة الإيرانية. وخلال السنوات الأخيرة، استطاعت إيران أن تحقق تقدمًا ملحوظا في هذا المجال من خلال النمو اللافت في إنتاج المعرفة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، إلى جانب تنفيذ مشاريع وطنية كبرى مثل “المنصة الوطنية للذكاء الاصطناعي” وتطوير الشركات المعرفية، مما أسهم في تعزيز مكانتها الإقليمية والدولية.
ورغم هذه الإنجازات، لا تزال تحديات جوهرية قائمة، من أبرزها ضعف حجم الاستثمارات، محدودية التعاون الدولي، والفجوة بين الأبحاث الأكاديمية والتطبيقات الصناعية. ولمواجهة هذه التحديات، تحتاج إيران إلى اعتماد سياسات داعمة، جذب استثمارات ضخمة، تقوية الروابط الدولية، وتقديم الدعم المباشر للشركات الناشئة والشركات المعرفية.
ويمثل إطلاق “المنصة الوطنية للذكاء الاصطناعي” خطوة محورية في مسار تحقيق الاكتفاء الذاتي في هذا القطاع. إذ تتيح هذه المنصة إمكانية تنفيذ مشاريع ضخمة في مجالات مثل معالجة اللغة الطبيعية، رؤية الحاسوب، التعلم العميق، ومعالجة البيانات الضخمة. وإذا استمرت وتيرة هذا التقدم، فإن إيران مرشحة لأن تصبح، خلال السنوات المقبلة، أحد أبرز اللاعبين في مجال الذكاء الاصطناعي على مستوى المنطقة، بما يتيح لها الاستفادة من الفرص الواسعة التي توفرها هذه التكنولوجيا.