كتبت ميرنا محمود
شهدت الأيام القليلة الماضية إعادة لأعنف الاشتباكات بين أذربيجان وأرمينيا، وذلك بعد مرور عامين على حرب قره باغ الثانية التي اندلعت في 27 سبتمبر 2020 واستمرت لمدة 44 يومًا. وقد بدأت هذه الاشتباكات الجديدة في ليلة 12 سبتمبر، إثر استفزازات أرمينية قوبلت برد أذربيجاني حازم، وإن كانت حدة الاشتباكات قد تراجعت إلا أن التوتر لا يزال قائمًا. ووفقًا للإحصائيات الرسمية، فقد أسفرت هذه الاشتباكات عن مقتل 135 جنديًا أرمينيا و77 جنديًا أذربيجانيا.
وتسعى تركيا إلى دفع عملية التطبيع بين أذربيجان وأرمينيا إلى الأمام بالتزامن مع التقدم المحرز نحو إبرام اتفاق سلام دائم بين البلدين. وقد أكدت أنقرة على ضرورة تحقيق تقدم في العلاقات بين أذربيجان وأرمينيا قبل اتخاذ أي خطوات نحو تطبيع العلاقات الدبلوماسية أو فتح الحدود مع أرمينيا.
علاقات وطيدة
وفقًا للتقرير الصادر عن موقع الجزيرة بنسخته العربية في 27 سبتمبر/أيلول 2024، هناك مجلس للتعاون الإستراتيجي رفيع المستوى بين تركيا وأذربيجان، يعكس عمق العلاقات وحجمها على كل الأصعدة، بما فيها العسكري والاقتصادي. وعادة ما تستقبل أنقرة الجرحى الأذريين المصابين في الاشتباكات مع القوات الأرمينية بشكل مستمر. وتستخدم وسائل الإعلام الرسمية التركية تعبير “شهيد” عند الحديث عن قتلى القوات الأذربيجانية برصاص القوات الأرمينية.
ويعيش في أذربيجان غالبية مسلمة مع وجود تركي مكثف، فيما تعد أرمينيا دولة ذات غالبية مسيحية يسكنها أرمن بشكل أساسي. وتمد أذربيجان تركيا بالنفط وكميات متزايدة من الغاز من حقل “شاه دينيز” في بحر قزوين، وهي مستثمر كبير في تركيا الحديثة. كما توجد مشاريع تركية عملاقة في أذربيجان معرضة للاستهداف، بينها خط السكك الحديدية “باكو-تفليس-قارص”، وخط نقل الطاقة “باكو-جيهان”.
أسباب تصاعد التوتر بين أذربيجان وأرمينيا
وفقًا للتقرير الصادر عن وكالة الأنباء البي بي سي “BBC” بنسختها التركية في 11 سبتمبر/أيلول 2023، من بين الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تصعيد التوتر مؤخرًا إغلاق أذربيجان لممر لاشين وإجراء القوات الأرمينية التي لا تزال تسيطر على بعض مناطق ناغورنو قره باغ انتخابات رئاسية. وفي حين تدعو أنقرة كلا الطرفين إلى الهدوء وتواصل الحوار معهما، فإنها تؤكد في الوقت نفسه على استمرار دعمها السياسي والعسكري لأذربيجان.
ويعود السبب الجذري في تجدُّد التوترات بين أذربيجان وأرمينيا إلى عدم التوصل إلى اتفاق سلام دائم منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار الذي أنهى حرب ناغورنو قره باغ في نوفمبر 2020. وبالتوازي مع ذلك، يعتبر تكرار خروقات وقف إطلاق النار من قبل القوات المسلحة الأرمينية على الحدود تطورًا لافتًا للنظر.
مسألة ممر لاشين
شهدت الفترة الأخيرة أحداث متسارعة زادت من حدة التوتر في المنطقة، وكان أبرزها إغلاق أذربيجان لممر لاشين. ويعد هذا الممر شريان الحياة الأساسي لسكان إقليم ناغورنو قره باغ ذوي الأغلبية الأرمينية، حيث يربطهم بأرمينيا.
وقد صنفت الأمم المتحدة ممر لاشين في ديسمبر 2022 بأنه “ممر إنساني”، بهدف ضمان وصول المساعدات الإنسانية من الغذاء والدواء وغيرها من الاحتياجات الأساسية لسكان الإقليم بشكل مستمر. إلا أن أذربيجان، بدعوى أن الأرمن يستغلون هذا الممر في أعمال غير قانونية مثل استخراج المعادن، قامت بإغلاقه.
وقامت أذربيجان بإنشاء نقطة تفتيش على ممر لاشين، الذي يمر عبر أراضيها، وذلك بموجب اتفاق وقف إطلاق النار لعام 2020 والذي تشرف عليه روسيا. وقد كثفت أذربيجان من عمليات التفتيش على الممر، مما أدى إلى تعطيل وصول المساعدات الإنسانية إلى إقليم ناغورنو قره باغ. وأثارت هذه الخطوة الأذرية استياءً واسعًا، لا سيما من أرمينيا وفرنسا والولايات المتحدة.
من جانبها، دعت وزارة الخارجية الأمريكية في بيان لها صدر في العاشر من سبتمبر إلى السماح بمرور المساعدات الإنسانية المتراكمة بالقرب من ممر لاشين وطريق أغدام إلى إقليم ناغورنو قره باغ، وحثت الأطراف على الدخول في حوار مباشر لحل الخلافات.
إدانة الانتخابات في قره باغ
زاد إجراء انتخابات جديدة في إقليم ناغورنو قره باغ، الذي يقطنه غالبية أرمينية، من حدة التوتر في المنطقة، خاصة في ظل استمرار إغلاق ممر لاشين.
وصفت أذربيجان هذه الخطوة بأنها “إهانة” لسيادتها ووحدة أراضيها، مؤكدة أن “السبيل الوحيد لتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة هو انسحاب القوات المسلحة الأرمينية من إقليم قره باغ بشكل كامل وغير مشروط، وإلغاء النظام الانفصالي”.
تدخُّل أنقرة
حرصت أنقرة، التي تولي أهمية كبيرة لتحقيق الاستقرار في منطقة القوقاز، على التدخل لتهدئة التوترات قبل تفاقمها. فقد أجرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اتصالاً هاتفيًا برئيس أذربيجان إلهام علييف خلال مشاركته في قمة مجموعة العشرين في الهند، ناقش خلاله آخر التطورات.
وأكد أردوغان في مؤتمر صحفي بنيودلهي على عدم قبول الانتخابات التي جرت في ناغورنو قره باغ، داعيًا رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان إلى تحذير الأرمن المقيمين في المنطقة. كما استقبل الرئيس أردوغان نظيره الأرميني نيكول باشينيان في أنقرة عقب عودته من الهند، وأكد له أن تحقيق سلام واستقرار دائمين في المنطقة سيعود بالفائدة على جميع دولها.
ويولي الرئيس أردوغان أهمية كبيرة للحوار مع رئيس الوزراء الأرميني، وقد أكد ذلك خلال حضوره حفل تنصيب باشينيان.
الحفاظ على عملية السلام
أعربت تركيا عن قلقها البالغ إزاء احتمال تعطل عملية إبرام اتفاق سلام دائم بين أذربيجان وأرمينيا، والتي تسير بصعوبة، وتخشى اندلاع صراع مسلح جديد بين الطرفين.
وجاء في بيان لوزارة الخارجية التركية بشأن الانتخابات التي جرت في ناغورنو قره باغ: “نحن ندين هذه الانتخابات التي تجري في وقت تسعى فيه الأطراف إلى استئناف محادثات السلام، ونعتبرها محاولة لتقويض جهود السلام”. وأكَّد البيان على أهمية التوصل إلى اتفاق سلام دائم بين الطرفين في أقرب وقت ممكن، مشيراً إلى أن ذلك سيساهم بشكل كبير في تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة.
ما هي توقعات أذربيجان وأرمينيا؟
وفقًا للتقرير الصادر عن وكالة الأناضول التركية “Anadolu Ajansı” في 17 مايو/أيار 2024، أعلن وزير الخارجية الأرميني خلال مؤتمر صحفي عقده في يريفان مع الأمين العام لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا عن استعداد بلاده لفتح خطوط النقل مع أذربيجان، شريطة احترام سيادة الدول وسلامة أراضيها، مع التركيز بشكل خاص على إعلان ألما آتا لعام 1991 والوضع القانوني لممر زانغيزور.
تطالب أرمينيا بتحديد الحدود بين البلدين وفقًا لإعلان ألما آتا الذي وقعته دول الاتحاد السوفيتي السابق في 21 ديسمبر 1991. وفي الواقع، وافق قادة البلدين على إعلان ألما آتا خلال قمة المجتمع السياسي الأوروبي التي عقدت في براغ في 6 أكتوبر 2022. ولكن رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان خالف هذا الاتفاق لاحقًا، وطالب بمنح الأرمن في قره باغ وضعًا خاصًا وضمانات دولية.
تطالب أذربيجان بمنح ممر زانغيزور الذي يربطها بنخجوان وضعًا مماثلاً لوضع ممر كالينينجراد، حيث لا يوجد اتصال بري مباشر بين كالينينجراد وروسيا، ويتم النقل عبر ليتوانيا. وتستخدم روسيا ومواطنوها والبضائع الروسية معابر خاصة عبر ليتوانيا للوصول إلى كالينينجراد، وتأمل أذربيجان في الحصول على حل مماثل للوصول إلى نخجوان عبر أرمينيا. وقد أعلن سفير ليتوانيا لدى أرمينيا عن استعداد بلاده لمشاركة خبراتها مع باكو ويريفان لفتح خطوط النقل.
انعكاسات الصراع الأذربيجاني الأرميني.
وفقًا للتقرير الصادر عن الموقع الإخباري التركي سيتا “seta” في 17 سبتمبر/أيلول 2024، إن المحادثات الدبلوماسية الجارية بين أذربيجان وأرمينيا، وإن دلّت على شيء، فإنما تدل على التقارب من السلام، إلا أن استمرار الاشتباكات يكشف مدى هشاشة هذا المسار. وفي هذا السياق، فإن قوة تركيا وأذربيجان وتصميمهما وحزمهما في المنطقة يشكلان شرطًا أساسيًا لتحقيق السلام، حتى في وجه من لا يرغبون فيه.
لو تم تطبيق اتفاقية وقف إطلاق النار التي أنهت حرب قره باغ الثانية، والتي وقع عليها رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان بعد هزيمة بلاده أمام أذربيجان، لما شهدنا التوترات الحالية. صحيح أن الكثير من بنود الاتفاقية قد نُفذت، إلا أن أرمينيا والجماعات الانفصالية التي تدعمها تماطلت في الانسحاب الكامل من الأراضي الأذربيجانية، وسعت إلى تأخير تنفيذ الاتفاقية، والأهم من ذلك كله، بذلت قصارى جهدها لمنع إنشاء ممر زنغزور الذي يمثل مكسبًا استراتيجيًا كبيرًا لأذربيجان والعالم التركي.
ويضيف التقرير أن أذربيجان التزمت من جانبها بشروط الاتفاقية، وعملت بشكل وثيق مع تركيا على إعادة إعمار الأراضي المحررة، وفي الوقت نفسه، أبدت استعدادًا تامًا لتطبيع العلاقات مع أرمينيا وتوقيع اتفاق سلام دائم. وقد دعمت تركيا هذه الجهود من خلال تعيين ممثل خاص لإجراء حوار مع أرمينيا واستئناف الرحلات الجوية المباشرة بين البلدين.
ويؤكد التقرير، أنه كانت هناك تقدمات نحو تحقيق سلام دائم بين أذربيجان وأرمينيا، حيث عقد الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان عدة اجتماعات، بعضها في روسيا وبعضها الآخر في بروكسل برعاية رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل. ومع ذلك، اندلعت هذه الاشتباكات العنيفة قبل أن يتم تنفيذ هذا التكليف والاجتماع المقرر. صحيح أن أرمينيا والجماعات المسلحة التي تدعمها كانت تنفذ أعمال تخريب واستفزازات ضد أذربيجان، مما أدى إلى اشتباكات صغيرة في بعض الأحيان، ولكن هذه الاشتباكات كانت عادة رد فعل أذربيجاني على هذه الأعمال ولم تصل إلى هذا المستوى من التصعيد.
ويطرح التقرير سؤال: لماذا الآن؟
ويجيب، يجتمع في هذه النقطة عدة أسباب:
- السبب الأول هو رغبة الجماعات المتشددة داخل أرمينيا في تعطيل عملية السلام، وعدم قدرة باشينيان أحيانًا على مقاومة هذه المحاولات أو حتى استغلالها سياسيًا في بعض الأحيان.
- السبب الثاني هو صعوبة تقبل هزيمة أرمينيا النكراء في حرب قره باغ الثانية وظهورها الدائم في صورة المتنازل. فمن جهة، انتهت احتلالات استمرت لعقود والتي كان يعتقد أنها ستستمر إلى الأبد بفعل واقع جيوسياسي جديد، ومن جهة أخرى، أصبح استعادة هذا الواقع الجيوسياسي الجديد شبه مستحيل.
- السبب الثالث مرتبط بهذا الواقع الجيوسياسي الجديد. فبعد حرب قره باغ الثانية، أصبح الأذربيجانيون، بدعم من تركيا، يتمتعون بتفوق عسكري مطلق على أرمينيا، ويتسع هذا الفارق يومًا بعد يوم. هذا الأمر دفع بالأذربيجانيين إلى أن يصبحوا أقل تسامحًا مع محاولات أرمينيا لإطالة أمد المفاوضات أو استفزاز أذربيجان لاختبار حدودها، مقارنة بما كان عليه الوضع في السابق.
لقد أصبح من أولويات أذربيجان في الفترة الأخيرة ترسيم الحدود بشكل واضح وإبرام معاهدة سلام، إلى جانب فتح ممر زنجور. ولم يعد الأذربيجانيون يقبلون بتجميد العملية التفاوضية لأي سبب كان، خاصة إذا تم ذلك من خلال أعمال تخريبية أو صراعات حدودية تزيد من التوتر. لهذا السبب، وبعد استعدادات واسعة، رد الجيش الأذربيجاني بقوة على الاستفزاز الأخير.
من سيربح ومن سيخسر إذا تحقق السلام؟
من الواضح أن المعارضين لتحقيق السلام بين أذربيجان وأرمينيا ليسوا فقط من المتشددين في أرمينيا. فبالفعل، إذا تم ترسيخ سلام دائم، فإن العديد من الأطراف الثالثة التي تستفيد من هذه المشكلة ستصبح عاطلة عن العمل أو غير مؤهلة. هنا لا أقصد فقط الشتات الأرمني. بالطبع، ستكون من بين الأكثر تأثراً سلباً من تحقيق السلام هي منظمات الشتات الأرمني. لأن قيام أرمينيا بإبرام سلام مع أذربيجان يعني أيضاً تطبيع العلاقات مع تركيا على أساس حسن الجوار. وفي حال ظهور أرمينيا التي تعقد سلاماً مع أذربيجان وتطبع علاقاتها مع تركيا، فلن يتبقى للشتات أي “قضية” للدفاع عنها واستغلالها، ولا أي كتلة يمكنهم السيطرة عليها وتوجيهها.
من ناحية أخرى، يبدو أن بعض الدول الأخرى غير روسيا ستتأثر سلبًا بوجود بيئة سليمة. في الواقع، ردود الفعل على الصراعات الأخيرة كشفت عن مدى رغبة كل دولة في تحقيق السلام. على سبيل المثال، وضعت إيران حذرها جانبًا بسبب قلقها، وأصدرت تصريحات ضمنية مؤيدة لأرمينيا. يكمن قلق إيران في افتتاح ممر زنغزور الذي سيؤدي إلى ظهور طريق تجاري بديل، وقطع صلاتها بأرمينيا، وتقليل نفوذها على يريفان، والأهم من ذلك، ازدياد الوعي التركي على المستوى الإقليمي. أما فرنسا، التي لم يظهر دورها كرئيس مشارك لمجموعة مينسك، فقد سعت على الفور إلى طرح القضية أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قبل حتى فهم حجم المشكلة، محاولةً استعادة دور لها في هذه العملية.
الأكثر إثارة للاهتمام هي المواقف التي اتخذتها الولايات المتحدة. فما إن اندلعت الاشتباكات حتى تبادل أعضاء الكونغرس إرسال رسائل دعم لأرمينيا، وأعلنت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي عن زيارة إلى يريفان لدعمها. لم تشهد أرمينيا هذا المستوى من الدعم السياسي الأمريكي منذ الحرب الثانية في ناغورنو قره باغ. وعلى الرغم من أن هذا الموقف الأمريكي المؤيد لأرمينيا قد يكون مرتبطاً جزئياً بالانتخابات النصفية التي ستجرى في نوفمبر، إلا أنه لا يجب تجاهل رغبة الولايات المتحدة في استعادة دور مؤثر في هذه الأزمة.
أما الفائزون الحقيقيون في حال تحقيق السلام بين أذربيجان وأرمينيا فهم واضحون. في المقام الأول، ستكون أرمينيا ودولتها وشعبها هم المستفيدون الأكبر من هذه العملية. بالإضافة إلى ذلك، تسعى أذربيجان وتركيا جاهدتين لتحقيق استقرار إقليمي قائم على علاقات حسن الجوار، وهما بالتالي ستكونان رابحتين من هذا السلام.